الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          [ ص: 53 ] مقدمة الشارح

                                                                                                          عن الكتاب ومؤلفه

                                                                                                          مؤلف هذا الكتاب إمام الأئمة أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث ، ينتهي نسبه إلى يعرب بن يشجب بن قحطان الأصبحي ، جده أبو عامر صحابي جليل . شهد المغازي كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم خلا بدرا ، كذا قال القاضي عياض نقلا عن القاضي بكر بن العلا القشيري ، لكن قال غيره : أبو عامر جد مالك الأعلى ، كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه ، سمع عثمان بن عفان فهو تابعي مخضرم . قال الحافظ الذهبي في " التجريد " : لم أر أحدا ذكره في الصحابة ونقله في الإصابة ولم يزد عليه . وابنه مالك جد الإمام من كبار التابعين وعلمائهم ، يروي عن عمر وعثمان وطلحة وعائشة وأبي هريرة وحسان وغيرهم ، وهو من الأربعة الذين حملوا عثمان ليلا إلى قبره وغسلوه ودفنوه . يروي عنه بنوه : أنس وبه يكنى وأبو سهيل نافع والربيع . مات سنة أربع وسبعين على الصحيح كما قاله الحافظ ، وروى مالك عن أبيه ، عن جده ، عن عمر بن الخطاب مرفوعا : " ثلاث يفرح لهن الجسد فيربو عليهن : الطيب والثوب اللين وشرب العسل " أخرجه الخطيب وضعفه من رواية يونس بن هارون الشامي ، عن مالك ، عن أبيه ، عن جده ، عن عمر به . وأخرجه ابن حبان في " الضعفاء " وقال : هذا لم يأت به عن مالك غير يونس ، وقد أتى بعجائب لا تحل الرواية عنه . وأخرجه الدارقطني وقال : هذا لا يصح عن مالك ، ويونس ضعيف .

                                                                                                          وأما مالك : فهو الإمام المشهور صدر الصدور وأكمل العقلاء وأعقل الفضلاء ، ورث حديث الرسول ، ونشر في أمته الأحكام والفصول ، أخذ عن تسعمائة شيخ فأكثر ، وما أفتى حتى شهد له سبعون إماما أنه أهل لذلك ، وكتب بيده مائة ألف حديث ، وجلس للدرس وهو ابن سبعة عشر عاما ، وصارت حلقته أكبر من حلقة مشايخه في حياتهم ، وكان الناس يزدحمون على بابه لأخذ الحديث والفقه كازدحامهم على باب السلطان ، وله حاجب يأذن أولا للخاصة فإذا فرغوا أذن للعامة ، وإذا جلس للفقه جلس كيف كان ، وإذا أراد الجلوس للحديث اغتسل وتطيب ولبس ثيابا جددا وتعمم وقعد على منصته بخشوع [ ص: 54 ] وخضوع ووقار ، ويبخر المجلس بالعود من أوله إلى فراغه تعظيما للحديث ، حتى بلغ من تعظيمه له أنه لدغته عقرب وهو يحدث ست عشرة مرة فصار يصفر ويتلوى حتى تم المجلس ولم يقطع كلامه ، وربما كان يقول للسائل انصرف حتى أنظر ، فقيل له فبكى وقال : أخاف أن يكون لي من السائل يوم وأي يوم ، وإذا أكثروا سؤاله كفهم وقال : " حسبكم من أكثر فقد أخطأ " ، ومن أحب أن يجيب عن كل مسألة فليعرض نفسه على الجنة والنار ثم يجيب ، وقد أدركناهم إذا سئل أحدهم فكأن الموت أشرف عليه ، وسئل عن ثمانية وأربعين مسألة فقال في ثنتين وثلاثين منها : لا أدري ، وقال : " ينبغي للعالم أن يورث جلساءه لا أدري ليكون أصلا في أيديهم يفزعون إليها ، وكان إذا شك في الحديث طرحه ، وإذا قال أحد : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حبسه بالحبس وقال : يصح ما قال ثم يخرج ، وكان يقام بين يديه الرجل كما يقام بين يدي الأمراء ، وكان مهابا جدا إذا أجاب في مسألة لا يمكن أن يقال له من أين ؟ ودخل على المنصور الخليفة العباسي وهو على فرشه وصبي يدخل ويخرج فقال : تدري من هذا ؟ هو ابني ، وإنما يفزع من هيبتك ، وفيه أنشد :

                                                                                                          يأبى الجواب فلا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقان

                                                                                                          أدب الوقار وعز سلطان التقى فهو المطاع وليس ذا سلطان وكان يقول في فتياه : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، ولا يدخل الخلاء إلا كل ثلاثة أيام مرة ويقول : والله قد استحييت من كثرة ترددي للخلاء ، ويرخي الطيلسان على رأسه حتى لا يرى ولا يرى . وقيل له : كيف أصبحت ؟ فقال : في عمر ينقص وذنوب تزيد .

                                                                                                          ولما ألف " الموطأ " ، اتهم نفسه بالإخلاص فيه فألقاه في الماء وقال : إن ابتل فلا حاجة لي به فلم يبتل منه شيء .

                                                                                                          ثناء الأئمة عليه كثير .

                                                                                                          قال سفيان بن عيينة : رحم الله مالكا ما كان أشد انتقاد مالك للرجال ، وكان لا يبلغ من الحديث إلا ما كان صحيحا ، ولا يحدث إلا عن ثقات الناس .

                                                                                                          وقال عبد الرحمن بن مهدي : ما بقي على وجه الأرض آمن على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من مالك بن أنس ، ولا أقدم عليه في صحة الحديث أحدا ، وما رأيت أعقل منه ، قال : وسفيان الثوري إمام في الحديث وليس بإمام في السنة . والأوزاعي إمام في السنة وليس بإمام في الحديث . ومالك إمام فيهما جميعا .

                                                                                                          سئل ابن الصلاح عن معنى هذا الكلام فقال : السنة هاهنا ضد البدعة ، فقد يكون الإنسان عالما بالحديث ولا يكون عالما بالسنة .

                                                                                                          [ ص: 55 ] وأخرج ابن عبد البر ، عن حسين بن عروة ، عن مالك قال : قدم علينا الزهري فأتيناه ومعنا ربيعة فحدثنا بنيف وأربعين حديثا ، ثم أتيناه من الغد فقال : انظروا كتابا حتى أحدثكم منه ، أرأيتم ما حدثتكم أمس أي شيء في أيديكم منه ؟ فقال له ربيعة : هاهنا من يورد عليك ما حدثت به أمس ، قال : ومن هو ؟ قال : ابن أبي عامر ، قال : هات فحدثته بأربعين حديثا منها ، فقال الزهري : ما كنت أظن أنه بقي أحد يحفظ هذا غيري .

                                                                                                          وقال يحيى بن سعيد القطان ويحيى بن معين : مالك أمير المؤمنين في الحديث . زاد ابن معين : كان مالك من حجج الله على خلقه ، إمام من أئمة المسلمين مجمع على فضله .

                                                                                                          وقال الشافعي : إذا جاء الأثر فمالك النجم ، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم الثاقب ، ولم يبلغ أحد مبلغ مالك في العلم لحفظه وإتقانه وصيانته ، وما أحد أمن علي في علم الله من مالك ، وجعلت مالكا حجة بيني وبين الله ، ومالك وابن عيينة القرينان لولاهما لذهب علم الحجاز ، والعلم يدور على ثلاثة : مالك وابن عيينة والليث بن سعد .

                                                                                                          وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : قلت لأبي : من أثبت أصحاب الزهري ؟ قال : مالك أثبت في كل شيء .

                                                                                                          وقال ابن وهب : لولا مالك والليث لضللنا .

                                                                                                          وكان الأوزاعي إذا ذكر مالكا قال : عالم العلماء ، وعالم أهل المدينة ، ومفتي الحرمين .

                                                                                                          وقال ابن عيينة لما بلغته وفاته : ما ترك على الأرض مثله . وقال : مالك إمام وعالم أهل الحجاز ، ومالك حجة في زمانه ، ومالك سراج الأمة ، وإنما كنا نتبع آثار مالك ، وقدمه ابن حنبل على الثوري والليث والحكم وحماد والأوزاعي في العلم ، وقال : هو إمام في الحديث والفقه . وسئل عن من تريد أن تكتب الحديث وفي رأي من تنظر ؟ فقال : حديث مالك ورأي مالك .

                                                                                                          وقال سفيان بن عيينة في حديث : " يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة " أخرجه مالك والترمذي وحسنه ، والنسائي والحاكم وصححه ، عن أبي هريرة مرفوعا ؛ نرى أنه مالك بن أنس . وفي رواية : كانوا يرونه ، قال ابن مهدي : يعني سفيان بقوله : كانوا التابعين . وقال غيره : هو إخبار عن غيره من نظرائه أو ممن هو فوقه . وفي رواية عن سفيان : كنت أقول هو ابن المسيب ، حتى قلت : كان في زمانه سليمان بن يسار وسالم وغيرهما ثم أصبحت اليوم أقول إنه مالك ، وذلك أنه عاش حتى لم يبق له نظير بالمدينة .

                                                                                                          قال القاضي عبد الوهاب : لا ينازعنا في هذا الحديث أحد من أرباب المذاهب ؛ إذ [ ص: 56 ] ليس منهم من له إمام من أهل المدينة فيقول هو إمامي ، ونحن نقول : إنه صاحبنا بشهادة السلف له ، وبأنه إذا أطلق بين العلماء قال عالم المدينة وإمام دار الهجرة ، فالمراد به مالك دون غيره من علمائها .

                                                                                                          قال عياض : فوجه احتجاجنا بهذا الحديث من ثلاثة أوجه : الأول : تأويل السلف أن المراد به مالك وما كانوا ليقولون ذلك إلا عن تحقيق .

                                                                                                          الثاني : شهادة السلف الصالح له وإجماعهم على تقديمه ، يظهر أنه المراد إذا لم تحصل الأوصاف التي فيه لغيره ولا أطبقوا على هذه الشهادة لسواه .

                                                                                                          الثالث : ما نبه عليه بعض الشيوخ أن طلبة العلم لم يضربوا أكباد الإبل من شرق الأرض وغربها إلى عالم ولا رحلوا إليه من الآفاق رحلتهم إلى مالك :

                                                                                                          فالناس أكيس من أن يحمدوا رجلا من غير أن يجدوا آثار إحسان

                                                                                                          وروى أبو نعيم عن المثنى بن سعيد سمعت مالكا يقول : " ما بت ليلة إلا رأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                          وأخرج ابن عبد البر وغيره ، عن مصعب بن عبد الله الزبيري ، عن أبيه قال : كنت جالسا بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مالك فجاء رجل فقال : أيكم أبو عبد الله مالك ؟ فقالوا : هذا ، فجاء فسلم عليه واعتنقه وقبله بين عينيه وضمه إلى صدره وقال : والله لقد رأيت البارحة رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في هذا الموضع فقال : ( هاتوا مالكا ، فأتي بك ترعد فرائصك ، فقال : ليس عليك بأس يا أبا عبد الله . وكناك وقال : اجلس . فجلست فقال : افتح حجرك . ففتحت فملأه مسكا منثورا . وقال : ضمه إليك وبثه في أمتي . فبكى مالك طويلا وقال : الرؤيا تسر ولا تغر ، وإن صدقت رؤياك فهو العلم الذي أودعني الله .

                                                                                                          ولنمسك عنان القلم فهذه لمع ذكرتها تبركا وتذكرة للقاصر مثلي ، وإلا فترجمته تحتمل عدة أسفار كبار ، وقد أفردها جماعة من المتقدمين والمتأخرين بالتصانيف العديدة . قال ابن عبد البر : ألف الناس في فضائله كتبا كثيرة .

