الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( إذا حال الحول على عرض التجارة ، وجب تقويمه لإخراج الزكاة ، فإن اشتراه بنصاب من الأثمان قوم به ; لأنه فرع لما اشترى به فوجب التقويم به ، وإن اشتراه بعرض للقنية قوم بنقد البلد ; لأنه لا يمكن تقويمه بأصله فوجب تقويمه بنقد البلد ، فإن كان في البلد نقدان قوم بأكثرهما معاملة ، وإن كانا متساويين نظرت فإن كان بأحدهما يبلغ نصابا وبالآخر لا يبلغ نصابا ، قوم بما يبلغ به ; لأنه قد وجد نصاب تتعلق به الزكاة فوجب التقويم به ، وإن كان يبلغ بكل واحد منهما نصابا ففيه أربعة أوجه .

                                      ( أحدها ) : أنه يقوم بما شاء منهما ، وهو قول أبي إسحاق ، وهو الأظهر ; لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر فخير بينهما .

                                      ( والثاني ) : يقوم بما هو أنفع للمساكين كما إذا اجتمع في النصاب فرضان أخذ ما هو أنفع للمساكين .

                                      ( والثالث ) : يقوم بالدراهم ; لأنها أكثر استعمالا ( والرابع ) : يقوم بنقد أقرب البلاد إليه ; لأن [ ص: 23 ] النقدين تساويا فجعلا كالمعدومين ، فإن قومه ثم باعه بزيادة على قيمته قبل إخراج الزكاة ففيه وجهان .

                                      ( أحدهما ) : لا يلزمه زكاة تلك الزيادة ; لأنها زيادة حدثت بعد الوجوب فلم تلزمه زكاتها كالسخال الحادثة بعد الحول .

                                      ( والثاني ) : تلزمه ; لأن الزيادة حصلت في نفس القيمة التي تعلق بها الوجوب ، فهو بمنزلة الماشية إذا سمنت بعد الحول ، فإنه يلزمه إخراج فرض سمين ، وإن اشتراه بما دون النصاب من الأثمان ففيه وجهان .

                                      ( أحدهما ) : يقوم بنقد البلد ; لأنه ملكه بما لا تجب فيه الزكاة فأشبه إذا ملكه بعرض للقنية .

                                      ( والثاني ) : أنه يقوم بالنقد الذي اشتراه به ; لأنه أصل يمكن أن يقوم به فيقوم به كما لو كان نصابا ، فإن حال الحول على العرض فقوم فلم يبلغ النصاب ، لم تجب فيه الزكاة .

                                      فإن زادت قيمته بعد الحول بشهر فبلغت نصابا ففيه وجهان : قال أبو إسحاق : لا تجب الزكاة حتى يحول عليه الحول الثاني من حين حال الحول الأول ; لأن الحول يبتدئ من حين الشراء ، وقد تم الحول وهو ناقص عن النصاب ، فلم تتعلق به الزكاة ، وقال أبو علي بن أبي هريرة : إذا بلغت قيمته نصابا بعد شهر وجبت فيه الزكاة ; لأنه مضى عليه حول بعد الشراء بشهر وهو نصاب ، فوجبت فيه الزكاة ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) قال أصحابنا رحمهم الله : إذا حال الحول على عرض التجارة وجب تقويمه لإخراج الزكاة ، قال أصحابنا : إذا أراد التقويم فلرأس المال أحوال : ( أحدها ) : يكون نقدا نصابا بأن اشترى عرضا بمائتي درهم أو عشرين دينارا فيقوم في إخراجه برأس المال ، فإن بلغ به نصابا زكاه وإلا فلا ، فلو نقص به عن النصاب وبلغ بنقد البلد نصابا ، فلا زكاة حتى لو اشترى بمائتي درهم عرضا فباعه بعشرين دينارا - وقصد التجارة مستمر - فحال الحول والدنانير في يده وهي نقد البلد - ولا تبلغ قيمتها بالدراهم مائتي درهم - فلا زكاة ، هذا هو المذهب ، وبه قطع جماهير الأصحاب المتقدمين والمتأخرين .

                                      وحكى صاحب [ ص: 24 ] التقريب ( قولا غريبا ) : أن التقويم أبدا يكون بغالب نقد البلد ، سواء أكان رأس المال نقدا أم لا . وحكى الشيخ أبو حامد والماوردي والروياني وصاحب " البيان " وغيرهم : هذا وجها عن ابن الحداد ، وهو مذهب أبي حنيفة ، واحتج له بالقياس على ما لو أتلف على غيره شيئا متقوما ، فإنه يقوم بنقد البلد لا بما اشتراه به . واحتج الأصحاب للمذهب بأن العرض فرع لما اشتراه به ، وإذا أمكن تقويمه بأصله كان أولى بخلاف المتلف ، فإنه لا أصل له فوجب تقويمه بنقد البلد .

