الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويجوز البكاء على الميت من غير ندب ولا نياحة ، لما روى جابر رضي الله عنه قال { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا إبراهيم إنا لا نغني عنك [ ص: 280 ] من الله شيئا ، ثم ذرفت عيناه ، فقال عبد الرحمن بن عوف : يا رسول الله أتبكي ؟ أو لم تنه عن البكاء ؟ قال : لا ، ولكن نهيت عن النوح } ولا يجوز لطم الخدود ، ولا شق الجيوب ، لما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية } ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث ابن مسعود رواه البخاري ومسلم . وحديث جابر رواه الترمذي هكذا وقال : هو حديث حسن ، ومعناه في الصحيحين من رواية غير جابر ، ومعنى : لا نغني عنك شيئا أي لا ندفع ولا نكف ، ( وقوله ) : ذرفت عيناه - بفتح الذال المعجمة والراء - أي سال دمعها ; والجاهلية من الجهل . قال الواحدي رحمه الله : هو اسم لما كان قبل الإسلام في الفترة لكثرة جهلهم . والندب تعديد محاسن الميت مع البكاء كقولها : واجبلاه واسنداه واكريماه ونحوها من النياحة رفع الصوت بالندب . قال الشافعي والأصحاب : البكاء على الميت جائز قبل الموت وبعده ولكن قبله أولى لحديث جابر بن عتيك رضي الله عنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد الله بن ثابت فوجده قد غلب ، فصاح النسوة وبكين ، فجعل ابن عتيك يسكتهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعهن فإذا وجب فلا تبكين باكية ، قالوا : وما الوجوب يا رسول الله ؟ قال : الموت } حديث صحيح رواه مالك في الموطأ والشافعي وأحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم بأسانيد صحيحة . ولفظ الشافعي في الأم : وأرخص في البكاء قبل الموت ، فإذا مات أمسكن وقال صاحب الشامل وطائفة : يكره البكاء بعد الموت لظاهر الحديث في النهي ، ولم يقل الجمهور : ويكره ، وإنما قالوا : الأولى تركه [ ص: 281 ] قالوا : وهو مراد الحديث ولفظ الشافعي محتمل ، هذا كله في البكاء بلا ندب ولا نياحة .



                                      أما الندب والنياحة ولطم الخد وشق الجيب وخمش الوجه ونشر الشعر والدعاء بالويل والثبور ، فكلها محرمة باتفاق الأصحاب ، وصرح الجمهور بالتحريم ، ووقع في كلام بعضهم لفظ الكراهة ، وكذا وقع لفظ الكراهة في نص الشافعي في الأم وحملها الأصحاب على كراهة التحريم ، وقد نقل جماعة الإجماع في ذلك . قال إمام الحرمين رحمه الله : ورفع الصوت بإفراط في معنى شق الجيب ، قال غيره : هذا إذا كان مختارا فإن كان مغلوبا لم يؤاخذ به لأنه غير مكلف ، وأما قول الشافعي رحمه الله في الأم : وأكره المآتم وهي الجماعة وإن لم يكن لهم بكاء ، فمراده الجلوس للتعزية وقد سبق بيانه .



                                      ( فرع ) : في الأحاديث الواردة في أن الميت يعذب بما نيح عليه وبالبكاء عليه وبيان تأويلها ومذاهب العلماء فيها . عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الميت يعذب في قبره بما نيح عليه } رواه البخاري ومسلم ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه } قال : وعن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه } قال ابن عباس : فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة فقالت : " رحم الله عمر والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { : إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله } وقالت : حسبكم القرآن : ولا تزر وازرة وزر أخرى . [ ص: 282 ] فما قال ابن عمر شيئا " رواه البخاري ومسلم وعن عائشة رضي الله عنها " أنها قيل لها : إن ابن عمر يقول : الميت يعذب ببكاء الحي فقالت : يغفر الله لأبي عبد الرحمن أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ إنما { مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكى عليها ، فقال : إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها } " رواه البخاري ومسلم . وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال " أغمي على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته تبكي : واجبلاه واكذا واكذا تعدد عليه فقال حين أفاق : ما قلت شيئا إلا قيل لي أنت كذا ؟ فلما مات لم تبك عليه " رواه البخاري رحمه الله .

                                      وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " { ما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول : واجبلاه واسنداه أو نحو ذلك إلا وكل به ملكان يلهزانه أهكذا أنت ؟ ؟ } رواه الترمذي وقال : حديث حسن وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { اثنتان في الناس هما بهم كفر : الطعن في النسب ، والنياحة على الميت } رواه مسلم ، فهذه الأحاديث وشبهها في التحريم وتعذيب الميت وجاء في الإباحة ما قد يشابه هذا وليس هو منه وهو حديث أنس رضي الله عنه قال { لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه الكرب فقالت فاطمة رضي الله عنها : واكرب أبتاه ، فقال : ليس على أبيك كرب بعد اليوم ، } فلما مات قالت : يا أبتاه أجاب ربا دعاه يا أبتاه جنة الفردوس مأواه ، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه فلما دفن قالت فاطمة رضي الله عنها : أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب " رواه البخاري رحمه الله .

                                      واختلف العلماء في أحاديث تعذيب الميت بالبكاء فتأولها المزني وأصحابنا وجمهور العلماء على من وصى أن يبكى عليه ويناح بعد موته فنفذت وصيته فهذا يعذب ببكاء أهله عليه ونوحهم لأنه بسببه ومنسوب إليه ، قالوا : فأما من بكى عليه أهله وناحوا من غير وصية منه ، فلا يعذب ببكائهم ونوحهم ، لقوله تعالى { ولا تزر وازرة وزر أخرى } قالوا : وكان من عادة العرب الوصية بذلك ، ومنه قول طرفة بن العبد : [ ص: 283 ]

                                      إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يا ابنة معبد

                                      قالوا : فخرج الحديث مطلقا حملا على ما كان معتادا لهم . وقالت طائفة : هو محمول على من أوصى بالبكاء والنوح أو لم يوص بتركهما ، فمن أوصى بهما أو أهمل الوصية بتركهما يعذب بهما لتفريطه بإهماله الوصية بتركهما ، فأما من أوصى بتركهما فلا يعذب بهما ، إذ لا صنع له فيهما ولا تفريط ، وحاصل هذا القول إيجاب الوصية بتركهما ، فمن أهملهما عذب بهما . وقالت طائفة : معنى الأحاديث أنهم كانوا ينوحون على الميت ويندبونه بتعديد شمائله ومحاسنه في زعمهم ، وتلك الشمائل قبائح في الشرع فيعذب بها ، كما كانوا يقولون : يا مرمل النسوان ومؤتم الولدان ومخرب العمران ومفرق الأخدان ، ونحو ذلك مما يرونه شجاعة وفخرا ، وهو حرام شرعا . وقالت طائفة : معناه أنه يعذب بسماعه بكاء أهله ويرق لهم ، وإلى هذا ذهب محمد بن جرير وغيره . قال القاضي عياض : وهو أولى الأقوال . واحتجوا بحديث فيه { أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر امرأة عن البكاء على أبيها وقال : إن أحدكم إذا بكى استعبر له صويحبه . فيا عباد الله لا تعذبوا إخوانكم } وقالت عائشة رضي الله عنها معنى الحديث أن الكافر وغيره من أصحاب الذنوب يعذب في حال بكاء أهله عليه بذنبه لا ببكائهم " والصحيح من هذه الأقوال ما قدمناه عن الجمهور ، وأجمعوا كلهم على اختلاف مذاهبهم أن المراد بالبكاء بصوت ونياحة لا مجرد دمع العين والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية