الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ويبعث لما سوى زكاة الزروع والثمار في المحرم ; لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال في المحرم : " هذا شهر زكاتكم " ; ولأنه أول السنة فكان البعث فيه أولى . والمستحب للساعي أن يعد الماشية [ على أهلها ] على الماء إن كانت الماشية ترد الماء . وفي أفنيتهم إن لم ترد الماء ; لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { تؤخذ صدقات المسلمين عند مياههم أو عند أفنيتهم } فإن أخبره صاحب المال بالعدد وهو ثقة قبل منه . وإن بذل له الزكاة أخذها . ويستحب أن يدعوا له ; لقوله تعالى { : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } ، والمستحب أن يقول : اللهم صل على آل فلان ; لما روى عبد الله بن أبي أوفى { قال : جاء أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة ماله فقال : اللهم صل على آل أبي أوفى } وبأي شيء دعا جاز . قال الشافعي رضي الله عنه أحب أن يقول : " آجرك الله فيما أعطيت وجعله لك طهورا وبارك لك فيما أبقيت " وإن ترك الدعاء جاز ; لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ { : أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم } ولم يأمره بالدعاء ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) : حديث عثمان سبق قريبا ، وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رواه أبو داود والبيهقي وغيرهما ، وهذا لفظ رواية البيهقي ، ( وأما ) لفظ رواية أبي داود ففيها { لا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم } وقوله : في رواية الكتاب { عند مياههم أو عند أفنيتهم } . [ ص: 144 ] قال البيهقي : هو شك من أبي داود الطيالسي أحد الرواة ، ورواه البيهقي أيضا من رواية عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : تؤخذ صدقات أهل البادية على مياههم وبأفنيتهم } ويحتمل أن " أو " في رواية الكتاب ليست للشك كما قاله البيهقي بل للتقسيم كما هو مقتضى حديث عائشة ، ومعناه إن كانت ترد الماء فعلى الماء ، وإلا فعند دورهم . ، وأما حديث ابن أبي أوفى فرواه البخاري ومسلم .

                                      وحديث معاذ رواه البخاري ومسلم أيضا من رواية ابن عباس ومن رواية معاذ .

                                      ( وقوله ) : أفنيتهم جمع فناء بكسر الفاء وبالمد - وهو ما امتد مع جوانب الدار وقوله تعالى { : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم } أي تطهرهم بها من ذنوبهم ، والقراءة المشهورة التي قرأ بها القراء السبعة " تطهرهم " برفع الراء على أنه صفة لا جواب ، وقرئ في غير السبع بالجزم على الجواب . وقوله تعالى وتزكيهم قيل : تصلحهم ، وقيل : ترفعهم من منازل المنافقين إلى منازل المخلصين ، وقيل : تنمي أموالهم " وصل عليهم " أي ادع لهم ، وقرئ في السبع إن صلواتك سكن لهم ، وإن صلاتك سكن لهم أي رحمة ، وقيل : طمأنينة ، وقيل : وقار ، وقيل : تثبيت . واسم أبي أوفى : علقمة بن خالد بن الحارث كنية ابنه : عبد الله أبو محمد ، ويقال : أبو إبراهيم وأبو معاوية الأسلمي ، وأبو أوفى وابنه صحابيان جليلان مشهوران ، وشهد ابنه بيعة الرضوان ، وهو آخر من توفي من الصحابة بالكوفة ، وفي سنة ست ، وقيل : سبع أو ثمان وثمانين من الهجرة رضي الله عنه . رضي الله عنه ، وقوله : ( آجرك الله ) فيه لغتان : قصر الهمزة ومدها ، والقصر أجود ، وطهورا - بفتح الطاء - أي مطهرا ، وقوله : ( آجرك الله فيما أعطيت وجعله لك طهورا ، وبارك لك فيما أبقيت ) أحسن من قوله في التنبيه فإنه وسط قوله وبارك لك فيما أبقيت وتأخيره أولى لتكون الدعوتان الأولتان اللتان من نوع واحد المتعلقتان بالمدفوع متصلتين ، ولا يفصل بينهما ، والله أعلم .

