الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثانية : حياء يتولد من النظر في علم القرب . فيدعوه إلى ركوب المحبة . ويربطه بروح الأنس . ويكره إليه ملابسة الخلق .

النظر في علم القرب : تحقق القلب بالمعية الخاصة مع الله . فإن المعية نوعان : عامة . وهي : معية العلم والإحاطة . كقوله تعالى : وهو معكم أين ما كنتم وقوله : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا .

وخاصة : وهي معية القرب ، كقوله تعالى : إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وقوله : إن الله مع الصابرين وقوله : وإن الله لمع المحسنين .

فهذه معية قرب . تتضمن الموالاة ، والنصر ، والحفظ . وكلا المعنيين مصاحبة منه للعبد . لكن هذه مصاحبة اطلاع وإحاطة . وهذه مصاحبة موالاة ونصر وإعانة . ف " مع " في لغة العرب تفيد الصحبة اللائقة ، لا تشعر بامتزاج ولا اختلاط ، ولا مجاورة ، ولا مجانبة . فمن ظن منها شيئا من هذا فمن سوء فهمه أتي .

وأما القرب : فلا يقع القرآن إلا خاصا . وهو نوعان : قربه من داعيه بالإجابة . وقربه من عابده بالإثابة .

[ ص: 255 ] فالأول : كقوله تعالى : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان . ولهذا نزلت جوابا للصحابة رضي الله عنهم . وقد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ربنا قريب فنناجيه ؟ أم بعيد فنناديه ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية .

والثاني : قوله صلى الله عليه وسلم : أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد . وأقرب ما يكون الرب من عبده في جوف الليل . فهذا قربه من أهل طاعته .

وفي الصحيح : عن أبي موسى رضي الله عنه . قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر . فارتفعت أصواتنا بالتكبير . فقال : يا أيها الناس ، أربعوا على أنفسكم . إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا . إن الذي تدعونه سميع قريب . أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته .

فهذا قرب خاص بالداعي دعاء العبادة والثناء والحمد . وهذا القرب لا ينافي كمال مباينة الرب لخلقه ، واستواءه على عرشه . بل يجامعه ويلازمه . فإنه ليس كقرب الأجسام بعضها من بعض . تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا . ولكنه نوع آخر . والعبد في الشاهد يجد روحه قريبة جدا من محبوب بينه وبينه مفاوز تتقطع فيها أعناق المطي . ويجده أقرب إليه من جليسه . كما قيل .


ألا رب من يدنو . ويزعم أنه يحبك . والنائي أحب وأقرب

وأهل السنة أولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثته وأحباؤه ، الذين هو عندهم أولى بهم من أنفسهم . وأحب إليهم منها : يجدون نفوسهم أقرب إليه . وهم في الأقطار النائية عنه من جيران حجرته في المدينة ، والمحبون المشتاقون للكعبة والبيت الحرام يجدون قلوبهم وأرواحهم أقرب إليها من جيرانها ومن حولها . هذا مع عدم تأتي القرب منها . فكيف بمن يقرب من خلقه كيف يشاء ، وهو مستو على عرشه . وأهل الذوق لا يلتفتون في ذلك إلى شبهة معطل بعيد من الله ، خلي من محبته ومعرفته .

والقصد : أن هذا القرب يدعو صاحبه إلى ركوب المحبة . وكلما ازداد حبا ازداد قربا . فالمحبة بين قربين : قرب قبلها ، وقرب بعدها ، وبين معرفتين : معرفة قبلها حملت عليها ، ودعت إليها ، ودلت عليها . ومعرفة بعدها . هي من نتائجها وآثارها .

[ ص: 256 ] وأما ربطه بروح الأنس : فهو تعلق قلبه بروح الأنس بالله ، تعلقا لازما لا يفارقه . بل يجعل بين القلب والأنس رابطة لازمة . ولا ريب أن هذا يكره إليه ملابسة الخلق . بل يجد الوحشة في ملابستهم بقدر أنسه بربه ، وقرة عينه بحبه وقربه منه . فإنه ليس مع الله غيره . فإن لابسهم لابسهم برسمه دون سره وروحه وقلبه . فقلبه وروحه في ملأ ، وبدنه ورسمه في ملأ .

التالي السابق


الخدمات العلمية