الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1437 [ ص: 425 ] حديث عاشر لابن شهاب ، عن سعيد مرسل

مالك ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يغلق الرهن .

التالي السابق


هكذا رواه كل من روى الموطأ ، عن مالك فيما علمت إلا معن بن عيسى ، فإنه وصله ( فجعله عن سعيد ) عن أبي هريرة ومعن ثقة إلا أني أخشى أن يكون الخطأ فيه من علي بن عبد الحميد الغضائري .

حدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا علي بن الحسن بن علان ، وأحمد بن محمد بن يزيد الحلبي ، قالا : حدثنا علي بن عبد الحميد الغضائري ، حدثنا مجاهد بن موسى ، حدثنا معن بن عيسى ، عن مالك ، عن الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يغلق الرهن ، وهو لصاحبه . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ، قال : حدثنا محمد بن العباس بن يحيى الحلبي ، قال : حدثنا [ ص: 426 ] علي بن عبد الحميد ، وحدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي ، قال محمد بن العباس بن يحيى الحلبي ، قال : حدثنا أبو بكر بن جعفر ، وعلي بن عبد الحميد ، قالا : حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا معن بن عيسى ، قال : حدثنا مالك ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يغلق الرهن ، وهو من صاحبه . وزاد فيه أبو عبد الله بن عمروس ، عن الأبهري بإسناده : له غنمه وعليه غرمه . وهذه اللفظة قد اختلف الرواة في رفعها فرفعها ابن أبي ذئب ومعمر وغيرهما في هذا الحديث لكنهم رووه مرسلا على اختلاف في ذلك عن ابن أبي ذئب نذكره إن شاء الله . ورواية معن عن مالك موافقة لذلك ، وقد روى ابن وهب هذا الحديث فجوده وبين أن هذا اللفظ ليس مرفوعا . روى سحنون ويونس بن عبد الأعلى ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن ابن وهب ، قال : سمعت مالكا ويونس بن يزيد ، وابن أبي ذئب يحدثون ، عن ابن شهاب ، عن ابن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يغلق الرهن ، وقال : يونس ، قال ابن شهاب : وكان سعيد بن المسيب يقول : الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه فتبين برواية ابن وهب ، عن يونس بن يزيد أن هذا من قول سعيد بن المسيب [ ص: 427 ] فالله أعلم ، إلا أن معمرا ( قد ) ذكره عن ابن شهاب مرفوعا ومعمر من أثبت الناس في ابن شهاب ، وقد تابعه على ذلك يحيى بن أبي أنيسة فرفع هذا اللفظ ووصل الحديث ، عن أبي هريرة ، ويحيى ليس بالقوي ، وقد روي من حديث محمد بن كثير ، ومن حديث زيد بن الحباب ، عن مالك ، عن الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة ، قال : قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يغلق الرهن له غنمه وعليه غرمه ذكر ذلك شيخنا ابن قاسم عن شيوخه عنهما ، وذكره الدارقطني وغيره ، وقد حدثني إسماعيل بن عبد الرحمن قال : حدثنا محمد بن العباس ، فلهذا قال : حدثنا علي بن عبد الحميد ، قال : حدثنا عبد الله بن عمران العابدي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن زياد بن سعيد ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يغلق الرهن له غنمه وعليه غرمه وفيما أخبرني [ ص: 428 ] أبو عبد الله إجازة ، عن علي بن عمر الحافظ ، قال : حدثنا علي بن أحمد بن الفتح الوراق ، حدثنا محمد بن إبراهيم ( بن يعقوب الأنطاكي ، حدثنا محمد بن المبارك الدفع ، حدثنا أحمد بن إبراهيم ) بن أبي سكينة الحبلي ، حدثنا مالك بن أنس ، عن الزهري ، عن سعيد ، وأبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يغلق الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه . وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم ( بن أصبغ ) قال : حدثنا محمد بن أحمد بن زهير ، قال : حدثنا عبد الله بن عمران بن زريق المكي ، قال : حدثنا سفيان ، عن زياد بن سعد ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يغلق الرهن .

وحدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن قال : حدثنا ( محمد ) بن العباس ، قال : حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله الطائي بحمص ، قال : حدثنا محمد بن خالد بن خلي ، قال : حدثنا بقية ، عن إسماعيل بن عياش ، عن عباد يعني ابن كثير ، عن محمد بن عبد الرحمن يعني ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 429 ] قال : لا يغلق الرهن ، لصاحبه غنمه وعليه غرمه .

قال أبو عمر :

أما حديث إسماعيل بن عياش فهذا أصله وقد روي عن إسماعيل بن عياش ، عن ابن أبي ذئب ، ولم يسمعه إسماعيل من ابن أبي ذئب ، وإنما سمعه من عباد بن كثير ، عن ابن أبي ذئب ، وعباد بن كثير عندهم ضعيف لا يحتج به ، وإسماعيل بن عياش ( عندهم ) أيضا غير مقبول الحديث إذا حدث عن غير أهل بلده ، فإذا حدث عن الشاميين فحديثه مستقيم ، وإذا حدث عن المدنيين وغيرهم ما عدا الشاميين ففي حديثه خطأ كثير واضطراب ، ولا أعلم بينهم خلافا أنه ليس بشيء فيما روى عن غير أهل بلده ، وقد اختلفوا فيه إذا روى عن أهل بلده ، والصواب ما ذكرت لك ، إن شاء الله .

وقد روي هذا الحديث ، عن إسماعيل بن عياش ، عن الزبيدي ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو صح عن إسماعيل لكان حسنا [ ص: 430 ] لكن أهل العلم بالحديث يقولون إنه إنما رواه عن ابن أبي ذئب ، ولم يروه عن الزبيدي ، وقد أوضحت لك أصل روايته في هذا الحديث عن ابن أبي ذئب إلا أنه قد روي عن ابن أبي ذئب من وجه صالح غير هذا الوجه . حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثني يحيى بن أبي طالب الأنطاكي ، وجماعة من أهل الثقة ، قالوا : حدثنا عبد الله بن الأنطاكي ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يغلق الرهن ، الرهن لمن رهنه ، له غنمه ، وعليه غرمه .

ورواه عن شبابة هكذا جماعة . وأما رواية ابن عيينة لهذا الحديث متصلا عن زياد بن سعد ، فإن الأثبات من أصحاب ابن عيينة يروونه عن ابن عيينة لا يذكرون فيه أبا هريرة ويجعلونه عن سعيد مرسلا ، وهذا الحديث عند أهل العلم بالنقل مرسل ، وإن كان قد وصل من جهات كثيرة ، فإنهم يعللونها ، وهو مع هذا حديث لا يرفعه أحد منهم ، وإن اختلفوا في تأويله ومعناه وبالله التوفيق .

قال أبو عمر :

الرواية في هذا الحديث لا يغلق الرهن برفع القاف على الخبر أي ليس يغلق الرهن ، ومعناه لا [ ص: 431 ] يذهب ويتلف باطلا ، والأصل في ذلك الهلال ، والنحويون يقولون غلق الرهن إذا لم يوجد له تخلص ، قال امرؤ القيس :


غلقن برهن من حبيب به ادعت سليمى وأمسى حبلها قد تبترا

وقال زهير :


وفارقتك برهن لا فكاك له يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا


وقال آخر وهو قعنب بن أم صاحب ، وهو أحد المنسوبين إلى أمهاتهم ، وهو قعنب بن حمزة أحد بني عبد الله بن غفطان :


بانت سعاد وأمسى دونها عدن وغلقت عندها من قبلك الرهن


وقال آخر :


كأن القلب ليلة قيل يغدى بليلى العامرية أو يراح
[ ص: 432 ] قطاة غرها شرك فباتت تجاذبه وقد غلق الجناح



وقال آخر :


أجارتنا من يجتمع يتفرق ومن يك رهنا للحوادث يغلق



وقال أعشى تغلب :


لما رأى أهلها أنى علقت بها واستيقنوا أننى في حبلها غلق
بانت نواهم شطونا عن هواي لهم فما دلوفي ميسورا ولا رفق



