الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
260 [ ص: 191 ] حديث رابع لإسماعيل بن أبي حكيم مرسل

مالك ، عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع امرأة تصلي من الليل ، فقال : من هذه ؟ فقيل : الحولاء بنت تويت لا تنام الليل ، فكره ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى عرفنا الكراهة في وجهه ثم قال : إن الله لا يمل حتى تملوا ، اكلفوا من العمل ما لكم به طاقة .

التالي السابق


قال أبو عمر : هذا حديث منقطع من رواية إسماعيل بن أبي حكيم ، وقد يتصل معنى ولفظا ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث مالك وغيره من طرق صحاح ثابتة ، والحولاء هذه امرأة من قريش من بني أسد بن عبد العزى ، وهي الحولاء بنت تويت بن حبيب بن أسد بن عبد العزى بن قصي .

حدثني أبو القاسم خلف بن القاسم الحافظ رحمه الله ، قال : أخبرني ابن أبي العقب ، وأبو الميمون البجلي جميعا بدمشق ، قالا : حدثنا أبو زرعة ، قال : حدثنا الحكم بن نافع أبو اليمان ، قال : أخبرنا شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، قال : قال عروة : أخبرتني عائشة أن الحولاء بنت تويت بن أسد بن عبد العزى مرت بها ، وعندها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : فقلت يا رسول الله هذه الحولاء بنت تويت ، قالوا إنها لا تنام الليل ، فقال رسول [ ص: 192 ] الله - صلى الله عليه وسلم - لا تنام الليل ! خذوا من العمل ما تطيقون ، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا .

وذكره البزار ، قال : حدثنا زيد بن أخزم الطائي ، قال : حدثنا عثمان بن عمر ، قال : حدثنا يونس ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة مثله بمعناه ، وأما حديث مالك في ذلك فرواه القعنبي ، عن مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أنها قالت : كانت عندي امرأة من بني أسد بن عبد العزى ، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : من هذه ؟ فقلت له : هذه فلانة لا تنام الليل ، تذكر من صلاتها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مه عليكم بما تطيقون من الأعمال ، فوالله لا يمل الله حتى تملوا .

حدثناه عبد الرحمن بن يحيى ، قال : حدثنا الحسن بن الخضر ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : حدثنا عبد الملك بن عبد الحميد ، قال : حدثنا القعنبي ، عن مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، فذكره ، وبه عن مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : كان أحب الأعمال إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يدوم عليه صاحبه ، وروى الأوزاعي ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : خذوا من العمل ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا هكذا حدث به عبد الحميد بن حبيب ، عن الأوزاعي ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، وهو عندي حديث آخر ليس حديث الزهري ، عن عروة ، عن عائشة إلا أنه اختلف فيه على الأوزاعي [ ص: 193 ] حدثنيه محمد بن عبد الله ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا إسحاق بن أبي حسان ، قال : حدثنا هشام بن عمار ، قال : حدثنا عبد الحميد بن حبيب ، قال : حدثنا الأوزاعي ، قال : حدثنا الزهري ، قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، عن عائشة ، فذكر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه قالت عائشة : كان أحب الصلاة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ديم عليها ، وإن قلت ، قالت : وكان إذا صلى صلاة داوم عليها ، قال أبو سلمة : إن الله يقول : الذين هم على صلاتهم دائمون .

أخبرنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن الفضل ، حدثنا أبو الدحداح أحمد بن محمد بن إسماعيل التميمي ، قال : أخبرنا أبو علي محمود بن خالد الدمشقي السلمي ، قال : حدثنا محمد بن يوسف الفريابي ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خذوا من العمل قدر ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا قالت : وكان أحب الصلاة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما داوم عليه العبد وإن قلت ، قالت : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى صلاة داوم عليها ، ثم قرأ أبو سلمة الذين هم على صلاتهم دائمون .

وقد روي حديث الحولاء هذا متصلا مسندا من حديث إسماعيل بن أبي حكيم ذكره العقيلي أبو جعفر رحمه الله ، قال : حدثنا أحمد بن إبراهيم [ ص: 194 ] البغدادي ، قال : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، قال : أخبرنا حميد بن الأسود ، عن الضحاك بن عثمان ، عن إسماعيل بن أبي حكيم ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ما تصورت في هذه الليلة إلا سمعت صوتا ، قلت : يا رسول الله تلك الحولاء بنت تويت لا تنام إذا نام الناس ، قال : عليكم من العمل ما تطيقون ، فإن الله لا يمل حتى تملوا أخبرناه عبد الله بن محمد بن يوسف إجازة ، قال : أخبرنا يوسف بن أحمد إجازة ، عن العقيلي أبي جعفر محمد بن عمرو بن موسى المكي .

قال أبو عمر : قوله إن الله لا يمل حتى تملوا ، معناه عند أهل العلم : إن الله لا يمل من الثواب والعطاء على العمل حتى تملوا أنتم ، ولا يسأم من أفضاله عليكم إلا بسآمتكم عن العمل له ، وأنتم متى تكلفتم من العبادة ما لا تطيقون لحقكم الملل ، وأدرككم الضعف والسآمة ، وانقطع عملكم ، فانقطع عنكم الثواب لانقطاع العمل ، يحضهم - صلى الله عليه وسلم - على القليل الدائم ، ويخبرهم أن النفوس لا تحتمل الإسراف عليها ، وأن الملل سبب إلى قطع العمل .

[ ص: 195 ] ومن هذا حديث ابن مسعود ، قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا ، ومنه قوله عليه السلام لا تشادوا الدين ، فإنه من يغالب الدين يغلبه الدين ومنه الحديث إن هذا الدين متين ، فأوغل فيه برفق ، فإن المنبت لا يقطع أرضا ، ولا يبقي ظهرا وقال - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو - وكان يصوم النهار ويقوم الليل - : لا تفعل ، فإنك إذا فعلت ذلك نفهت نفسك ، يعني أعيت وكلت ، يقال للمعي منفه ونافه ، وجمع نافه نفه ، كذلك فسره أبو عبيد ، عن أبي عبيدة ، وأبي عمرو قال : وقال الأصمعي : الإيغال السير الشديد ، وأما الوخول فهو الدخول ، وقد جعل مطرف بن عبد الله بن الشخير رحمه الله الغلو في أعمال البر سيئة ، والتقصير سيئة ، فقال : الحسنة بين سيئتين ، وأما لفظه في قوله : إن الله لا يمل حتى تملوا ، فلفظ مخرج على مثال لفظ ، ومعلوم أن الله عز وجل لا يمل سواء مل الناس أو لم يملوا ، ولا يدخله ملال في شيء من الأشياء جل وتعالى علوا كبيرا ، وإنما جاء لفظ هذا الحديث على المعروف من لغة العرب بأنهم كانوا إذا وضعوا لفظا بإزاء لفظ وقبالته جوابا له وجزاء ، ذكروه بمثل لفظه ، وإن كان مخالفا له في معناه ، ألا ترى إلى قوله عز وجل : وجزاء سيئة سيئة مثلها ، وقوله : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، والجزاء لا يكون سيئة ، والقصاص لا يكون اعتداء لأنه حق وجب ، ومثل ذلك قول الله تبارك وتعالى : ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ، وقوله إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ، وقوله : إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا ، وليس من الله عز وجل هزؤ ، ولا مكر ، ولا كيد ، إنما هو جزاء لمكرهم ، واستهزائهم ، وجزاء كيدهم ، فذكر الجزاء بمثل لفظ الابتداء لما وضع بحذائه ، وكذلك [ ص: 196 ] قوله - صلى الله عليه وسلم - إن الله لا يمل حتى تملوا أي إن من مل من عمل يعمله قطع عنه جزاؤه ، فأخرج لفظ قطع الجزاء بلفظ الملال إذ كان بحذائه وجوابا له ، روي عن ابن عباس أنه قال : إياكم والغلو في الدين ، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين ، حدثنا خلف بن سعيد ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن خالد ، قال : حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : أخبرنا شعبة ، عن حصين ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لكل عامل فترة ، ولكل فترة شرة ، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح وحدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن حصين ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لكل عمل شرة ، ولكل شرة فترة ، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك هكذا قال ، جعل في موضع الفترة الشرة فقلب ، والأول أولى على ما في حديث شعبة ، والله أعلم .

وكلا الوجهين خارج معناه ، والشرة الحرص ، والشره والشرهان الحريص ، حدثنا أحمد بن عمر ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن علي ، قال : حدثنا محمد بن فطيس ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق السجسجي ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه أنه قال : أفضل العبادة أخفها .

قال أبو عمر : يريد أخفها على القلوب ، وأحبها إلى النفوس ، فإن ذلك أحرى أن يدوم عليه صاحبه حتى يصير له عادة وخلقا .

[ ص: 197 ] وقد كان بعض العلماء يروي هذا الحديث أفضل العيادة ، أخفها يريد عيادة المرضى ، فمن رواه على هذا الوجه ، فلا مدخل له في هذا الباب ، ولا خلاف بين العلماء والحكماء أن السنة في العيادة التخفيف إلا أن يكون المريض يدعو الصديق إلى الأنس به ، وسيأتي ذكر العيادة والقول فيها في باب بلاغات مالك إن شاء الله عز وجل .




الخدمات العلمية