الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في الترجيع في الأذان

                                                                                                          191 حدثنا بشر بن معاذ البصري حدثنا إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة قال أخبرني أبي وجدي جميعا عن أبي محذورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقعده وألقى عليه الأذان حرفا حرفا قال إبراهيم مثل أذاننا قال بشر فقلت له أعد علي فوصف الأذان بالترجيع قال أبو عيسى حديث أبي محذورة في الأذان حديث صحيح وقد روي عنه من غير وجه وعليه العمل بمكة وهو قول الشافعي

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          ( باب ما جاء في الترجيع في الأذان ) هو إعادة الشهادتين بصوت عال بعد ذكرهما بخفض الصوت ، قال ابن قدامة في المغني : اختيار أحمد من الأذان أذان بلال وهو خمس عشرة كلمة لا ترجيع فيه ، وبهذا قال الثوري وأصحاب الرأي وإسحاق ، وقال مالك والشافعي ومن تبعهما من أهل الحجاز الأذان المسنون أذان أبي محذورة وهو مثل ما وصفنا إلا أنه ليس فيه الترجيع وهو أن يذكر الشهادتين مرتين مرتين يخفض [ ص: 485 ] بذلك صوته ، ثم يعيدهما رافعا بهما صوته إلا أن مالكا قال : التكبير في أوله مرتان حسب فيكون الأذان عنده سبع عشرة كلمة وعند الشافعي تسع عشرة كلمة ، انتهى .

                                                                                                          قوله : ( ثنا إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة ) الجمحي المكي يكنى أبا إسماعيل ، صدوق يخطئ ( قال أخبرني أبي وجدي جميعا عن أبي محذورة ) أما أبوه فهو عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة ، قال الحافظ في التقريب مقبول ، وأما جده فهو عبد الملك بن أبي محذورة ، قال في التقريب مقبول ، وقال في الخلاصة : وثقه ابن حبان .

                                                                                                          قوله : ( وألقى عليه الأذان حرفا حرفا ) أي لقنه الأذان كلمة كلمة ( قال إبراهيم ) هو ابن عبد العزيز المذكور في السند ( قال بشر ) هو ابن معاذ شيخ الترمذي ( فقلت له ) أي لإبراهيم ( فوصف الأذان بالترجيع ) كذا روى الترمذي هذا الحديث مختصرا ورواه أبو داود والنسائي مطولا . قوله : ( حديث أبي محذورة في الأذان حديث صحيح وقد روي من غير وجه ) أي من غير طريق واحدة ، بل من طرق عديدة رواه مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم وله ألفاظ وطرق .

                                                                                                          قوله : ( وعليه العمل بمكة وهو قول الشافعي ) قال النووي في شرح مسلم في شرح حديث أبي محذورة : في هذا الحديث حجة بينة ودلالة واضحة لمذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء أن الترجيع في الأذان ثابت مشروع وهو العود إلى الشهادتين مرتين برفع الصوت بعد قولهما مرتين بخفض الصوت ، وقال أبو حنيفة والكوفيون : لا يشرع الترجيع عملا بحديث عبد الله بن زيد ، فإنه ليس فيه ترجيع ، وحجة الجمهور هذا الحديث الصحيح والزيادة مقدمة ، مع أن حديث أبي محذورة هذا متأخر عن حديث عبد الله بن زيد فإن حديث أبي محذورة سنة ثمان من الهجرة بعد حنين ، وحديث ابن زيد في أول الأمر وانضم إلى هذا كله عمل أهل مكة والمدينة وسائر الأمصار . انتهى كلام النووي .

                                                                                                          واحتج الجمهور على مشروعية الترجيع وثبوته بروايات أبي محذورة وهي [ ص: 486 ] نصوص صريحة فيه :

                                                                                                          فمنها : الروايتان اللتان ذكرهما الترمذي في هذا الباب .

                                                                                                          ومنها : ما رواه مسلم في صحيحه عنه قال : ألقى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه فقال : قل الله أكبر الله أكبر ، الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، ثم تعود فتقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، حي على الفلاح ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله .

                                                                                                          ومنها : ما رواه أبو داود في سننه عنه قال : قلت يا رسول الله علمني سنة الأذان قال فمسح مقدم رأسه قال : تقول الله أكبر الله أكبر ، الله أكبر الله أكبر ترفع بها صوتك ، ثم تقول أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، تخفض بها صوتك ، ثم ترفع صوتك بالشهادة ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة حي على الصلاة ، حي على الفلاح حي على الفلاح ، فإن كان صلاة الصبح قلت : الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله . قال القاري في المرقاة شرح المشكاة : قال النووي حسن نقله ميرك ، وقال ابن الهمام إسناده صحيح . انتهى ، وهذه الرواية نص صريح في أن الترجيع من سنة الأذان .

                                                                                                          ومنها : ما رواه النسائي وأبو داود وابن ماجه عنه قال : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان فقال : الله أكبر الله أكبر ، الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، ثم يعود فيقول أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة حي على الصلاة . . . الحديث ، وإسناده صحيح فهذه الروايات كلها نصوص صريحة في ثبوت الترجيع ومشروعيته .

                                                                                                          وأجاب عن هذه الروايات من لم يقل بالترجيع بأجوبة كلها مخدوشة واهية جدا ، فمنها ما ذكره ابن الهمام في فتح القدير فقال : روى الطبراني في الأوسط عن أبي محذورة يقول : ألقى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان حرفا حرفا الله أكبر . . . إلخ ، ولم يذكر ترجيعا فتعارضا فتساقطا ويبقى حديث ابن عمر وعبد الله بن زيد سالما عن المعارضة ، انتهى . ورده القاري في المرقاة شرح المشكاة حيث قال : وفيه أن عدم ذكره في حديث لا يعد معارضا ؛ لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ ، والزيادة من الثقة مقبولة ، نعم لو صرح بالنفي كان معارضا مع أن المثبت مقدم على النافي ، انتهى .

                                                                                                          ومنها : ما قال الطحاوي أنه يحتمل أن الترجيع إنما كان لأن أبا محذورة لم يمد بذلك صوته [ ص: 487 ] على ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم منه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ارجع وامدد من صوتك . هكذا اللفظ في هذا الحديث ، انتهى . وهذا التأويل مردود ، فإنه وقع في رواية أبي داود ، ثم ارجع فمد من صوتك بزيادة لفظ " ، ثم " ولفظه هكذا : قل الله أكبر الله أكبر ، الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، مرتين مرتين ، قال ، ثم ارجع فمد من صوتك أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله . . . إلخ فمعنى قوله : ثم ارجع فمد من صوتك ، أي اخفض صوتك بالشهادتين مرتين مرتين ، ثم ارجع فمد من صوتك وارفعه بهما مرتين مرتين ، يدل عليه رواية أبي داود التي ذكرناها قبل هذا بلفظ : تقول الله أكبر الله أكبر ، الله أكبر الله أكبر ترفع بها صوتك ، ثم تقول أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، تخفض بها صوتك ، ثم ترفع صوتك بالشهادة أشهد أن لا إله إلا الله . . . إلخ والروايات بعضها يفسر بعضا ، ويرد هذا التأويل أيضا ما رواه الترمذي في هذا الباب بإسناد صحيح عن أبي محذورة بلفظ : إن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان تسع عشرة كلمة والإقامة سبع عشرة كلمة ، ومنها : ما ذكره أبو زيد الدبوسي في الأسرار وتبعه بعض شراح الهداية من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بذلك لحكمة رويت في قصته ، وهي أن أبا محذورة كان يبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام بغضا شديدا ، فلما أسلم أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرك أذنه وقال له : ارجع وامدد بها من صوتك ليعلم أنه لا حياء من الحق ،أو ليزيد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتكرير الشهادتين ، ورده العيني حيث قال : هذا ضعيف ، فإنه خفض صوته عند ذكر اسم الله تعالى أيضا بعد أن رفع صوته بالتكبير ، ولم ينقل في كتب الحديث أنه عرك أذنه ، انتهى .