                                      ( أما الأحكام ) ففيه مسائل : ( إحداها ) قال أصحابنا : الأموال ضربان : ( ضرب ) لا يتعلق [ ص: 145 ] بالحول وهو المعشرات فيبعث الإمام الساعي لأخذ زكواتها وقت وجوبها ، وهو إدراكها بحيث يصلهم وقت الجزاز والحصاد ، ( وضرب ) يتعلق بالحول وهو المواشي وغيرها ، فالحول يختلف في حق الناس . قال الشافعي في المختصر والأصحاب : ينبغي للساعي أن يعين شهرا يأتيهم فيه . قال الشافعي والأصحاب : ويستحب أن يكون ذلك الشهر هو المحرم صيفا كان أو شتاء ; لأنه أول السنة الشرعية ، قالوا : وينبغي أن يخرج إليهم قبل المحرم ليصلهم في أوله ، وهذا الذي ذكرناه من تعيين الشهر مستحب ومتى خرج جاز ، هذا هو المذهب ، وبه قطع الأصحاب وفيه وجه شاذ حكاه الرافعي أنه واجب والصواب الأول .



                                      ( الثانية ) : يستحب للساعي عد الماشية على الماء إن كانت ترده ، وإلا فعند أفنيتهم ، ولا يكلفهم ردها من الماء إلى الأفنية ولا يلزمه أن يتبعها في المراعي فإن كان لرب المال ماشيتان عند ماءين أمر بجمعهما عند أحدهما ، وإن كانت لا ترد ماء لكنها تكتفي بالكلأ في الربيع ولا تحضر الأفنية ، فللساعي أن يكلفهم إحضارها إلى الأفنية صرح به المحاملي وغيره وهو مفهوم من نص الشافعي ولو خرج إليها كان أفضل قال أصحابنا : وإذا أخبره صاحبها بعددها وهو ثقة ، فله أن يصدقه ويعمل بقوله ; لأنه أمين ، وإن لم يصدقه أو لم يختبره أو اختبره وصدقه وأراد الاحتياط بعدها عدها ، والأولى أن تجمع في حظيرة ونحوها ، وينصب على الباب خشبة معترضة ، وتساق لتخرج واحدة واحدة ، ويثبت كل شاة إذا بلغت المضيق ، فيقف المالك أو نائبه من جانب ، والساعي أو نائبه من جانب ، وبيد كل واحد منهما قضيب يشير به إلى كل شاة أو يصيبان به ظهرها ونحو ذلك فهو أضبط فإن اختلفا بعد العد وكان الفرض يختلف بذلك أعاد العد .



                                      ( الثالثة ) : إذا أخذ الساعي الزكاة استحب أن يدعو للمالك ; للآية والحديث المذكورين ، ولا يتعين دعاء ، لكن يستحب ما حكاه المصنف عن الشافعي ، وهذا الدعاء سنة وليس بواجب ، هذا هو المذهب وبه قطع المصنف والأصحاب وقال صاحب الحاوي : إن لم يسأله المالك الدعاء لم يجب ، وإن سأله فوجهان : أصحهما : يندب ولا يجب ، والثاني : يجب ، وحكى الحناطي والرافعي وجها أنه يجب مطلقا ; لظاهر القرآن [ ص: 146 ] والسنة ولقول الشافعي في مختصر المزني ، فحق على الوالي إذا أخذ الصدقة أن يدعو له ، ويجيب هذا القائل عن حديث معاذ بأنه كان معلوما عنده ; لأنه كان من حفاظ القرآن ، والآية صريحة فلا يحتاج إلى بيانه له ، كما لم يبين له في هذا الحديث نصب الزكاة لكونها كانت معلومة له ، وهذا الوجه حكاه أصحابنا عن داود وأهل الظاهر ، ووافقونا على أن المالك إذا دفع الزكاة إلى الفقراء لا يلزمهم الدعاء ، فحمل الأصحاب الآية والحديث وكلام الشافعي على الاستحباب قياسا على أخذ الفقراء .



                                      وأما إذا دفع المالك إلى الأصناف دون الساعي ، فالمذهب الصحيح وبه قطع الجمهور أنه [ يستحب لهم أن يدعوا له كما ] يستحب للساعي ، وحكى صاحب البيان عن الشيخ أبي حامد أنه لا يستحب ، وليس بشيء وأما صفة الدعاء فقد ذكرناها ، وقال المصنف : يستحب أن يقول : اللهم صل على آل فلان ، وتابعه على هذا صاحب البيان ، وقال صاحب الحاوي : إن قال : اللهم صل عليهم ، فلا بأس وهذا الذي قالوه خلاف المذهب وخلاف ما قطع به الأكثرون ، فقد صرح الأكثرون بأنه تكره الصلاة على غير الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ابتداء في هذا الموضع وغيره ، وإنما يقال تبعا فيقال : صلى الله على النبي وعلى آله وأزواجه ، ونحو ذلك . وقال المتولي : لا تجوز الصلاة على غير الأنبياء ابتداء ، ومقتضى عبارته التحريم ، والمشهور الكراهة ، وقيل : إنه خلاف الأولى ولا يسمى مكروها فحصل أربعة أوجه :

                                      ( أصحها ) مكروه ، ( والثاني ) حرام ، ( والثالث ) خلاف الأولى ، ( والرابع ) مستحب عند من أخذ الصدقة ، وقد جمع الرافعي كلام إمام الحرمين وسائر الأصحاب فيه ولخصه فقال : قال الأئمة لا يقال : اللهم صل على فلان وإن ورد في الحديث ; لأن الصلاة صارت مخصوصة في لسان السلف بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كما أن قولنا : عز وجل ، مخصوص بالله تعالى ، وكما لا يقال : محمد عز وجل وإن كان عزيزا جليلا ، لا يقال : أبو بكر أو علي صلى الله عليهما وسلم وإن صح المعنى ، قالوا : وإنما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه منصبه ، فله أن يقوله لمن شاء بخلافنا ، قال : وهل ذلك مكروه [ ص: 147 ] كراهة تنزيه أم مجرد ترك أدب ؟ فيه وجهان : ( الصحيح ) الأشهر أنه مكروه ، وبه قطع القاضي حسين والغزالي في الوسيط ، ووجه إمام الحرمين بأن المكروه ما ثبت فيه نهي مقصود ، وقد ثبت نهي مقصود عن التشبه بأهل البدع وقد صار هذا شعارا لهم ، وظاهر كلام الصيدلاني والغزالي في الوجيز أنه خلاف الأولى . وصرح صاحب العدة بنفي الكراهة . وقال : الصلاة بمعنى الدعاء تجوز على كل أحد . أما بمعنى التعظيم فتختص بالأنبياء ولا خلاف أنه يجوز أن يجعل غير الأنبياء تبعا لهم ، فيقال : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته وأتباعه وأصحابه ; لأن السلف استعملوه وأمرنا به في التشهد .

                                      قال الشيخ أبو محمد : والسلام بمعنى الصلاة ، فإن الله تعالى قرن بينهما فلا يفرد به غائب غير الأنبياء ، ولا بأس به على سبيل المخاطبة للأحياء والأموات من المؤمنين ، فيقال : سلام عليكم . هكذا قال : لا بأس به ، وليس بجيد بل الصواب أنه سنة للأحياء والأموات ، وهذه الصيغة لا تستعمل في المسنون ، وكأنه أراد أنه لا يمنع منه في المخاطبة بخلاف الغيبة . وأما استحبابه في المخاطبة فمعروف . والله تعالى أعلم .



                                      ( فرع ) : يستحب الترضي والترحم على الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء والعباد وسائر الأخيار فيقال : رضي الله عنه أو رحمة الله عليه أو رحمه الله ونحو ذلك ، وأما ما قاله بعض العلماء : إن قول رضي الله عنه عنه مخصوص بالصحابة ، ويقال في غيرهم : رحمه الله فقط فليس كما قال ، ولا يوافق عليه ، بل الصحيح الذي عليه الجمهور استحبابه ، ودلائله أكثر من أن تحصر ، فإن كان المذكور صحابيا ابن صحابي قال : قال ابن عمر رضي الله عنهما : وكذا ابن عباس ، وكذا ابن الزبير وابن جعفر وأسامة بن زيد ونحوهم ليشمله وأباه جميعا .




                                      الخدمات العلمية