الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( إذا باع عرض التجارة في أثناء الحول بعرض للتجارة ، لم ينقطع الحول ; لأن زكاة التجارة تتعلق بالقيمة وقيمة الثاني وقيمة الأول واحدة ، وإنما انتقلت من سلعة إلى سلعة فلم ينقطع الحول ، كمائتي [ ص: 16 ] درهم انتقلت من بيت إلى بيت ، وإن باع العرض بالدراهم أو الدنانير نظرت ، فإن باعه بقدر قيمته بنى حول الثمن على حول العرض ، كما يبنى حول العرض على حول الثمن ، وإن باعه بزيادة مثل أن يشتري العرض بمائتين فباعه في أثناء الحول بثلاثمائة ففيه طريقان ، من أصحابنا من قال : يزكي المائتين لحولها ، ويستأنف ( الحول للزيادة ) قولا واحدا .

                                      وقال أبو إسحاق في الزيادة قولان . [ أحدهما ] : يزكيها لحول الأصل ; لأنه نماء الأصل فيزكي بحول الأصل كالسخال .

                                      ( والثاني ) : يستأنف الحول بها ; لأنها فائدة غير متولدة مما عنده فلا يزكي بحوله ، كما لو استفاد الزيادة بإرث أو هبة ، فإذا قلنا : يستأنف الحول للزيادة ففي حولها وجهان .

                                      ( أحدهما ) : من حين ينض ; لأنه لا يتحقق وجودها قبل أن ينض .

                                      ( والثاني ) : من حين يظهر وهو الأظهر ; لأنه قد ظهر ، فإذا نض علمنا أنه قد ملكه من ذلك الوقت .

                                      فإن كان عنده نصاب من الدراهم فباعه بالدراهم أو بالدنانير فإن فعل ذلك لغير التجارة ، انقطع الحول فيما باع ، واستقبل الحول فيما اشترى ، وإن فعله للتجارة كما يفعل الصيارف ففيه وجهان .

                                      ( أحدهما ) : ينقطع الحول ; لأنه مال تجب الزكاة في عينه فانقطع الحول فيه بالمبادلة كالماشية .

                                      ( والثاني ) : لا ينقطع الحول ; لأنه باع مال التجارة [ بمال ] للتجارة ، فلم ينقطع الحول ، [ كما ] لو باع عرضا بعرض ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) قوله : ينض بكسر النون وفتح الياء ، وفي الفصل مسائل : ( إحداها ) إذا باع عرض التجارة بعرض للتجارة لم ينقطع الحول بلا خلاف ; لما ذكره المصنف ; ولأن هذا شأن التجارة .

                                      ( الثاني ) إذا باع العرض بدراهم أو دنانير في أثناء الحول ، فإن باعه بقدر قيمته وهي رأس المال ، بنى حول الثمن على حول العرض بلا خلاف ، كما بنى حول العرض على حول الثمن ، وإن باعه [ ص: 17 ] بزيادة بأن اشتراه بمائتي درهم فباعه في أثناء الحول بثلاثمائة ، ففيه طريقان مشهوران ذكرهما المصنف بدليليهما .

                                      ( أصحهما ) عند الأصحاب ، وبه قال أكثر أصحابنا المتقدمين : أن المسألة على قولين .

                                      ( أصحهما ) عند الأصحاب : أنه يزكي المائتين لحولها ، ويفرد الربح بحول .

                                      ( والثاني ) : يزكي الجميع بحول الأصل ، ( والطريق الثاني ) وبه قال أبو علي بن أبي هريرة وحكاه عنه الماوردي : أنه يفرد الربح قولا واحدا ، فإذا قلنا : يفرد الربح بحول ، ففي ابتدائه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليليهما ( أصحهما : ) من حين النضوض .

                                      ( والثاني ) : من حين الظهور .

                                      . وهذا الوجه قول ابن سريج ، والأول هو الأصح عند المصنف والأصحاب ، وهو ظاهر نص الشافعي . هذا إذا أمسك الناض حتى تم الحول ، فلو اشترى به سلعة للتجارة قبل الحول وحال عليها الحول ، فطريقان حكاهما إمام الحرمين وغيره .