                                                                                                          ومنها : ما قال ابن الجوزي في التحقيق من أن أبا محذورة كان كافرا قبل أن يسلم ، فلما أسلم ولقنه النبي صلى الله عليه وسلم الأذان أعاد عليه الشهادة وكررها لتثبت عنده ويحفظها ويكررها على أصحابه المشركين ، فلما كررها عليه ظنها من الأذان .

                                                                                                          ومنها : ما قال صاحب الهداية من أن ما رواه كان تعليما فظنه ترجيعا ، وقد ذكر الحافظ الزيلعي في نصب الراية هذه الأقوال وقال : هذه الأقوال متقاربة في المعنى ، ثم ردها فقال : ويردها لفظ أبي داود : يا رسول الله ، علمني سنة الأذان ، وفيه : ثم تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله تخفض بها صوتك ، ثم ترفع صوتك بها ، فجعله من سنة الأذان ، وهو كذلك في صحيح ابن حبان ومسند أحمد ، انتهى . وكذلك رد هذه الأقوال الحافظ ابن حجر في الدراية .

                                                                                                          قلت : ولرد هذه الأقوال وجوه أخرى ، منها أن فيها سوء الظن بأبي محذورة ونسبة الخطأ إليه من غير دليل ، ومنها أن أبا محذورة كان مقيما بمكة مؤذنا لأهلها إلى أن توفي وكانت وفاته سنة 59 [ ص: 488 ] تسع وخمسين وكل من كان في هذه المدة بمكة من الصحابة ومن التابعين كانوا يسمعون تأذينه بالترجيع وكذلك يسمع كل من يرد في مكة في مواسم الحج وهي مجمع المسلمين فيها ، فلو كان ترجيع أبي محذورة غير مشروع وكان من خطئه لأنكروا عليه ولم يقروه على خطئه ، ولكن لم يثبت إنكار أحد من الصحابة وغيرهم على أبي محذورة في ترجيعه في الأذان ، فظهر بهذا بطلان تلك الأقوال وثبت أن الترجيع من سنة الأذان ، بل ثبت إجماع الصحابة على سنيته على طريق الحنفية فتفكر ، وقد بسطنا الكلام في هذه المسألة في كتابنا " أبكار المنن في نقد آثار السنن " .

                                                                                                          واستدل لمن لم يقل بمشروعية الترجيع بما رواه مسلم عن عمر بن الخطاب مرفوعا إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر ، ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله قال أشهد أن لا إله إلا الله ، ثم قال أشهد أن محمدا رسول الله قال أشهد أن محمدا رسول الله ، ثم قال حي على الصلاة قال لا حول ولا قوة إلا بالله الحديث ، قيل : يستفاد من هذا الحديث أن الأذان ليس فيه الترجيع .

                                                                                                          وأجيب عنه بأنه يستفاد منه أيضا أن الأذان ليس فيه تربيع التكبير ولا تثنية باقي الكلمات ، فما هو الجواب عنهما هو الجواب عن الترجيع .

                                                                                                          واستدل أيضا بحديث عبد الله بن زيد ، قال ابن الجوزي في التحقيق : حديث عبد الله بن زيد هو أصل في التأذين وليس فيه ترجيع فدل على أن الترجيع غير مسنون ، انتهى . وقد عرفت جوابه في كلام النووي ، وقال الطحاوي في شرح الآثار : كره قوم أن يقال في أذان الصبح : الصلاة خير من النوم ، واحتجوا في ذلك بحديث عبد الله بن زيد في الأذان ، وخالفهم في ذلك آخرون فاستحبوا أن يقال ذلك في التأذين للصبح بعد الفلاح . وكان الحجة لهم في ذلك أنه ، وإن لم يكن ذلك في حديث عبد الله بن زيد فقد علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا محذورة بعد ذلك ، فلما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أبا محذورة كان زيادة على ما في حديث عبد الله بن زيد ووجب استعمالها . انتهى كلام الطحاوي .

                                                                                                          قلت : فكذلك يقال إن الترجيع ، وإن لم يكن في حديث عبد الله بن زيد فقد علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا محذورة بعد ذلك ، فلما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أبا محذورة كان زيادة على ما في حديث عبد الله بن زيد فوجب استعماله .




                                                                                                          الخدمات العلمية