الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      ( فصل ) والقسم السادس من أحكام هذه الإمارة السيرة في نزال العدو وقتاله . ويجوز لأمير الجيش في حصار العدو أن ينصب عليهم العرادات والمنجنيقات . قد { نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الطائف منجنيقا ، ويجوز أن يهدم عليهم منازلهم ويضع عليهم البيات والتحريق ، وإذا رأى في قطع نخلهم وشجرهم صلاحا يستضعفهم به ليظفر بهم عنوة أو يدخلوا في السلم صلحا فعل ، ولا يفعل إن لم ير فيه صلاحا } . قد { قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم كروم أهل الطائف فكان سببا في إسلامهم ، وأمر في حرب بني النضير بقطع نوع من النخل يقال له الأصفر يرى نواه من وراء اللحاء وكانت اللحاء منها أحب إليهم من الوضيع فقطع بهم وحزنوا له وقالوا إنما قطعت نخلة وأحرقت نخلة ، ولما قطع نخلة قال سماك اليهودي في ذلك من المتقارب :

                                      ألسنا ورثنا الكتاب الحكيم على عهد موسى فلم نصرف     وأنتم رعاء لشاء عجاف
                                      بسهل تهامة والأحنف      [ ص: 65 ] يرون الرعاية مجدا لكم
                                      كذا كل دهر بكم مجحف     فيا أيها الشاهدون انتهوا
                                      عن الظلم والمنطق الموكف     لعل الليالي وصرف الدهور
                                      تديل من العادل المنصف     بقتل النضير وإجلائها
                                      وعقر النخيل ولم تخطف

                                      فأجابه حسان بن ثابت من الوافر :

                                      هم أوتوا الكتاب فضيعوه     فهم عمي عن التوراة بور
                                      كفرتم بالقران وقد أتاكم     بتصديق الذي قال النذير
                                      فهان على سراة بني لؤي     حريق بالبويرة مستطير

                                      فلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بهم جل في صدور المسلمين وقالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل لنا فيما قطعنا من أجر ؟ وهل علينا فيما تركناه من وزر ؟ فأنزل الله تعالى : { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين }
                                      } .

                                      وفي " لينة " أربعة أقاويل : أحدها أنها النخلة من أي الأصناف كانت ؟ وهذا قول مقاتل .

                                      والثاني : أنها كرام النخل وهذا قول سفيان .

                                      والثالث : أنه الفسيلة ، لأنها ألين من النخلة .

                                      والرابع : أنها جميع الأشجار للينها بالحياة ، ويجوز أن يغور عليهم المياه ويقطعها عنهم وإن كان فيهم نساء وأطفال ، لأنه من أقوى أسباب ضعفهم والظفر بهم عنوة وصلحا ، وإذا استسقى منهم عطشان كان الأمير مخيرا بين سقيه أو منعه كما كان مخيرا فيه بين قتله أو تركه . ومن قتل منهم واراه عن الأبصار ولم يلزم تكفينه .

                                      قد { أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى بدر فألقوا في القليب ; } ولا يجوز أن يحرق بالنار حيا ولا ميتا .

                                      روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا تعذبوا عباد الله بعذاب الله } . [ ص: 66 ] وقد أحرق أبو بكر رضي الله عنه قوما من أهل الردة ، ولعل ذلك كان منه والخبر لم يبلغه ، ومن قتل من شهداء المسلمين زمل في ثيابه التي قتل فيها ودفن بها ولم يغسل ولم يصل عليه . { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد : زملوهم بكلومهم فإنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دما ، اللون لون الدم والريح ريح المسك } .

                                      وإنما فعل ذلك بهم تكريما لهم إجراء لحكم الحياة في ذلك قال الله تعالى : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } .

                                      وفيه تأويلان : أحدهما أنهم أحياء في الجنة بعد البعث وليسوا في الدنيا بأحياء .

                                      والثاني : وهو قول الأكثرين أنهم بعد القتل أحياء الاستعمال لظاهر النص فرقا بينهم وبين من لم يوصف بالحياة . ولا يمنع الجيوش في دار الحرب من أكل طعامهم وعلوفة دوابهم غير محتسب به عليهم ، ولا يتعدوا القوت والعلوفة إلى ما سواهما من ملبوس ومركوب ، فإن دعتهم الضرورة إلى ذلك كان ما لبسوه أو ركبوه أو استعملوه مسترجعا منهم في المغنم إن كان باقيا ومحتسبا عليهم من سهمهم إن كان مستهلكا ; ولا يجوز لأحد منهم أن يطأ جارية من السبي إلا بعد أن يعطاها بسهمه فيطأها بعد الاستبراء ، فإن وطئها قبل القسمة عزر ولا يحد لأن له فيها سهما ووجب عليه مهر مثلها ويضاف إلى الغنيمة ، فإن أحبلها لحق به ولدها وصارت به أم ولد له إن ملكها . وإن وطئ من لم يدخل في السبي حد ، لأن وطأها زنا ، ولم يلحق به ولدها إن علقت .

                                      فإذا عقدت هذه الإمارة على غزوة واحدة لم يكن لأميرها أن يغزو غيرها سواء غنم فيها أو لم يغنم ، وإذا عقدت عموما عاما بعد عام لزمه معاودة الغزو في كل وقت يقدر على غزو فيه ولا يفتر عنه مع ارتفاع الموانع إلا قدر [ ص: 67 ] الاستراحة وأقل ما يجزيه أن لا يعطل عاما من جهاد ولهذا الأمير إذا فوضت إليه الإمارة على المجاهدين أن ينظر في أحكامهم ويقيم الحدود عليهم وسواء من ارتزق منهم أو تطوع ، ولا ينظر في أحكام غيرهم ما كان سائرا إلى ثغره ، فإذا استقر في الثغر الذي تقلده جاز أن ينظر في أحكام جميع أهله من مقاتلته ورعيته ، وإن كانت إمارة خاصة أجري عليها حكم الخصوص .

                                      التالي السابق


                                      الخدمات العلمية