                                                                                                          ولد سنة ثلاث وتسعين على الأشهر . وقيل : سنة تسعين . وقيل : غير ذلك ، وحملت به أمه وهي العالية بنت شريك بن عبد الرحمن الأزدية . وقيل : إنها ( طلحة ) مولاة عبيد الله بن معمر ثلاث سنين على المعروف وقيل : سنتين .

                                                                                                          قال ابن سعد : أنبأنا مطرف بن عبد الله اليساري قال : كان مالك بن أنس طويلا عظيم الهامة أصلع أبيض الرأس واللحية أبيض شديد البياض إلى الشقرة . وقال مصعب الزبيري : كان من أحسن الناس وجها وأحلاهم عينا وأنقاهم بياضا وأتمهم طولا في جودة بدن . وقيل : كان ربعة ، والمشهور الأول .

                                                                                                          [ ص: 57 ] مرض مالك يوم الأحد فأقام مريضا اثنين وعشرين يوما ، ومات يوم الأحد لعشر خلون . وقيل : لأربع عشرة خلت من ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة ، وقال سحنون ، عن عبد الله بن نافع : توفي مالك وهو ابن سبع وثمانين سنة ، وقال الواقدي : بلغ تسعين سنة ، وأقام مفتيا بالمدينة بين أظهرهم ستين سنة . وترك من الأولاد يحيى ومحمدا وحمادا وأم أبيها . قال ابن شعبان : ويحيى يروي عن أبيه نسخة من الموطأ ، ويروى عنه باليمن ، روى عنه محمد بن مسلمة وابنه محمد بن يحيى قدم مصر وكتب عنه ، حدث عنه الحارث بن مسكين ، انتهى .

                                                                                                          ولمحمد ابن الإمام ابن اسمه أحمد سمع جده مالكا ومات سنة ست وخمسين ومائتين ، ذكره البرقاني في كتاب " الضعفاء " ، وذكره غيره ، وبلغت تركة الإمام ثلاثة آلاف دينار وثلاثمائة دينار ونيفا . قال بكر بن سليم الصواف : دخلنا على مالك في العشية التي قبض فيها فقلنا : كيف تجدك ؟ قال : لا أدري ما أقول لكم إلا أنكم ستعاينون غدا من عفو الله ما لم يكن في حساب ، قال : ثم ما رحنا حتى أغمضناه . رواه الخطيب . وقيل : إنه تشهد ثم قال : لله الأمر من قبل ومن بعد . ورأى عمر بن يحيى بن سعيد الأنصاري ليلة مات مالك قائلا يقول :


                                                                                                          لقد أصبح الإسلام زعزع ركنه غداة ثوى الهادي لدى ملحد القبر     إمام الهدى ما زال للعلم صائنا
                                                                                                          عليه سلام الله في آخر الدهر

                                                                                                          قال : فانتبهت وكتبت البيتين في السراج وإذا بصارخة على مالك رحمه الله .

                                                                                                          الرواة عن الإمام مالك :

                                                                                                          والرواة عنه فيهم كثرة جدا بحيث لا يعرف لأحد من الأئمة رواة كرواته . وقد ألف الخطيب كتابا في الرواة عنه أورد فيه ألف رجل إلا سبعة . وذكر عياض أنه ألف فيهم كتابا ذكر فيه نيفا على ألف وثلاثمائة اسم ، وعد في مداركه نيفا على ألف ثم قال : إنما ذكرنا المشاهير وتركنا كثيرا ، فممن روى عنه من شيوخه من التابعين :

                                                                                                          ابن شهاب مات قبل مالك بخمس وخمسين سنة ، وأبو الأسود يتيم عروة مات قريبا من ذلك ، وأيوب السختياني مات قبله بتسع وأربعين سنة ، وربيعة بثلاث وأربعين ، ويحيى بن سعيد الأنصاري بست وثلاثين ، وموسى بن عقبة بثمان وثلاثين ، وهشام بن عروة بأكثر من ثلاثين ، ونافع القاري ، ومحمد بن عجلان ، وأبو النضر سالم ، ومحمد بن أبي ذئب ، وعبد الملك بن جريج ومات قبله بثلاثين ، وسليمان الأعمش ، وخلق .

                                                                                                          ومن أقرانه : [ ص: 58 ] السفيانان ، والحمادان ، والليث ، والأوزاعي ومات قبله بعشرين سنة ، وشعبة بن الحجاج ومات قبله بسبع عشرة ، وأبو إسحاق الفزاري ، وأبو حنيفة ومات قبله بثلاثين سنة ، وابن لهيعة ، وشريك بن عبد الله القاضي ، وخلق كثير .

                                                                                                          الدارقطني : لا أعلم أحدا ممن تقدم أو تأخر اجتمع له ما اجتمع لمالك ، روى عنه رجلان حديثا واحدا بين وفاتيهما نحو من مائة وثلاثين سنة . الزهري شيخه توفي سنة خمس وعشرين ومائة ، وأبو حذافة السهمي توفي بعد الخمسين ومائتين ، ورويا عنه حديث الفريعة بنت مالك في سكنى المعتدة .

                                                                                                          وأما الذين رووا عنه الموطأ فمن أهل المدينة : معن بن عيسى القزاز ، وعبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي المدني ثم البصري بموحدة سمع من الإمام نصف الموطأ وقرأ هو عليه النصف الباقي ، وأبو مصعب أحمد بن أبي بكر بن القاسم بن الحارث الزهري ، وبكار ومصعب ابنا عبد الله ، وعتيق بن يعقوب الزبيريون ، ومطرف بن عبد الله ، وإسماعيل وعبد الحميد ابنا أبي أويس عبد الله ، وأيوب بن صالح وسكن الرملة ، وسعيد بن داود ، ومحرز المدني . قال عياض : وأظنه ابن هارون الهديري - بضم الهاء مصغر - ، ويحيى بن الإمام مالك ذكره ابن شعبان وغيره ، وفاطمة بنت الإمام ، وإسحاق بن إبراهيم الحنيني ، وعبد الله بن نافع ، وسعد بن عبد الحميد الأنصاري . ذكرهم الحافظ شمس الدين ابن ناصر سبعة عشر .

                                                                                                          ومن أهل مكة : يحيى بن قزعة - بفتح القاف والزاي والعين المهملة - ، والإمام الشافعي حفظ الموطأ بمكة وهو ابن عشر في تسع ليال . وقيل : في ثلاث ليال ثم رحل إلى مالك فأخذه عنه .

                                                                                                          ومن أهل مصر : عبد الله بن وهب ، وعبد الرحمن بن القاسم ، وعبد الله بن عبد الحكم ، ويحيى بن عبد الله بن بكير - بضم الباء مصغر - وقد ينسب إلى جده في " الديباج " أنه سمع من مالك الموطأ سبع عشرة مرة ، وسعيد بن كثير بن عفير - بمهملة وفاء ، مصغر - الأنصاري وينسب إلى جده ، وعبد الرحيم بن خالد ، وحبيب بن أبي حبيب وإبراهيم وقيل : مرزوق كاتب مالك وأشهب ، ذكرهم ابن عبد البر وغيره ، وعبد الله بن يوسف التنيسي - بكسر الفوقية والنون وإسكان التحتية - وأصله دمشقي ، وذو النون المصري . عدهم ابن ناصر أحد عشر .

                                                                                                          ومن أهل العراق وغيرهم : عبد الرحمن بن مهدي النصري ذكره جماعة ، وسويد بن سعيد بن سهل الهروي ، وقتيبة بن سعيد بن جميل - بفتح الجيم - البلخي ، ويحيى بن يحيى التميمي الحنظلي النيسابوري ، وإسحاق بن عيسى الطباع - بطاء مهملة وموحدة مفتوحتين - البغدادي ، ومحمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة ، وسليمان بن برد - بضم الموحدة وسكون الراء - بن نجيح التجيبي ، وأبو حذافة - بضم المهملة فمعجمة فألف ففاء - أحمد بن إسماعيل السهمي البغدادي سماعه للموطأ صحيح وخلط في غيره ، ومحمد بن شروس [ ص: 59 ] الصنعاني ، وأبو قرة السكسكي - بضم القاف وشد الراء - واسمه موسى بن طارق ، وأحمد بن منصور الحراني ، ومحمد بن المبارك الصوري ، وبربر - بموحدتين مفتوحتين بعد كل راء بلا نقط المغني - بضم الميم ومعجمة - نسبة إلى الغناء بغدادي ، وإسحاق بن موسى الموصلي مولى بني مخزوم ذكره الخطيب البغدادي ، ويحيى بن سعيد القطان ، وروح بن عبادة ، وجويرية بن أسماء - بلفظ تصغير جارية - ، وأبو الوليد الطيالسي هشام بن عبد الملك البصريون ، وأبو نعيم الفضل بن دكين الكوفي ، ومحمد بن يحيى السبئي اليماني ، والوليد بن السائب القرشي ، ومحمد بن صدقة الفدكي ، والماضي بن محمد بن مسعود الغافقي ، ومحمد بن النعمان بن شبل الباهلي ، وعبيد الله بن محمد العيشي ، ومحمد بن معاوية الحضرمي ، ومحمد بن بشير المغافري الناجي ، ويحيى بن مضر القيسي ذكرهم ابن ناصر ، تسعة وعشرون .

                                                                                                          ومن أهل المغرب من الأندلس : زياد بن عبد الرحمن الملقب شبطون - بشين معجمة فموحدة وطاء مهملة - سمع " الموطأ " من مالك ، ويحيى بن يحيى الليثي ، وحفص وحسان ابنا عبد السلام ، والغاز - بغين معجمة فألف فزاي منقوطة - بن قيس ، وقرعوس بن العباس - بضم القاف وسكون الراء وضم العين المهملتين ، وبكسر القاف وإسكان الراء وفتح العين بزنة فردوس ، وزنبور ، وسعيد بن عبد الحكم ، وسعيد بن أبي هند ، وسعيد بن عبدوس ، وعباس بن صالح ، وعبد الرحمن بن عبد الله ، وعبد الرحمن بن هند ، وشبطون بن عبد الله الأنصاري الطليطليان - بضم الطاء الأولى - نسبة إلى مدينة بالأندلس .

                                                                                                          ومن القيروان : أسد بن الفرات ، وخلف بن جرير بن فضالة .

                                                                                                          ومن تونس : علي بن زياد ، وعيسى بن شجرة سبعة عشر .

                                                                                                          ومن أهل الشام : عبد الأعلى بن مسهر الغساني ، وعبيد بن حبان - بكسر المهملة وشد الموحدة - الدمشقيان ، وعتبة - بالفوقية - بن حماد الدمشقي إمام الجامع ، ومروان بن محمد ، وعمر بن عبد الواحد السلمي دمشقيان أيضا ، ويحيى بن صالح الوحاظي - بضم الواو وخفة المهملة ثم معجمة - الحمصي ؛ ذكر الأربعة ابن ناصر ، وخالد بن نزار الأيلي - بفتح الهمزة وسكون التحتية - سبعة .

                                                                                                          قال عياض بعد ذكر غالبهم : فهؤلاء الذين حققنا أنهم رووا عنه الموطأ ، ونص على ذلك المتكلمون في الرجال ، وذكروا أيضا أن محمد بن عبد الله الأنصاري البصري أخذه عنه كتابة ، وإسماعيل بن إسحاق مناولة ، يعني وهو غير إسماعيل القاضي ؛ لأنه ولد سنة مائتين فلم يدرك مالكا ، قال : وأما أبو يوسف القاضي فرواه عن رجل - يعني أسد بن الفرات - عن مالك ، قال : وذكروا أيضا أن الرشيد وبنيه الأمين والمأمون والمؤتمن أخذوا عنه " الموطأ " ، وأن المهدي والهادي سمعا منه ورويا عنه ، وأنه كتب الموطأ للهادي ، قال : ولا مرية أن رواة الموطأ أكثر من هؤلاء ، ولكن إنما ذكرنا منهم من بلغنا نصا سماعه له منه وأخذه له عنه أو من اتصل إسنادنا له فيه عنه . قال : والذي اشتهر من نسخ الموطأ ممن رويته أو وقفت عليه أو كان في روايات شيوخنا أو [ ص: 60 ] نقل منه أصحاب اختلاف الموطآت نحو عشرين نسخة ، وذكر بعضهم أنها ثلاثون نسخة ، وقد رأيت الموطأ رواية محمد بن حميد بن عبد الرحيم الصنعاني ، عن مالك وهو غريب ، ولم يقع لأصحاب اختلاف الموطآت ، فلذا لم يذكروا منه شيئا ، انتهى .