                                      ( الحال الثاني ) : أن يكون نقدا دون نصاب فوجهان : ( أصحهما ) عند الأصحاب : يقوم برأس المال ; لما ذكرناه في الحال الأول .

                                      ( والثاني ) : يقوم بنقد البلد ، وهو قول أبي إسحاق المروزي ; لأنه لا يبنى حوله على حوله ، فهو كما لو اشتراه بعرض .

                                      قال البغوي والرافعي : وموضع الوجهين ما إذا ملك من جنس رأس المال ما يتم به النصاب ، فإن ملك بأن اشترى بمائة درهم عرضا وهو حينئذ يملك مائة أخرى ، فلا خلاف أن التقديم يكون برأس المال ; لأنه اشترى ببعض ما انعقد عليه الحول ، وابتداء الحول من ملك الدراهم ، ( قلت ) : ويجيء فيه القول الذي حكاه صاحب " التقريب " .

                                      ( الحال الثالث ) : أن يملك بالنقدين جميعا وهذا ثلاثة أضرب .

                                      ( أحدها ) : أن يكون كل واحد منهما نصابا فيقوم بهما جميعا على نسبة التقسيط يوم الملك ، وطريقة تقويم أحد النقدين بالآخر مثل ما لو اشترى العرض بمائتي درهم وعشرين دينارا ، فينظر إن كانت قيمة الدراهم عشرين دينارا ، فنصف العرض مشترى بدنانير ونصفه بدراهم ، وإن كانت قيمة الدراهم عشرة دنانير فثلثاه مشترى بدراهم ، وثلثه مشترى بدنانير ، وهكذا يقوم في آخر الحول ولا يضم أحدهما إلى الآخر ، فإن نقص كل واحد منهما في آخر الحول عن النصاب فلا زكاة ، [ ص: 25 ] وإن كان بحيث لو قوم بأحدهما لبلغ نصابا ; لما سبق في باب زكاة الذهب والفضة : أنه لا يضم أحدهما إلى الآخر ، ويكون حول كل واحد منهما من حين ملك ذلك النقد .

                                      ( والضرب الثاني ) : أن يكون كل واحد منهما دون النصاب ، فإن قلنا بقول أبي إسحاق : إن ما دون النصاب كالعرض يقوم الجميع بنقد البلد ، وإن قلنا بالأصح : إنه كالنصاب ، فوجهان حكاهما الماوردي .

                                      ( أصحهما ) وبه قطع الجمهور : يقوم ما قابل الدراهم بدراهم ، وما قابل الدنانير بدنانير .

                                      ( والثاني ) : يقوم الجميع بالدراهم ; لأنه الأصل ونصوص زكاتها صريحة .

                                      ( الضرب الثالث ) : أن يكون أحدهما نصابا والآخر دونه ، فيقوم ما ملكه بالنقد الذي هو نصاب برأس ماله ، وما ملكه بالنقد الآخر ، فيه ثلاثة أوجه .

                                      ( أصحها ) : برأس ماله .

                                      ( والثاني ) : بغالب نقد البلد .

                                      ( والثالث ) : أنه إن كان فضة قوم بها وإن كان ذهبا قوم بالفضة أيضا ، وهو الوجه المحكي قريبا عن الماوردي ، قال أصحابنا : ويقوم كل واحد منهما في آخر حوله ، ويكون حول الذي ملكه بنصاب من حين ملك ذلك النصاب ، وحول المملوك بما دون النصاب من حين ملك العرض ، وإذا اختلف جنس المقوم به فلا ضم .

                                      ( الحال الرابع ) : أن يكون رأس المال غير نقد ، بأن ملك العرض بغرض قنية أو ملكه بخلع أو نكاح بقصد التجارة ، وقلنا بالمذهب : إنه يصير مال تجارة فيقوم في آخر الحول بنقد البلد ، فإن كان في البلد نقدان فينظر ، فإن كان أحدهما أغلب قوم بالأغلب ، نص عليه الشافعي ، واتفق عليه الأصحاب ، سواء أكان دراهم أو دنانير .

                                      فإن بلغ به نصابا وجبت زكاته ، وإن نقص به عن النصاب وبلغ بنقد آخر غير الغالب نصابا فلا زكاة بالاتفاق . ولو كان في البلد نقدان متشابهان في الرواج ليس أحدهما أغلب من الآخر ، فإن بلغ بأحدهما نصابا دون الآخر ، [ ص: 26 ] قوم بما بلغ به بلا خلاف ، وإن بلغ كل واحد منهما نصابا ففيه أربعة أوجه حكاها المصنف والأصحاب .

                                      ( أصحها ) عند المصنف والبندنيجي وآخرين من الأصحاب - وهو قول أبي إسحاق المروزي - : يتخير المالك فيقوم بما شاء منهما ; لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر .

                                      ( والثاني ) : يقوم بالأنفع للمساكين ، كما سبق في اجتماع الحقاق وبنات اللبون .

                                      ( والثالث ) : يتعين التقويم بالدراهم ; لأنها أكثر استعمالا ; ولأنها أرفق ، وهو قول ابن أبي هريرة ، واحتج له : بأن الدراهم ثبتت زكاتها بالنصوص المتواترة بخلاف الذهب ، قال القاضي أبو الطيب : هذا الاستدلال باطل ; لأن زكاة الذهب ثابتة بالإجماع ، فلا فرق بينهما .

                                      ( والرابع ) : يقوم بالنقد الغالب في أقرب البلاد إليه ; لأنهما تعارضا فصارا كالمعدومين ، فانتقل إلى أقرب البلاد .

                                      ( الحال الخامس ) : أن يكون رأس المال نقدا أو غيره ، بأن اشترى بمائتي درهم عبد قنية فما قابل الدراهم يقوم بها ، وما قابل العبد يقوم بنقد البلد ، فإن كان النقد دون نصاب عاد الوجهان .

                                      ( الأصح ) : يقوم برأس ماله .

                                      ( والثاني ) : بغالب نقد البلد . قال البغوي والرافعي : وكما يجري التقسيط عند اختلاف الجنس ، يجري عند اختلاف الصفة ، بأن اشترى بنصاب دنانير بعضها صحاح وبعضها مكسرة وبينهما تفاوت ، فيقوم ما يخص الصحيح وما يخص المكسور ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) إذا قوم العرض في آخر الحول ثم باعه بزيادة على قيمته ، فإن كان البيع بعد إخراج الزكاة فلا شيء عليه في هذه الزيادة عن الحول الأول ، ولكنها تضم إلى المال في الحول الثاني ، وإن كان البيع قبل إخراج الزكاة فوجهان مشهوران حكاهما المصنف والأصحاب ( أحدهما ) : يلزمه زكاة الزيادة ; لأنها حصلت في نفس القيمة التي تعلق بها الوجوب ، فأشبهت الماشية إذا سمنت بعد الحول قبل إخراج [ ص: 27 ] الزكاة ، فإنه تلزمه سمينة بلا خلاف .

                                      ( وأصحهما ) عند القاضي أبي الطيب والأصحاب : لا تلزمه زكاة الزيادة ; لأنها حدثت بعد الوجوب فلم يلزمه زكاتها كالسخال الحادثة بعد الحول ، ، ويخالف السمن فإنه وصف تابع . ولو نقصت القيمة بعد أن قومها بعد الحول ، فباعها بنقص عما قومها به نظر إن نقصت نقصا يسيرا ، وهو القدر الذي يتغابن الناس به ، لم تلزمه إلا زكاة ما بيع به ; لأن هذا قيمته . وإن نقصت نقصا كثيرا لا يتغابن الناس به ، بأن قومها بأربعين دينارا ثم نقصت فباعها بخمسة وثلاثين ، لزمه زكاة الأربعين التي قوم بها ; لأن هذا النقص بتفريطه . هكذا فصله أصحابنا ، وكذا نقله عنهم القاضي أبو الطيب وصاحب البيان " .



                                      ( فرع ) إذا حال الحول على العرض فقوم فلم يبلغ قيمته نصابا ، فلا زكاة في الحال بلا خلاف ، فإن زادت قيمته فبلغت بعد ذلك نصابا ففيه وجهان مشهوران حكاهما المصنف والأصحاب : ( أحدهما ) وحكاه القاضي أبو الطيب عن أبي هريرة والماسرجسي : تلزمه الزكاة عند تمام النصاب ، فيخرج عن الماضي ، ويكون ابتداء الحول الثاني من هذا الوقت ، وقد زاد الحول الأول ; لأنها إذا وجب في اثني عشر شهرا ففي أكثر أولى .

                                      ( والثاني ) : وهو الأصح عند القاضي أبي الطيب والأصحاب ، وبه قال أبو إسحاق المروزي : لا تجب الزكاة حتى يحول حول ثان ، من حين حال الحول الأول ; لأن الحول الأول انقضى ولا زكاة فيه ، فوجب أن لا يجب شيء حتى يتم الحول الثاني .

                                      ثم إن المصنف وشيخه القاضي ومن تبعهما فرضوا المسألة فيما إذا زاد قيمته فبلغت نصابا بعد الحول بشهر ونحوه ، وقال صاحب " البيان " : متى زادت بعد الحول الأول وقبل تمام الثاني ففيه وجهان .




                                      الخدمات العلمية