[ ص: 433 ] قال أبو عبيد : لا يجوز في كلام العرب أن يقال للرهن إذا ضاع قد غلق إنما يقال قد غلق إذا استحقه المرتهن فذهب به ، قال : وهذا كان من فعل ( أهل ) الجاهلية ، فأبطله النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : لا يغلق الرهن ، ثم ذكر نحو قول مالك وسفيان في تفسير هذا الحديث وفسر مالك هذا الحديث بأن قال : وتفسير ذلك فيما نرى - والله أعلم - أن يرهن الرجل الرهن عند الرجل بالشيء ، وفي الرهن فضل عما رهن ( به ) فيقول الراهن للمرتهن إن جئتك بحقك إلى أجل كذا يسميه له وإلا فالرهن لك بما فيه ، قال مالك : فهذا لا يصلح ، ولا يحل ، وهذا الذي نهي عنه . وإن جاء صاحبه بالذي رهن فيه بعد الأجل فهو له وأرى هذا الشرط منفسخا ، وعلى نحو هذا فسره الزهري وسفيان الثوري وطاوس وإبراهيم النخعي وشريح القاضي : أخبرنا عبد الله بن محمد بن يحيى ، قال : حدثنا محمد بن يحيى بن عمر ، قال : حدثنا علي بن حرب ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن طاوس ، قال : إذا رهن الرجل الرهن فقال لصاحبه : إن لم آتك إلى كذا وكذا ، فالرهن لك [ ص: 434 ] قال : ليس بشيء ، ولكن يباع فيأخذ حقه ويرد ما فضل ، وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ( عن الزهري ) عن ابن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يغلق الرهن ممن رهنه ، قال معمر : قلت للزهري أرأيت قوله : لا يغلق الرهن أهو الرجل يقول : إن لم آتك بمالك فهذا الرهن لك ، قال : نعم ، قال معمر : ثم بلغني عنه أنه قال : إن هلك لم يذهب حق هذا إنما هلك من رب ( الرهن ) له غنمه وعليه غرمه . وروى عبد الرزاق ، وعبد الملك جميعا ، عن الثوري ، عن ابن أبي ذئب ( عن الزهري ) عن ابن المسيب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يغلق الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه .

زاد عبد الملك ، عن الثوري قال : إن لم يأته بماله ، فلا يغلق الرهن .

قال أبو عمر :

فعلى هذا تفسير أهل العلم في قوله : لا يغلق الرهن أن ذلك إنما قصد به الرهن القائم . أي لا يستغلقه المرتهن فيأخذه بشرطه المذكور إذ قد أبطلت ( ذلك ) الشرط السنة ، وليس ذلك في الرهن يتلف عند المرتهن ، لأن الذي تلف لا يغلق ، لأنه قد ذهب ، وإنما قيل فيما كان باقيا موجودا لا يغلق أي لا يأخذه المرتهن إذا حل الأجل بما له عليه ، ولا [ ص: 435 ] يكون أولى به من صاحبه ، وروى هشيم عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : إذا أقرض الرجل قرضا ورهنه رهنا ، وقال : إن أتيتك بحقك إلى كذا وكذا ( وإلا ) فهو لك بما فيه فقال : ليس هذا بشيء هو رهن على حاله لا يغلق .

قال أبو عمر :

اختلف العلماء قديما وحديثا من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين في الرهن يهلك عند المرتهن ويتلف من غير جنايته ( منه ) ولا تضييع فقال مالك بن أنس ، والأوزاعي ، وعثمان البتي : إن كان الرهن مما يخفى هلاكه نحو الذهب ، والفضة ، والحلي ، والمتاع والثياب ، والسيوف ونحو ذلك مما يغاب عليه ويخفى هلاكه فهو مضمون إذا خفي هلاكه ويترادان الفضل فيما بينهما إن كانت قيمة الرهن ( أكثر من الدين ، ذهب الدين كله ورجع الراهن على المرتهن بفضل قيمة الرهن ، وإن كانت قيمة الرهن ) مثل الدين ذهب بما فيه ، وإن كانت قيمته أقل من الدين رجع المرتهن على الراهن بباقي دينه . إلا أن مالكا ، وابن القاسم يقولان : إن قامت البينة على هلاك ما يغاب عليه ، فليس بمضمون إلا أن يتعدى فيه المرتهن ، أو يضيعه فيضمن ، وقال أشهب : كل ما يغاب على المرتهن خفي هلاكه أو ظهر ، وهو قول الأوزاعي ، والبتي .

قال أبو عمر :

فإن اختلف الراهن والمرتهن في قيمة الرهن فهو باب غير هذا ، ولا يجمل بنا ذكر مسائل الرهون كلها لخروجنا بذلك عن تأليفنا ، وإنما نذكر من المسائل في كتابنا ما كان في معنى الحديث المذكور ، وقد جود [ ص: 436 ] مالك مذهبه في اختلاف الراهن والمرتهن في قيمة الرهن ، وفي مقدار الدين جميعا في كتابه الموطأ ، وقد ذكرنا ما للعلماء من خلافه وموافقته ، ووجه قول كل واحد منهم في كتاب الاستذكار ، والحمد لله .

فإن كان الرهن مما يظهر هلاكه نحو الدار والأرضين والحيوان فهو من مال الراهن ومصيبته منه . والمرتهن فيه أمين ، ودين المرتهن ( فيه ) ثابت على حاله ، هذا كله قول مالك ، وعثمان البتي ، والأوزاعي ، وروى هذا القول الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه . وقال ابن أبي ليلى ، وعبيد الله بن الحسن وإسحاق بن راهويه ، وأبو عبيد : يترادان الفضل بينهما ، مثل قول الأوزاعي ، ومالك ، والبتي سواء .

إلا أنه لا فرق عندهم بين ما يظهر هلاكه وبين ما يغاب عليه عندهم على كل حال حيوانا كان أو غيره هو عندهم مضمون بنفسه يترادان الفضل فيه إن نقصت قيمته عن الدين أو زادت ، والقول قول المرتهن في ذلك إن لم تقم بينة . ويروى هذا القول أو معناه عن علي بن أبي طالب من حديث قتادة ، عن خلاس ، عن علي ، ويروى أيضا ، عن ابن عمر من حديث إدريس الأودي ، عن إبراهيم بن عميرة ، وهو مجهول عن ابن عمر ، وقال الثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والحسن بن حي : إن كان الرهن مثل الدين ، أو أكثر منه فهو بما فيه ، وإن كان [ ص: 437 ] أقل من الدين ذهب من الدين بقدره ورجع المرتهن على الراهن بما نقص ، والرهن بقيمة الدين فما دون ، وما زاد على الدين فهو أمانة ، وروي مثل هذا القول كله أيضا ، عن علي بن أبي طالب من حديث عبد الأعلى ، عن محمد بن الحنفية ، عن علي ، وهو أحسن الأسانيد في هذا الباب عن علي ، وتأويل قوله " له غنمه وعليه غرمه " عند هؤلاء : أبي حنيفة ، وأصحابه ، ومن قال بقولهم - أنه لا يكون للمرتهن ويكون للراهن ، وغنمه عندهم ما فضل من الدين ، وعليه غرمه ما نقص من الدين ، وهذا كله عندهم في سلامة الرهن لا في عطبه على ما تقدم ذكرنا له ، فالرهن عند هؤلاء في الهلاك مضمون بالدين ، لا بنفسه وقيمته ، ومن حجتهم أن المرتهن لما كان أحق به من سائر الغرماء عند الفلس علم أنه ليس كالوديعة ، لأنه لو كان أمانة لم يكن ( المرتهن ) أحق به ، وقال : شريح ، وعامر الشعبي وغير واحد من الكوفيين : يذهب الرهن بما فيه كانت قيمته مثل الدين أو أكثر ( منه ) أو أقل ، ولا يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء ، وهو قول الفقهاء السبعة المدنيين إلا أنهم إنما يجعلونه بما فيه إذا هلك ، وعميت قيمته ، ولم تقم بينة على ما فيه ، وإن قامت بينة على ما فيه ترادا الفضل وهكذا ، قال الليث بن سعد : مذهبه في هذا ومذهب السبعة سواء .

