الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ولا تجب الزكاة في ثمر النخل والكرم ، إلا أن يكون نصابا ، ونصابه خمسة أوسق لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 438 ] قال : { ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة } " والخمسة أوسق ثلاثمائة صاع ، وهي ألف وستمائة رطل بالبغدادي ، وهل ذلك تحديد أو تقريب ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) : أنه تقريب ، فلو نقص منه شيء يسير لم تسقط الزكاة ، والدليل عليه أن الوسق حمل البعير ، قال النابغة :

                                      أين الشظاظان وأين المربعة وأين وسق الناقة المطبعة

                                      وحمل البعير يزيد وينقص ( والثاني ) : أنه تحديد ، فإن نقص منه شيء يسير لم تجب الزكاة لما روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { الوسق ستون صاعا } " ولا تجب حتى تكون يابسه خمسة أوسق ، لحديث أبي سعيد " { ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة } وإن كان رطبا لا يجيء منه تمر ، أو عنبا لا يجيء منه زبيب ، ففيه وجهان ( أحدهما ) : يعتبر نصابه بنفسه ، وهو أن يبلغ يابسه خمسة أوسق ; لأن الزكاة تجب فيه فاعتبر النصاب من يابسه ، ( والثاني ) : يعتبر بغيره ; لأنه لا يمكن اعتباره بنفسه فاعتبر بغيره كالجناية التي ليس لها أرش مقدر من الحر ، فإنه يعتبر بالعبد ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) : حديث أبي سعيد رضي الله عنه الأول صحيح رواه البخاري ومسلم وحديثه الثاني { الوسق ستون صاعا } " ضعيف رواه أبو داود وغيره بإسناد ضعيف قال أبو داود وغيره : إسناده منقطع ، ولكن الحكم الذي فيه مجمع عليه . نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أن الوسق ستون صاعا ، وفي الوسق لغتان : ( أشهرهما ) وأفصحهما : فتح الواو ، ( والثانية ) : كسرها وجمعه أوسق في القلة ووسوق في الكثرة وأوساق ، وسبقت اللغات في بغداد وفي الرطل في مسألة القلتين والشظاظان بكسر الشين العودان اللذان يجمع بهما عروتا العدلين على البعير " ، والمربعة " بكسر الميم وإسكان الراء وفتح الباء الموحدة وهي عصا قصيرة يقبض الرجلان بطرفيها كل واحد في يده طرف ويعكمان العدل على أيديهما مع العصا ويرفعانه إلى ظهر البعير وقوله " الناقة المطبعة " وهي بضم الميم وفتح الطاء المهملة والباء الموحدة وهي المثقلة بالحمل قاله ابن فارس وغيره . وهذا النابغة الشاعر صحابي . وهو أبو ليلى النابغة الجعدي ، والنابغة لقب له واسمه : قيس بن عبد الله ، وقيل : عبد الله بن قيس ، وقيل : حبان بن قيس ، قالوا : وإنما قيل له النابغة ; لأنه قال الشعر في الجاهلية ، ثم تركه نحو ثلاثين سنة ، ثم نبغ فيه فقاله . وطال عمره في الجاهلية والإسلام وهو أسن من [ ص: 439 ] النابغة الذبياني ومات الذبياني قبله . وعاش الجعدي بعد الذبياني طويلا قيل عاش مائة وثمانين سنة ، وقال ابن قتيبة : عاش مائتين وأربعين سنة وبسطت أحواله في التهذيب .

                                      ( أما الأحكام ) ففيه مسائل : ( إحداها ) لا تجب الزكاة في الرطب والعنب إلا أن يبلغ يابسه نصابا ، وهو خمسة أوسق ، هذا مذهبنا ، وبه قال العلماء كافة إلا أبا حنيفة وزفر فقالا : تجب في كثير وقليل حتى لو كان حبة وجب عشرها : دليلنا حديث أبي سعيد المذكور وأحاديث غيره بمعناه ، والقياس على المواشي والنقدين .



                                      ( الثانية ) : الوسق ستون صاعا بالإجماع ، نقل الإجماع فيه ابن المنذر وغيره ، وهو ألف وستمائة رطل بالبغدادي ، وسبق تحقيق الرطل ومقداره في مسألة القلتين ، ويجيء برطل دمشق ثلاثمائة واثنان وأربعون رطلا ونصف رطل وثلث رطل وسبعا أوقية ، تفريعا على الأصح أن رطل بغداد مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم ، والمعتمد في تقدير الأوسق بهذا الإجماع ، وإلا فالحديث ضعيف كما سبق ، والأصح من الوجهين أن هذا التقدير تحديد صححه أصحابنا وممن صححه المحاملي والماوردي والمتولي والأكثرون ، قال الرافعي : صححه الأكثرون ، وقطع الصيدلاني بأنه تقريب ، وقال المحاملي وغيره : إذا قلنا هو تقريب فلا يمنع من وجوب الزكاة نقص خمسة أرطال ، ونقل إمام الحرمين عن العراقيين ، ثم أنكره عليهم وقال في تقديره كلاما طويلا حاصله : الأوسق هي الأوقار ، والوقر المقتصد مائة وستون منا ، والمن رطلان ، فكل قدر لو وزع على الأوسق الخمسة لم تعد منحطة عن الاعتدال بسببه لا يضر نقصه ، وإن عدت منحطة ضر . وإن أشكل ذلك فالأظهر على تقديره بالتقريب أنه لا يضر لبقاء اسم الأوسق قال : ولا يبعد أن يميل الناظر إلى نفي الوجوب استصحابا للقلة إلى أن يتيقن الكثرة ، وذكر إمام الحرمين في أثناء هذه المسألة ما علقه الشارع بالصاع والمد ، فالاعتبار فيه بمقدار موزون ، يضاف إلى المد والصاع ، لا بما يحويه المد من البر ونحوه . [ ص: 440 ] وذكر الرافعي كلام إمام الحرمين هذا ، ثم قال : وقال الروياني وغيره : الاعتبار بالكيل لا بالوزن ، قال : وهذا هو الصحيح واستثنى أبو العباس الجرجاني العسل فقال : الاعتبار في نصابه بالوزن إذا أوجبنا فيه الزكاة قال : وتوسط صاحب العدة فقال : هو على التحديد في الكيل ، وعلى التقريب في الوزن ، وإنما قدره العلماء بالوزن استظهارا ( قلت ) : هذا الذي صححه الرافعي من الاعتبار بالكيل هو الصحيح ، وبه قطع أبو الفرج الدارمي من أصحابنا ، وصنف في هذه المسألة تصنيفا ، وسأزيد المسألة إيضاحا في باب زكاة الفطر إن شاء الله تعالى .



                                      ( المسألة الثالثة ) : إذا كان له رطب لا يجيء منه تمر ، أو عنب لا يجيء منه زبيب ، فقد ذكر المصنف وأكثر العراقيين فيه وجهين .

                                      ( أحدهما ) : يعتبر بنفسه ( والثاني ) : بغيره مما يجفف ، والوجهان متفقان على أنه يعتبر تمرا لا رطبا ، ففي وجه يشترط لوجوب زكاته أن يبلغ يابسه بنفسه لو يبس خمسة أوسق ، وفي وجه يشترط بلوغه بغيره فيقال : لو كان هذا مما يجفف بلوغه نصابا في حال رطوبته ، فإن بلغ الرطب خمسة أوسق وجبت ، وإن كان لو قدر تمرا لا يبلغها وإن لم يبلغها الرطب فلا زكاة ، وهذا هو الأصح عند إمام الحرمين والغزالي والرافعي وآخرين ; لأنه ليس له حالة جفاف وادخار فوجب اعتباره في حال كماله ، ( والوجه الثاني ) : يعتبر النصاب من التمر والزبيب ، للحديث : " { ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة } ، فعلى هذا هل يعتبر بنفسه ؟ أم بغيره ؟ فيه الوجهان اللذان ذكرهما المصنف وأكثر العراقيين ، فحاصل المذهب ثلاثة أوجه ( أصحها ) : يعتبر رطبا ، فإن بلغ الرطب خمسة أوسق وجبت الزكاة وإلا فلا ، ( والثاني ) : يعتبر تمرا بنفسه لو يبس ، ( والثالث ) : يعتبر تمرا من غيره . قال أصحابنا : فعلى هذا الثالث يعتبر أقرب أنواع الرطب إليه ، وعلى الأوجه يجب إخراج واجبه في الحال رطبا ، ولا يؤخر ; لأنه ليس له جفاف ينتظر ، قال الرافعي وغيره : هذا الخلاف هو فيما لا يغيره تجفيفه ، ولو جفف جاء منه تمر رديء حشف .

                                      ( فأما ) إذا كان لو جفف فسد بالكلية ، لم يجئ في الاعتبار بنفسه ، قال أصحابنا ويضم ما لا يجفف إلى ما يجفف في [ ص: 441 ] إكمال النصاب بلا خلاف ; لأنه كله جنس واحد . قال المحاملي ، فإن قيل : إذا كان الرطب والعنب لا يجفف ولا يدخر ، فهو في معنى الخضراوات ( قلنا ) الخضراوات لا يجفف جنسها ، ولا يدخر ، ( وأما ) الرطب والعنب فيجفف جنسه ، وهذا النوع منه نادر ، فوجب إلحاقه بالغالب والله تعالى أعلم .




                                      الخدمات العلمية