                                      ( أحدهما ) وهو المذهب : أنه كما لو أمسك الناض ، فيكون على الطريقين .

                                      ( والثاني ) : القطع بأنه يزكي الجميع بحول الأصل . هذا كله إذا نض قبل تمام الحول ، فلو نض بعده نظر إن ظهرت الزيادة قبل تمام الحول ، زكى الجميع بحول الأصل بلا خلاف ، وإن ظهرت بعد تمامه فوجهان حكاهما الرافعي .

                                      ( أحدهما ) : كهذا ، ( والثاني ) وهو الأصح : يستأنف للربح حولا .

                                      هذا كله إذا صار المال ناضا من جنس رأس المال ، بأن كان رأس المال دراهم فباعه بدراهم ، أما إذا صار ناضا من غير جنسه ، بأن كان رأس المال دراهم فباع العرض بدنانير فيقومها إذا انقضى الحول بالدراهم ، ويزكي ربحها لحول الأصل قولا واحدا ، كما سنذكره في العرض إن شاء الله تعالى ; لأن رأس المال إذا كان دراهم لا يقوم في آخر الحول إلا بها ، فالدنانير كالعرض . هكذا قطع به البغوي والأكثرون ، ونقله الرافعي عن الجمهور .

                                      ثم قال : وقيل في ضم الربح إلى حول الأصل : الطريقان السابقان ، فيما إذا كان الناض من جنسه ، والمذهب : الأول . هذا كله إذا نض مال التجارة وفيه ربح . [ ص: 18 ] أما إذا حصل ربح في قيمة العرض ، ولم ينض بأن اشترى عرضا بمائتين ولم ينض حتى تم الحول وهو يساوي ثلاثمائة ، فيحسب زكاة ثلاثمائة عند تمام حول رأس المال بلا خلاف ، سواء أكانت الزيادة في نفس العرض كثمن العبد والجارية والدابة وكبر الشجرة وغيرها أو بارتفاع السوق ، وسواء أكانت الزيادة في القيمة حاصلة يوم الشرى أو حدثت قبل الحول بزمن طويل أو قصير ، حتى يوم واحد أو لحظة ، ففي كل هذا يضم الربح إلى الأصل ، ويزكى الجميع لحول الأصل بلا خلاف . هكذا صرح به البغوي وسائر الأصحاب .

                                      ونقل القاضي أبو الطيب في " المجرد " وإمام الحرمين وصاحب " البيان " : اتفاق الأصحاب عليه ، واحتجوا بأنه نماء في السلعة فأشبه النتاج في الماشية .

                                      قال إمام الحرمين : حكى الأصحاب القطع بهذا ، لكن من يعتبر النصاب في جميع الأحوال قد لا يسلم وجوب الزكاة في الربح في آخر الحول ، ومقتضاه أن يقول : ظهور الربح في أثنائه كنضوضه ، فيكون فيه الخلاف السابق ، قال : وهذا لا بد منه . قال الرافعي : والمذهب ما سبق ( قلت ) : وهو كما قال الرافعي .

                                      وهذا الذي أبداه إمام الحرمين احتمال ضعيف ; لأن هذا المعنى موجود في النتاج ، فإن النصاب معتبر في الماشية في جميع الحول بالاتفاق ، والنتاج مضموم إلى الأصل ، والله أعلم . أما إذا ارتفعت قيمة العرض بعد انقضاء الحول فالربح مضموم إلى الأصل في الحول الثاني ، لا في الأول كالنتاج . وهذا لا خلاف فيه ، صرح به البغوي وآخرون ، والله أعلم .



                                      ( المسألة الثانية ) إذا كان عنده نصاب من الذهب والفضة للقنية فباعه في أثناء الحول بنصاب من جنسه أو من الجنس الآخر ، فإن لم يقصد به التجارة انقطع الحول بلا خلاف ، كما لو بادل [ ص: 19 ] بالماشية ، ثم إن لم يقصد الفرار من الزكاة فلا كراهة ، وإن قصده كره كراهة تنزيه على المذهب . وقيل : تحريم ، وقد سبقت المسألة في باب زكاة الثمار ، وإن باعه بقصد التجارة كالصيرفي ونحوه فوجهان مشهوران . ذكرهما المصنف بدليليهما : ( أصحهما ) عند الأصحاب - وهو ظاهر نص الشافعي - : ينقطع الحول في البيع ويستأنف حولا لما اشتراه ، فإن باع الثاني قبل حوله للتجارة انقطع حوله ، واستأنف حولا آخر لما اشتراه ، وهكذا أبدا .

