الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ويجب على الإمام أن يبعث السعاة لأخذ الصدقة ; لأن { النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده كانوا يبعثون السعاة } ; ولأن في الناس من يملك المال ولا يعرف ما يجب عليه ، ومنهم من يبخل ، فوجب أن يبعث من يأخذ ، ولا يبعث إلا حرا عدلا ثقة ; لأن هذا ولاية وأمانة . والعبد والفاسق ليسا من أهل الولاية والأمانة . ولا يبعث إلا فقيها ; لأنه يحتاج إلى معرفة ما يؤخذ وما لا يؤخذ ويحتاج إلى الاجتهاد فيما يعرض من مسائل الزكاة وأحكامها . ولا يبعث هاشميا ولا مطلبيا . ومن أصحابنا من قال : يجوز ; لأن ما يأخذه على وجه العوض . والمذهب الأول ; لما روي { أن الفضل بن العباس رضي الله عنهما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يوليه العمالة على الصدقة فلم يوله . وقال : أليس في خمس الخمس ما يغنيكم عن أوساخ الناس ؟ } وفي مواليهم وجهان : ( أحدهما ) لا يجوز ; لما روى أبو رافع قال : { ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني مخزوم على الصدقة فقال : اتبعني تصب منها . فقلت : حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 141 ] فسألته فقال لي : إن مولى القوم من أنفسهم ، وإنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة } .

                                      ( والثاني ) يجوز ; لأن الصدقة إنما حرمت على بني هاشم وبني المطلب للشرف بالنسب . وهذا لا يوجد في مواليهم . وهو بالخيار بين أن يستأجر العامل بأجرة معلومة ثم يعطيه ذلك من الزكاة . وبين أن يبعثه من غير شرط ثم يعطيه أجرة المثل من الزكاة ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) : أما الحديث الأول وهو بعث النبي صلى الله عليه وسلم فصحيح مشهور مستفيض رواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الصدقة } وفي الصحيحين عن سهل بن سعد { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل ابن اللتبية على الصدقات } والأحاديث في الباب كثيرة وأما حديث الفضل فرواه مسلم من رواية عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب قال : { أتيت أنا والفضل بن العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه أن يؤمرنا على بعض الصدقات فنؤدي إليه كما يؤدي الناس ونصيب كما يصيبون ، فسكت طويلا ثم قال : إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد ، إنما هي أوساخ الناس } وفي رواية لمسلم أيضا { : إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس ، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد } وليس في صحيحه { : أليس في خمس الخمس ما يغنيكم عن أوساخ الناس ؟ } أما حديث أبي رافع فرواه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن صحيح وقول المصنف : " لا يبعث إلا حرا عدلا ثقة " لا حاجة إلى قوله : ثقة ; لأن العدل لا يكون إلا ثقة .

                                      وقوله : " روي أن الفضل " ينكر عليه قوله : روي بصيغة تمريض في حديث صحيح ، وقد سبق التنبيه عن أمثال هذا ، والغرض بتكراره التأكيد في تحفظه ، وقوله : " يوليه العمالة " بفتح العين ، وهي العمل . وأما بضمها فهي المال المأخوذ على العمل ، وليس مرادا هنا .

                                      ( أما الأحكام ) ففيها مسائل : ( إحداها ) قال أصحابنا : يجب على الإمام بعث السعاة لأخذ الصدقات ; لما ذكره المصنف ، والسعاة جمع ساع وهو العامل ، واتفقوا [ ص: 142 ] على أن يشترط فيه كونه مسلما حرا عدلا فقيها في أبواب الزكاة ولا يشترط فقهه في غير ذلك . قال أصحابنا : هذا إذا كان التفويض للعامل عاما في الصدقات ، فأما إذا عين له الإمام شيئا معينا يأخذه فلا يعتبر فيه الفقه . قال الماوردي في الأحكام السلطانية : وكذا لا يعتبر في هذا المعين الإسلام والحرية ; لأنه رسالة لا ولاية ، وهذا الذي قاله من عدم اشتراط الإسلام مشكل والمختار اشتراطه .



                                      ( الثانية ) : هل يجوز كون العامل هاشميا أو مطلبيا ؟ فيه وجهان مشهوران ، ذكر المصنف دليلهما ( أصحهما ) عند المصنف والبغوي وجمهور الأصحاب لا يجوز قال أصحابنا الخراسانيون : هذان الوجهان مبنيان على أن ما يأخذه العامل أجرة أو صدقة ، وفيه وجهان ( إن قلنا ) : أجرة جاز وإلا فلا . وهو يشبه الإجارة من حيث التقدير بأجرة المثل ، ويشبه الصدقة من حيث إنه لا يشترط عقد الإجارة ، ولا مدة معلومة ، ولا عمل معلوم . قال البغوي وآخرون : ويجري الوجهان فيما لو كان العامل من أهل الفيء ، وهم المرتزقة الذين لهم حق في الديوان ، قال صاحب الشامل والأصحاب : والوجهان في الهاشمي والمطلبي هما فيمن طلب على عمله سهما من الزكاة . فأما إذا تبرع بعمله بلا عوض أو دفع الإمام إليه أجرته من بيت المال فإنه يجوز كونه هاشميا أو مطلبيا بلا خلاف . قال الماوردي في الأحكام السلطانية : يجوز كونه هاشميا ومطلبيا إذا أعطاه من سهم المصالح .



                                      ( الثالثة ) : هل يجوز أن يكون العامل من موالي بني هاشم وبني المطلب ؟ فيه وجهان ذكر المصنف دليلهما ( أصحهما ) لا يجوز ، وهذان الوجهان تفريع على قولنا : لا يجوز أن يكون العامل هاشميا ولا مطلبيا ، فأما إذا جوزناه فمولاهم أولى قال الرافعي : ومنهم من حكى هذين الوجهين قولين .



                                      ( الرابعة ) : الإمام بالخيار إن شاء بعث العامل من غير شرط وأعطاه بعد مجيئه أجرة المثل من الزكاة ، وإن شاء استأجره بأجرة معلومة من الزكاة وكلاهما جائز باتفاق الأصحاب .

                                      ( أما ) الأول فللأحاديث [ ص: 143 ] الصحيحة في ذلك ; لأن الحاجة تدعو إليه لجهالة العمل فتؤخر الأجرة حتى يعرف عمله فيعطى بقدره .

                                      ( وأما الثاني ) فهو القياس والأصل ولا شك في جوازه ، قال أصحابنا : وإذا سمى له شيئا فإن شاء سماه إجارة ، وإن شاء جعالة ، ولا يسمي أكثر من أجرة المثل ، فإن زاد فوجهان حكاهما جماعة منهم الدارمي : ( أصحهما ) تفسد التسمية وله أجرة المثل من الزكاة .

                                      ( والثاني ) لا تفسد ، بل يكون قدر أجرة المثل من الزكاة والباقي يجب في مال الإمام ; لأنه صحيح العبارة والالتزام .




                                      الخدمات العلمية