قال الليث : وبلغني ذلك [ ص: 438 ] عن علي بن أبي طالب ، والحيوان عند الليث لا يضمن إلا أن يتهم المرتهن في دعوى الموت والإباق . وقال الليث : يكون بالموت ظاهرا معلوما ، قال : فإن أعلم المرتهن الراهن بإباقه أو موته ، أو أعلم السلطان إن كان صاحبه غائبا حلف وبرئ ، وقالت طائفة من أهل الحجاز ، منهم سعيد بن المسيب ، والزهري ، وعمرو بن دينار ومسلم بن خالد ، والشافعي ، وهو قول أحمد بن حنبل ، وأبي ثور ، وعامة أصحاب الأثر وداود بن علي : الرهن كله أمانة قليله وكثيره ما يغاب عليه منه وما يظهر ، إذا ذهب من غير جناية المرتهن فهو من مال الراهن ، ولا يضمن إلا بما يضمن به الودائع وسائر الأمانات ، ودين المرتهن ثابت على حاله ، قالوا : والحيوان في ذلك ، والعقار ، والحلي ، والثياب وغير ذلك سواء .

وحجتهم في ذلك حديث سعيد ( بن المسيب ) عن أبي هريرة ، قالوا : وهو مرفوع صحيح ، عن الرهن ممن رهنه ، له غنمه وعليه غرمه . وقد وصله قوم عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، قالوا : وهو مرفوع صحيح ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومراسيل سعيد عندهم صحاح ، ومعنى قوله له غنمه أي : له غلته ورقبته وفائدته كلها ، وعليه غرمه : فكاكه ومصيبته ، فعلى هذا المعنى هذا القول عندهم غنمه لصاحبه وغرمه عليه ، قالوا : والمرتهن [ ص: 439 ] ليس بمعتد في حبسه فيضمن ، وإنما يضمن من تعدى ، والأمانة بغير التعدي ، فهو عند هؤلاء كله أمانة ، وعند أبي حنيفة وأصحابه ما زاد على قيمته فأمانة ، وعند مالك ما لا يغاب عليه أمانة إلا بما تضمن به الأمانات من التعدي والتضييع ، وكذلك ما يغاب عليه إذا ظهر هلاكه لم يجب على المرتهن ، والفرق بين ما يغاب عليه ، وما لا يغاب عليه في المشهور من مذهب مالك وأصحابه أن ما لا يغاب عليه من الرهون كالحيوان وشبهه والعقار ومثله إذا ادعى المرتهن هلاكه ولم يتبين كذبه قبل قوله ، وإذا ادعى هلاك ما قد غاب عليه عند نفسه لم يقبل قوله فيه ، لأنه إنما أخذه وثيقة لنفسه ، ولم يأخذه وديعة ليحفظه على ربه ، فلا يقبل قوله في ضياعه إلا ببينة وأمر ظاهر وتلزمه قيمته يقاص بها من دينه . والقول قوله مع يمينه في قيمته إن نزل فيها اختلاف بينهما وعميت ، ويترادان الفضل في ذلك ، ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - له غنمه عند مالك وأصحابه أي له غلته وخراج ظهره وأجرة عمله ، ومعنى قوله غرمه أي نفقته ، ليس الفكاك والمصيبة ، قالوا : لأن الغنم إذا كان الخراج والغلة ، كان الغرم ما قابل ذلك من النفقة ، قالوا : والأصل أن المرتهن غير مؤتمن ولا متعد فيضمن ما خفي هلاكه من حيث ضمنه المستعير سواء .

، وفي معنى قوله : له غنمه وعليه غرمه قوله : الرهن مركوب ومحلوب أي : أجرة ظهره لربه وكسبه له ، ولا [ ص: 440 ] يجوز أن يكون ذلك للمرتهن ، لأنه ربا من أجل الدين الذي له ، ولا يجوز أن يلي الراهن ذلك ، لأنه مقبوض حينئذ ، والرهن لا بد أن يكون مقبوضا ، ولو ركبه لخرج من الرهن . فقف على هذا كله فهو مذهب مالك وأصحابه . وفرق مالك بين الولد والخراج فجعل ولد الأمة وسخل الماشية رهنا مع الأمهات كما هي في الزكاة تبعا للأمهات وليس كذلك صوفها ولبنها ولا ثمر الأشجار ، لأنها ليست تبعا لأصولها في الزكاة ، ولا هي في صورتها ( ولا معناها ) ولا تقوم مقامها ولها حكم نفسها ( لا حكم الأصل ) وليس كذلك الولد والسخل - والله أعلم بصواب ذلك - ) .




الخدمات العلمية