                                                                                                          وقال الحافظ صلاح الدين العلائي : روى " الموطأ " عن مالك جماعات كثيرة ، وبين رواياتهم اختلاف من تقديم وتأخير وزيادة ونقص ، وأكبرها رواية القعنبي ، ومن أكبرها وأكثرها زيادات رواية أبي مصعب ، فقد قال ابن حزم : في رواية أبي مصعب زيادة على سائر الموطآت نحو مائة حديث .

                                                                                                          وقال السيوطي : في رواية محمد بن الحسن أحاديث يسيرة زيادة على سائر الموطآت منها حديث : " إنما الأعمال بالنية " الحديث ، وبذلك يتبين صحة قول من عزا روايته إلى الموطأ ووهم من خطأه في ذلك ، انتهى .

                                                                                                          ومراده الرد على قول " فتح الباري " : هذا الحديث متفق على صحته أخرجه الأئمة المشهورون إلا " الموطأ " ، ووهم من زعم أنه في " الموطأ " مغترا بتخريج الشيخين له والنسائي من طريق مالك ، انتهى . وقال في " منتهى الآمال " : لم يهم ، فإنه وإن لم يكن في الروايات الشهيرة فإنه في رواية محمد بن الحسن أورده في آخر كتاب النوادر . وقيل : آخر الكتاب بثلاث ورقات ، وتاريخ النسخة التي وقفت عليها مكتوبة في صفر سنة أربع وسبعين وخمسمائة ، وفيها أحاديث يسيرة زائدة على الروايات مشهورة ، وهي خالية من عدة أحاديث ثابتة في سائر الروايات .

                                                                                                          وفي " الإرشاد " للخليلي قال أحمد بن حنبل : كنت سمعت " الموطأ " من بضعة عشر رجلا من حفاظ أصحاب مالك فأعدته على الشافعي لأني وجدته أقومهم .

                                                                                                          وقال ابن خزيمة : سمعت نصر بن مرزوق يقول : سمعت يحيى بن معين يقول : أثبت الناس في " الموطأ " عبد الله بن مسلمة القعنبي وعبد الله بن يوسف التنيسي بعده .

                                                                                                          قال الحافظ : وهكذا أطلق ابن المديني والنسائي أن القعنبي أثبت الناس في الموطأ ، وذلك محمول على أهل عصره فإنه عاش بعد الشافعي بضع عشرة سنة ، ويحتمل أن تقديمه عند من قدمه باعتبار أنه سمع كثيرا من الموطأ من لفظ مالك بناء على أن السماع من لفظ الشيخ أثبت من القراءة عليه .

                                                                                                          وقال أبو حاتم : أثبت أصحاب مالك وأوثقهم معن بن عيسى ، انتهى .

                                                                                                          وفي " الديباج " قال النسائي : ابن القاسم ثقة رجل صالح ، سبحان الله ما أحسن حديثه وأصحه عن مالك ، ليس يختلف في كلمة ولم يرو أحد الموطأ عن مالك أثبت من ابن القاسم ، وليس أحد من أصحاب مالك عندي مثله ، قيل له : فأشهب ؟ قال : ولا أشهب ولا غيره ، وهو أعجب من العجب ، الفضل والزهد وصحة الرواية وحسن الحديث ، حديثه يشهد له ، انتهى .

                                                                                                          فقد اختلف النقل عن النسائي في أثبت رواة الموطأ . وقال محمد بن عبد الحكم : أثبت [ ص: 61 ] الناس في مالك ابن وهب وهو أفقه من ابن القاسم إلا أنه كان يمنعه الورع من الفتيا . وقال أصبغ : ابن وهب أعلم أصحاب مالك بالسنن والآثار إلا أنه روى عن الضعفاء . وذكر الحافظ مغلطاي أنه والقعنبي عند المحدثين أوثق وأتقن من جميع من روى عن مالك . وتعقبه الحافظ بأنه غير واحد قالوا : ابن وهب لم يكن جيد التحمل فكيف ينقل هذا الرجل أنه أوثق وأتقن أصحاب مالك ؟ انتهى .

                                                                                                          وقال بعض الفضلاء : اختار أحمد في " مسنده " رواية ابن مهدي ، والبخاري رواية التنيسي ، ومسلم رواية يحيى بن يحيى النيسابوري التميمي ، وأبو داود رواية القعنبي ، والنسائي رواية قتيبة بن سعيد ، انتهى .

                                                                                                          وهذا كله أغلبي ، وإلا فقد روى كل ممن ذكر عن غير من عينه ، ويحيى النيسابوري شيخ البخاري ومسلم وليس هو صاحب الرواية المشهورة الآن فإنه أندلسي وقد يلتبسان على من لا يعلم . ورواه عن الأندلسي ابنه عبيد الله - بضم العين - ومحمد بن وضاح الحافظ الأندلسي .

                                                                                                          قال القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي : الموطأ هو الأصل الأول ، و " اللباب " و " البخاري " الأصل الثاني في هذا الباب ، وعليها بنى الجميع كمسلم والترمذي . قال : وذكر ابن الهياب أن مالكا روى مائة ألف حديث جمع منها الموطأ عشرة آلاف ، ثم لم يزل يعرضها على الكتاب والسنة ويختبرها بالآثار والأخبار حتى رجعت إلى خمسمائة .

                                                                                                          وقال إلكيا الهراسي : موطأ مالك كان تسعة آلاف حديث ثم لم يزل ينتقي حتى رجع إلى سبعمائة . وفي " المدارك " عن سليمان بن بلال : ألف مالك الموطأ وفيه أربعة آلاف حديث أو أكثر ، ومات وهي ألف حديث ونيف ، يخلصها عاما عاما بقدر ما يرى أنه أصلح للمسلمين وأمثل في الدين .

                                                                                                          وقال أبو بكر الأبهري : جملة ما في الموطأ من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين ألف وسبعمائة وعشرون حديثا ، المسند منها ستمائة حديث ، والمرسل مائتان واثنان وعشرون حديثا ، والموقوف ستمائة وثلاثة عشر . ومن قول التابعين مائتان وخمسة وثمانون . وقال الغافقي : " مسند الموطأ " ستمائة حديث وستة وستون حديثا .

                                                                                                          وأخرج ابن عبد البر عن عمر بن عبد الواحد صاحب الأوزاعي : عرضنا على مالك الموطأ في أربعين يوما فقال : كتاب ألفته في أربعين سنة أخذتموه في أربعين يوما ما أقل ما تفقهون فيه .

                                                                                                          وأخرج أبو نعيم في " الحلية " عن أبي خليد قال : أقمت على مالك فقرأت الموطأ في أربعة أيام فقال مالك : علم جمعه شيخ في ستين سنة أخذتموه في أربعة أيام لا فقهتم أبدا .

                                                                                                          [ ص: 62 ] وقال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الكتاني الأصفهاني : قلت لأبي حاتم الرازي : موطأ مالك لم سمي الموطأ ؟ فقال : شيء صنعه ووطأه للناس حتى قيل " موطأ مالك " كما قيل " جامع سفيان " . وروى أبو الحسن بن فهر ، عن علي بن أحمد الخلنجي : سمعت بعض المشايخ يقول : قال مالك : عرضت كتابي هذا على سبعين فقيها من فقهاء المدينة فكلهم واطأني عليه فسميته الموطأ . قال ابن فهر : لم يسبق مالكا أحد إلى هذه التسمية ، فإن من ألف في زمانه بعضهم سمى بالجامع ، وبعضهم سمى بالمصنف ، وبعضهم بالمؤلف ، ولفظة الموطأ بمعنى الممهد المنقح .

                                                                                                          وأخرج ابن عبد البر عن الفضل بن محمد بن حرب المدني قال : أول من عمل كتابا بالمدينة على معنى الموطأ - من ذكر ما اجتمع عليه أهل المدينة - عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون وعمل ذاك كلاما بغير حديث فأتى به مالك فنظر فيه فقال : ما أحسن ما عمل ولو كنت أنا الذي عملت ابتدأت بالآثار ثم سددت ذلك بالكلام .

                                                                                                          قال : ثم إن مالكا عزم على تصنيف الموطأ فصنفه فعمل من كان بالمدينة يومئذ من العلماء الموطآت ، فقيل لمالك : شغلت نفسك بعمل هذا الكتاب وقد شركك فيه الناس وعملوا أمثاله فقال : ائتوني بما عملوا فأتي بذلك فنظر فيه وقال : لتعلمن أنه لا يرتفع إلا ما أريد به وجه الله ، قال : فكأنما ألقيت تلك الكتب في الآبار وما سمعت لشيء منها بعد ذلك بذكر .

                                                                                                          وروى أبو مصعب أن أبا جعفر المنصور قال لمالك : ضع للناس كتابا أحملهم عليه ، فكلمه مالك في ذلك فقال : ضعه فما أحد اليوم أعلم منك ، فوضع الموطأ فما فرغ منه حتى مات أبو جعفر وفي رواية : أن المنصور قال : ضع هذا العلم ودون كتابا وجنب فيه شدائد ابن عمر ، ورخص ابن عباس ، وشواذ ابن مسعود ، واقصد أوسط الأمور وما أجمع عليها الصحابة والأئمة .

                                                                                                          وفي رواية أنه قال له : اجعل هذا العلم علما واحدا ، فقال له : إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في البلاد فأفتى كل في مصره بما رأى ، فلأهل المدينة قول ، ولأهل العراق قول تعدوا فيه طورهم ، فقال : أما أهل العراق فلا أقبل منهم صرفا ولا عدلا وإنما العلم علم أهل المدينة فضع للناس العلم .

                                                                                                          وفي رواية عن مالك فقلت له : إن أهل العراق لا يرضون علمنا ، فقال أبو جعفر : يضرب عليه عامتهم بالسيف ، ونقطع عليه ظهورهم بالسياط .

                                                                                                          قال ابن عبد البر : وبلغني عن مطرف بن عبد الله قال : قال لي مالك : ما يقول الناس في موطئي ؟ فقلت له : الناس رجلان محب مطر وحاد مفتر ، فقال لي مالك : إن مد بك عمر فسترى ما يريد الله به .

                                                                                                          [ ص: 63 ] وروى الخطيب عن أبي بكير الزبيري قال : قال الرشيد لمالك : لم نر في كتابك ذكرا لعلي وابن عباس ، فقال : لم يكونا ببلدي ولم ألق رجالهما ، فإن صح هذا فكأنه أراد ذكرا كثيرا ، وإلا ففي " الموطأ " أحاديث عنهما .

                                                                                                          قال الغافقي : عدة شيوخه الذين سماهم خمسة وتسعون رجلا ، وعدة صحابته خمسة وثمانون رجلا ، ومن نسائهم ثلاث وعشرون امرأة ، ومن التابعين ثمانية وأربعون رجلا كلهم مدنيون إلا ستة : أبو الزبير المكي ، وحميد وأيوب البصريان ، وعطاء الخراساني ، وعبد الكريم الجزري ، وإبراهيم بن أبي عيلة الشامي .

                                                                                                          وأخرج ابن فهر عن الشافعي : ما على ظهر الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك . وفي لفظ : ما على الأرض كتاب هو أقرب إلى القرآن من كتاب مالك . وفي لفظ : ما بعد كتاب الله أكثر صوابا من موطأ مالك . وفي آخر : ما بعد كتاب الله أنفع من الموطأ . وأطلق جماعة على الموطأ اسم الصحيح ، واعترضوا قول ابن الصلاح : أول من صنف فيه البخاري وإن عبر بقوله : " الصحيح المجرد " للاحتراز عن الموطأ فلم يجرد فيه الصحيح بل أدخل المرسل والمنقطع والبلاغات ، فقد قال مغلطاي : لا فرق بين الموطأ والبخاري في ذلك لوجوده أيضا في البخاري من التعاليق ونحوها ، لكن فرق الحافظ بأن ما في الموطأ كذلك " هو مسموع لمالك غالبا ، وما في البخاري قد حذف إسناده عملا لأغراض قررت في التعليق ، فظهر أن ما في البخاري من ذلك لا يخرجه عن كونه جرد فيه الصحيح بخلاف الموطأ .

                                                                                                          وقال الحافظ مغلطاي : أول من صنف الصحيح مالك ، وقول الحافظ هو صحيح عنده وعند من يقلده على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع وغيرهما ، لا على الشرط الذي استقر عليه العمل في حد الصحة ، تعقبه السيوطي بأن ما فيه من المراسيل مع كونها حجة عنده بلا شرط وعند من وافقه من الأئمة هي حجة عندنا أيضا ؛ لأن المرسل حجة عندنا إذا اعتضد ، وما من مرسل في الموطأ إلا وله عاضد أو عواضد ، فالصواب إطلاق أن الموطأ صحيح لا يستثنى منه شيء . وقد صنف ابن عبد البر كتابا في وصل ما في الموطأ من المرسل والمنقطع والمعضل قال : وجميع ما فيه من قوله بلغني ، ومن قوله عن الثقة عنده مما لم يسنده أحد وستون حديثا كلها مسندة من غير طريق مالك إلا أربعة لا تعرف :

                                                                                                          أحدها : إني لا أنسى ولكن أنسى لأسن .

                                                                                                          والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك ، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغه غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر خيرا من ألف شهر .

                                                                                                          [ ص: 64 ] والثالث : قول معاذ : آخر ما أوصاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وضعت رجلي في الغرز أن قال : " حسن خلقك للناس " .

                                                                                                          والرابع : إذا نشأت حجرية ثم تشاءمت فتلك عين عديقة . والموطأ من أوائل ما صنف .

                                                                                                          قال في " مقدمة فتح الباري " : اعلم أن آثار النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن في عصر الصحابة وكبار تابعيهم مدونة في الجوامع ولا مرتبة لأمرين ؛ أحدهما : أنهم كانوا في ابتداء الحال قد نهوا عن ذلك كما في " مسلم " خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن .

                                                                                                          والثاني : سعة حفظهم وسيلان أذهانهم ، ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة ، ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار وتبويب الأخبار لما انتشر العلماء في الأمصار ، وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الأقدار ، فأول من جمع ذلك الربيع بن صبيح وسعيد بن أبي عروبة وغيرهما ، فصنفوا كل باب على حدة ، إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة في منتصف القرن الثاني فدونوا الأحكام .

                                                                                                          فصنف الإمام مالك " الموطأ " وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز ، ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين .

                                                                                                          وصنف ابن جريج بمكة ، والأوزاعي بالشام ، وسفيان الثوري بالكوفة ، وحماد بن سلمة بالبصرة ، وهشيم بواسط ، ومعمر باليمن ، وابن المبارك بخراسان ، وجرير بن عبد الحميد بالري ، وكان هؤلاء في عصر واحد فلا يدرى أيهم سبق ، ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم إلى أن رأى بعض الأئمة أن يفرد حديث النبي صلى الله عليه وسلم خاصة وذلك على رأس المائتين فصنفوا المسانيد ، انتهى .

                                                                                                          وقال أبو طالب المكي في " القوت " : هذه الكتب حادثة بعد سنة عشرين أو ثلاثين ومائة ، ويقال أول ما صنف كتاب ابن جريج بمكة في الآثار وحروف من التفاسير ، ثم كتاب معمر باليمن جمع فيه سننا منثورة مبوبة ، ثم " الموطأ " بالمدينة ، ثم ابن عيينة " الجامع " ، والتفسير في أحرف من علم القرآن وفي الأحاديث المتفرقة ، و " جامع " سفيان الثوري صنفه أيضا في هذه المدة وقيل : إنها صنفت سنة ستين ومائة ، انتهى .

                                                                                                          وأفاد في " الفتح " أن أول من دون الحديث ابن شهاب بأمر عمر بن عبد العزيز ، يعني كما رواه أبو نعيم من طريق محمد بن الحسن بن زبالة ، عن مالك قال : أول من دون العلم ابن شهاب .

                                                                                                          وأخرج الهروي في " ذم الكلام " من طريق يحيى بن سعيد ، عن عبد الله بن دينار قال : لم يكن الصحابة ولا التابعون يكتبون الأحاديث إنما كانوا يؤدونها لفظا ويأخذونها حفظا إلا كتاب الصدقات والشيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء ، حتى خيف عليه الدروس ، وأسرع في العلماء الموت ، أمر عمر بن عبد العزيز أبا بكر الحزمي فيما كتب [ ص: 65 ] إليه : أن انظر ما كان من سنة أو حديث عمر فاكتبه .

                                                                                                          وقال مالك في " الموطأ " رواية محمد بن الحسن : أخبرنا يحيى بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم : أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنة أو حديث أو نحو هذا فاكتبه لي فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء . علقه البخاري في صحيحه " ، وأخرجه أبو نعيم في " تاريخ أصبهان " بلفظ : كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه . وروى ابن عبد الرزاق عن ابن وهب سمعت مالكا يقول : كان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يعلمهم السنة والفقه ، ويكتب إلى المدينة يسألهم عما مضى وأن يعملوا بما عندهم ، ويكتب إلى أبي بكر بن حزم أن يجمع السنن ، ويكتب بها إليه ، فتوفي عمر وقد كتب ابن حزم كتبا قبل أن يبعث بها إليه . وأفاد في " المدارك " أنه لم يعتن بكتاب من كتب الحديث والعلم اعتناء الناس بالموطأ ، فعد نحو تسعين رجلا تكلموا عليه شروحا وغيرها من تعلقاته ، وقال فيه عياض رحمه الله :


                                                                                                          إذا ذكرت كتب العلوم فحيهل     بكتب الموطأ من تصانيف مالك
                                                                                                          أصح أحاديثا وأثبت حجة     وأوضحها في الفقه نهجا لسالك
                                                                                                          عليه مضى الإجماع من كل أمة     على رغم خيشوم الحسود المماحك
                                                                                                          فعنه فخذ علم الديانة خالصا     ومنه استفد شرع النبي المبارك


                                                                                                          وشد به كف الصيانة تهتدي     فمن حاد عنه هالك في الهوالك

                                                                                                          [ ص: 66 ] ثم إن الإمام رحمه الله تعالى ابتدأ بقوله : بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                          مقتصرا عليها كأكثر المتقدمين دون الحمد والشهادة مع ورود قوله صلى الله عليه وسلم : " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله أقطع " ، وقوله : " كل خطبة ليس فيها شهادة فهي كاليد الجذماء " أخرجهما أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة . قال الحافظ : لأن الحديثين في كل منهما مقال سلمنا صلاحيتهما للحجة ، لكن ليس فيهما أن ذلك متعين بالنطق والكتابة معا ، فلعله حمد وتشهد نطقا عند وضع الكتاب ولم يكتب ذلك اقتصارا على البسملة ؛ لأن القدر الذي يجمع الأمور الثلاثة ذكر الله وقد حصل بها ، ويؤيده أن أول شيء نزل من القرآن اقرأ باسم ربك [ سورة العلق : الآية 1 ] فطريق التأسي به الافتتاح بالبسملة والاقتصار عليها . ويؤيده أيضا وقوع كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك ، وكتبه في القضايا مفتتحة بالتسمية دون حمدلة وغيرها كما في حديث أبي سفيان في قصة هرقل ، وحديث البراء في قصة سهيل بن عمرو في صلح الحديبية ، وغير ذلك من الأحاديث ، قال : وهذا يشعر بأن لفظ الحمد والشهادة إنما يحتاج إليه في الخطب دون الرسائل والوثائق ، فكأن المصنف لما لم يفتتح بخطبة أجراه مجرى الرسائل إلى أهل العلم لينتفعوا بما فيه تعلما وتعليما . وأجيب أيضا بأنه تعارض عنده الابتداء بالتسمية أو الحمد ، فلو ابتدأ بالحمد لخالف العادة أو البسملة لم يعد مبتديا بالحمدلة فاكتفى بالتسمية . وتعقب بأنه لو جمع بينهما لكان مبتديا بالحمد بالنسبة إلى ما بعد التسمية ، وهذه هي النكتة في حذف الواو فيكون أولى لموافقة الكتاب العزيز ، فإن الصحابة افتتحوا كتابتهم في الإمام الكبير بالتسمية ثم الحمد تلوها ، وتبعهم جميع من كتب المصحف بعدهم في جميع الأمصار من يقول بأن البسملة آية من أول الفاتحة ومن لا يقول بذلك . وأجيب أيضا بأنه راعى قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ( سورة الحجرات : الآية 1 ) فلم يقدم على كلام رسوله شيئا واكتفى به عن كلام نفسه وتعقب بأنه كان يمكنه أن يأتي بلفظ الحمد من كلام الله تعالى ، وأيضا [ ص: 67 ] قد قدم الترجمة وهي من كلامه ، وكذا السند قبل الحديث .

                                                                                                          والجواب عن ذلك بأن الترجمة والسند وإن كانا مقدمين لفظا لكنهما متأخران تقديرا ، فيه نظر ؛ أي : لأن التقديم والتأخير من أحكام الظاهر لا التقدير ، فهو في الظاهر مقدم وإن كان في نية التأخير ، وأبعد من ذلك كله قول من ادعى أنه ابتدأ بخطبة فيها حمد وشهادة فحذفها الرواة عنه ، وكأن قائل هذا ما رأى تصانيف الأئمة الذين لا يحصون ممن لم يقدم في ابتداء تصنيفه خطبة ولم يزد على التسمية وهم الأكثر ، كمالك وعبد الرزاق وأحمد والبخاري وأبي داود فيقال له في كل هؤلاء : إن الرواة عنه حذفوا ذلك كله ، بل يحمل ذلك على أنه من صنيعه ، على أنهم حمدوا لفظا ، أو أنهم رأوا ذلك مختصا بالخطب دون الكتب كما تقدم ، ولهذا قل من افتتح كتابه منهم بخطبة حمد وتشهد كما صنعه مسلم ، وقد استقر عمل الأئمة المصنفين على افتتاح كتب العلم بالبسملة وكذا معظم كتب الرسائل ، واختلف القدماء فيما إذا كان الكتاب كله شعرا فجاء عن الشعبي منع ذلك . وعن الزهري قال : مضت السنة أن لا يكتب في الشعر بسم الله الرحمن الرحيم . وعن سعيد بن جبير جواز ذلك ، وقال الخطيب : هو المختار ، انتهى .

                                                                                                          وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس : " أن عثمان سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن بسم الله الرحمن الرحيم فقال : " هو اسم من أسماء الله تعالى وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين سواد العين وبياضها من القرب " .

                                                                                                          وروى ابن مردويه عن جابر : " لما نزلت بسم الله الرحمن الرحيم ( سورة الفاتحة : الآية 1 ) هرب الغيم إلى المشرق وسكنت الرياح وماج البحر وأصغت البهائم بآذانها ورجمت الشياطين وحلف الله بعزته وجلاله أن لا يذكر اسمه على شيء إلا بارك فيه " .

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          الخدمات العلمية