                                      ( والوجه الثاني ) : لا ينقطع الحول ، بل يبنى الثاني على حول الأول ، وهذا قول أبي إسحاق المروزي وصححه الشاشي والصحيح : ما سبق ، ثم إن المصنف والجمهور حكوهما وجهين كما سبق ، وحكاهما البغوي قولين ، فقال : الجديد ينقطع ، والقديم لا ينقطع .



                                      فرع لابن الحداد وشرحه الأصحاب ، قال أصحابنا رحمهم الله : إذا ملك عشرين دينارا فاشترى بها عرضا للتجارة ثم باعه بعد ستة أشهر من ابتداء الحول بأربعين دينارا واشترى بها سلعة أخرى ، ثم باعها بعد تمام الحول بمائة دينار ، فإن قلنا : إن الربح من الناض لا نفرده لحول ، فعليه زكاة جميع المائة لحول الأصل ، وإن قلنا : نفرد ، فعليه زكاة خمسين دينارا ; لأنه اشترى السلعة الثانية بأربعين ، منها عشرون رأس ماله الذي مضى عليه ستة أشهر ، وعشرون ربح استفاده يوم باع الأول ، فإذا مضت ستة أشهر فقد تم الحول على نصف السلعة فيزكيه بزيادته ، وزيادته ثلاثون دينارا ; لأنه ربح للعشرين ستين ، وكان ذلك كامنا وقت تمام الحول ، ثم إذا مضت ستة أشهر أخرى فعليه زكاة العشرين الثانية ، فإن حولها حينئذ ، ولا يضم إليها ربحها ; لأنه صار ناضا قبل تمام حولها ، فإذا مضت ستة أشهر أخرى فعليه زكاة ربحها وهي الثلاثون الباقية ، فإن كانت الخمسون التي أخرج زكاتها في الحول الأول باقية عنده فعليه [ ص: 20 ] زكاتها أيضا للحول الثاني مع الثلاثين ، هذا الذي ذكرناه هو قول ابن الحداد تفريعا على أن الناض لا يفرد ربحه بحول .

                                      وحكى الشيخ أبو علي وجهين آخرين ضعيفين ضعفهما إمام الحرمين والأصحاب .

                                      ( أحدهما ) : يخرج عند البيع الثاني زكاة عشرين ، فإذا مضت ستة أشهر أخرج زكاة عشرين أخرى ، وهي التي كانت ربحا في الحول الأول ، فإذا مضت ستة أشهر أخرج زكاة الستين الباقية ; لأنها إنما استقرت عند البيع الثاني ، فمنه يبتدئ حولها فيه ( والوجه الآخر ) : أنه عند البيع الثاني يخرج زكاة عشرين ، ثم إذا مضت ستة أشهر زكى الثمانين الباقية ; لأن الستين التي هي ربح حصلت في حول العشرين التي هي الربح الأول فضمت إليها في الحول .

                                      ولو كانت المسألة بحالها لكنه لم يبع السلعة الثانية فيزكي عند تمام الحول الأول خمسين كما ذكرنا ، وعند تمام الحول الثاني الخمسين الثانية ; لأن الربح الأخير ما صار ناضا .



                                      ولو اشترى بمائتين عرضا فباعه بعد ستة أشهر بثلاثمائة واشترى بها عرضا آخر وباعه بعد تمام الحول بستمائة ، فإن لم يفرد الربح بحول أخرج زكاة ستمائة ، وإن أفردناه أخرج زكاة أربعمائة ، فإذا مضت ستة أشهر زكى مائة ، فإذا مضت ستة أشهر أخرى زكى المائة الباقية .

                                      هذا على قول ابن الحداد وهو المذهب ، وأما على الوجهين الآخرين فيزكي عند البيع الثاني مائتين ، ثم على الوجه الأول : إذا مضت ستة أشهر زكى مائة ، ثم إذا مضت ستة أخرى زكى ثلاثمائة ، وعلى الوجه الثاني إذا مضت ستة أشهر من البيع الثاني زكى الأربعمائة الباقية ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) ذكره البندنيجي وصاحب " الشامل " والبيان " وغيرهم : لو كان معه مائة درهم فاشترى عرضا للتجارة بخمسين منها ، فبلغت قيمته في آخر الحول مائة وخمسين ، وقلنا بالمذهب : إنه ينعقد الحول على ما دون النصاب لزمه زكاة الجميع ، فلو اشترى العرض بمائة ، [ ص: 21 ] فلما مضت ستة أشهر استفاد خمسين درهما من جهة أخرى ، فلما تم حول العرض كانت قيمته مائة وخمسين ، فلا زكاة ; لأن الخمسين المستفادة لم يتم حولها ; لأنها وإن ضمت إلى مال التجارة فإنما تضم إليه في النصاب لا في الحول ; لأنها ليست من نفس العرض ولا من ربحه ، فإذا تم حول الخمسين زكى المائتين . ولو كان معه مائة درهم فاشترى بها عرضا للتجارة في أول المحرم ثم استفاد مائة أول صفر فاشترى بها عرضا ، ثم استفاد مائة ثالثة في أول [ شهر ] ربيع الأول فاشترى بها عرضا آخر ، فإذا تم حول المائة الأولى ، فإن كانت قيمة عرضها نصابا زكاها ، وإن كانت أقل فلا زكاة .

                                      فإذا تم حول المائة الثانية قوم عرضها ، فإن بلغت قيمته مع الأول نصابا زكاهما ، وإن نقصا عنه فلا زكاة في الحال ، فإذا تم حول المائة الثالثة فإن كان الجميع نصابا زكاه وإلا فلا .



                                      ( فرع ) قال البغوي : لو اشترى عرضا بنصاب من الدراهم فصار ناضا في خلال الحول ناقصا عن النصاب ، فإن نض بغير جنس رأس المال ، بأن اشترى عرضا بمائتي درهم فنض بغيره دنانير لم ينقطع الحول ، فإذا تم الحول تقوم الدنانير بالدراهم ، وإن نض بجنس رأس المال بأقل من نصاب بأن باعه بمائة وخمسين درهما فوجهان .

                                      ( أحدهما ) : لا ينقطع الحول كما لو نض بغير جنسه ، وكما لو نقصت قيمة العرض ولم ينض .

                                      ( والثاني ) : ينقطع ; لأن الحول انعقد على عين الدراهم ، وقد نقص نصابها ، بخلاف ما لو نض من غير رأس المال ; لأن الحول هناك لم ينعقد على عينه إنما انعقد على قيمته ، ونصاب القيمة في خلال الحول لا ينض في زكاة التجارة .



                                      [ ص: 22 ] ولو اشترى عرضا للتجارة بمائتي درهم فباعه بعشرين دينارا فتم الحول وهي في يده قومت الدنانير بالدراهم كالعروض ، فإن بلغت قيمتها نصابا من الدراهم أخرج الزكاة ، وإلا فهل يسقط حكم الحول أم لا يسقط ؟ حتى إذا بلغت قيمته بعد ذلك بأيام نصابا لزمه الزكاة ؟ فيه هذان الوجهان ، فإن قلنا : يسقط بتبدل الحول ، فهل تنتقل الزكاة من الدراهم إلى الدنانير ؟ فيه وجهان .

                                      ( أحدهما ) : لا ، كما لو كان عرضا ولم تبلغ قيمته نصابا لا ينتقل إلى نقد البلد . ( والثاني ) : ينتقل ويبطل حول الدراهم ، حيث لم يبلغ قيمة ما في يده نصابا ، والدنانير في نفسها فاعتبارها بنفسها أولى من اعتبار قيمتها ، فإن قلنا : تنتقل الزكاة إلى الدنانير ، فمن أي وقت يحسب حول الدنانير ؟ فيه وجهان .

                                      ( أحدهما ) : من وقت التقويم ; لأن حول الدراهم بطل عند التقويم .

                                      ( والثاني ) : من حين نضت الدنانير . هذا كلام البغوي ، والوجه الأول أصح ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية