الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
كتاب الصلاة الثاني

ولأن الصلاة التي ليست بمفروضة على الأعيان منها ما هي سنة ، ومنها ما هي نفل ، ومنها ما هي فرض على الكفاية ، وكانت هذه الأحكام منها ما هو متفق عليه ، ومنها ما هو مختلف فيه ، رأينا أن نفرد القول في واحدة واحدة من هذه الصلوات ، وهي بالجملة عشر : ركعتا الفجر ، والوتر ، والنفل ، وركعتا دخول المسجد ، والقيام في رمضان ، والكسوف ، والاستسقاء ، والعيدان ، وسجود القرآن ، فإنه صلاة ما . يشتمل هذا الكتاب على عشرة أبواب ، والصلاة على الميت نذكرها على حدة في باب أحكام الميت على ما جرت به عادة الفقهاء ، وهو الذي يترجمونه بكتاب الجنائز . الباب الأول

القول في الوتر .

واختلفوا في الوتر في خمسة مواضع : منها في حكمه ، ومنها في صفته ، ومنها في وقته ، ومنها في القنوت فيه ، ومنها في صلاته على الراحلة . أما حكمه : فقد تقدم القول فيه عند بيان عدد الصلوات المفروضة .

وأما صفته : فإن مالكا - رحمه الله - استحب أن يوتر بثلاث يفصل بينها بسلام . وقال أبو حنيفة : الوتر [ ص: 169 ] ثلاث ركعات من غير أن يفصل بينها بسلام ، وقال الشافعي : الوتر ركعة واحدة . ولكل قول من هذه الأقاويل سلف من الصحابة والتابعين .

والسبب في اختلافهم : اختلاف الآثار في هذا الباب ، وذلك أنه ثبت عنه - عليه الصلاة والسلام - من حديث عائشة : " أنه كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة " .

وثبت عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " صلاة الليل مثنى مثنى ، فإذا رأيت أن الصبح يدركك فأوتر بواحدة " .

وخرج مسلم عن عائشة : " أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يصلي ثلاث عشرة ركعة ، ويوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها " .

وخرج أبو داود عن أبي أيوب الأنصاري أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : " الوتر حق على كل مسلم ، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل ، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل " .

وخرج أبو داود : " أنه كان يوتر بسبع وتسع وخمس " .

وخرج عن عبد الله بن قيس قال : " قلت لعائشة : بكم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر ؟ قالت : " كان يوتر بأربع وثلاث ، وست وثلاث ، وثمان وثلاث ، وعشر وثلاث ، ولم يكن يوتر بأنقص من سبع ، ولا بأكثر من ثلاث عشرة " .

وحديث ابن عمر عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : " المغرب وتر صلاة النهار " .

فذهب العلماء في هذه الأحاديث مذهب الترجيح .

فمن ذهب إلى أن الوتر ركعة واحدة فمصيرا إلى قوله - عليه الصلاة والسلام - : " فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة " ، وإلى حديث عائشة : " أنه كان يوتر بواحدة " .

ومن ذهب إلى أن الوتر ثلاث من غير أن يفصل بينها ، وقصر حكم الوتر على الثلاث فقط ، فليس يصح له أن يحتج بشيء مما في هذا الباب ، لأنها كلها تقتضي التخيير ما عدا حديث ابن عمر أنه قال - عليه الصلاة والسلام - : " المغرب وتر صلاة النهار " . فإن لأبي حنيفة أن يقول : إنه إذا شبه شيء بشيء وجعل حكمهما واحدا كان المشبه به أحرى أن يكون بتلك الصفة ، ولما شبهت المغرب بوتر صلاة النهار وكانت ثلاثا وجب أن يكون وتر صلاة الليل ثلاثا . وأما مالك فإنه تمسك في هذا الباب بأنه - عليه الصلاة والسلام - لم يوتر قط إلا في أثر شفع ، فرأى أن ذلك من سنة الوتر ، وأن أقل ذلك ركعتان ، فالوتر عنده على الحقيقة إما أن يكون ركعة واحدة ، ولكن من شرطها أن يتقدمها شفع ، وإما أن يرى أن الوتر المأمور به هو يشتمل على شفع ووتر ، فإنه إذا زيد على الشفع وتر صار الكل وترا ، ويشهد لهذا المذهب حديث عبد الله بن قيس المتقدم ، فإنه سمي الوتر فيه العدد المركب من شفع ووتر ، ويشهد لاعتقاده أن الوتر هو الركعة الواحدة أنه كان يقول : كيف يوتر بواحدة ليس قبلها شيء ، وأي شيء يوتر له ؟ وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " توتر له ما قد صلى " . فإن ظاهر هذا القول أنه كان يرى أن الوتر الشرعي هو العدد الوتر بنفسه - أعني : غير المركب من الشفع والوتر - وذلك أن هذا هو وتر لغيره ، وهذا التأويل عليه أولى .

[ ص: 170 ] والحق في هذا : أن ظاهر هذه الأحاديث يقتضي التخيير في صفة الوتر من الواحدة إلى التسع على ما روي ذلك من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والنظر إنما هو في : هل من شرط الوتر أن يتقدمه شفع منفصل أم ليس ذلك من شرطه ؟ فيشبه أن يقال : ذلك من شرطه ، لأنه هكذا كان وتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويشبه أن يقال : ليس ذلك من شرطه لأن مسلما قد خرج : " أنه - عليه الصلاة والسلام - كان إذا انتهى إلى الوتر أيقظ عائشة فأوترت " . وظاهره أنها كانت توتر دون أن تقدم على وترها شفعا .

وأيضا فإنه قد خرج من طريق عائشة : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بتسع ركعات يجلس في الثامنة والتاسعة ، ولا يسلم إلا في التاسعة ، ثم يصلي ركعتين وهو جالس ، فتلك إحدى عشرة ركعة ، فلما أسن وأخذ اللحم أوتر بسبع ركعات ولم يجلس إلا في السادسة والسابعة ، ولم يسلم إلا في السابعة ، ثم يصلي ركعتين وهو جالس ، فتلك تسع ركعات " . وهذا الحديث : فيه الوتر متقدم على الشفع ، ففيه حجة على أنه ليس من شرط الوتر أن يتقدمه شفع ، وأن الوتر ينطلق على الثلاث ، ومن الحجة في ذلك ما روى أبو داود عن أبي بن كعب قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بسبح اسم ربك الأعلى ، وقل يا أيها الكافرون ، وقل هو الله أحد " . وعن عائشة مثله ، وقالت في الثالثة : بقل هو الله أحد ، والمعوذتين " .

وأما وقته : فإن العلماء اتفقوا على أن وقته من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر ، لورود ذلك من طرق شتى عنه - عليه الصلاة والسلام - ، ومن أثبت ما في ذلك : ما خرجه مسلم عن أبي نضرة العوفي أن أبا سعيد أخبرهم أنهم سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوتر فقال : " الوتر قبل الصبح " .

واختلفوا في جواز صلاته بعد الفجر ، فقوم منعوا ذلك وقوم أجازوه ما لم يصل الصبح ، وبالقول الأول : قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة وسفيان الثوري ، وبالثاني : قال الشافعي ومالك وأحمد .

وسبب اختلافهم : معارضة عمل الصحابة في ذلك بالآثار ، وذلك أن ظاهر الآثار الواردة في ذلك أن لا يجوز أن يصلي بعد الصبح كحديث أبي نضرة المتقدم ، وحديث أبي حذيفة العدوي نص في هذا، خرجه أبو داود وفيه : " وجعلها لكم ما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر " . ولا خلاف بين أهل الأصول أن ما بعد ( إلى ) بخلاف ما قبلها إذا كانت غاية ، وإن هذا، وإن كان من باب دليل الخطاب، فهو من أنواعه المتفق عليها ، مثل قوله : ( أتموا الصيام إلى الليل ) وقوله : ( إلى المرافق ) لا خلاف بين العلماء أن ما بعد الغاية بخلاف الغاية .

وأما العمل المخالف في ذلك للأثر : فإنه روي عن ابن مسعود وابن عباس وعبادة بن الصامت وحذيفة وأبي الدرداء وعائشة أنهم كانوا يوترون بعد الفجر وقبل صلاة الصبح ، ولم يرو عن غيرهم من الصحابة خلاف هذا; وقد رأى قوم أن مثل هذا هو داخل في باب الإجماع ، ولا معنى لهذا ، فإنه ليس ينسب إلى ساكت قول قائل - أعني : أنه ليس ينسب إلى الإجماع من لم يعرف له قول في المسألة - . وأما هذه المسألة فكيف يصح أن يقال : إنه لم يرو في ذلك خلاف عن الصحابة ، وأي خلاف أعظم من خلاف الصحابة الذين رووا هذه الأحاديث - أعني : خلافهم لهؤلاء الذين أجازوا صلاة الوتر بعد الفجر .

والذي عندي في هذا أن هذا من فعلهم ليس مخالفا للآثار الواردة في ذلك، ( أعني : في إجازتهم الوتر [ ص: 171 ] بعد الفجر ) ، بل إجازتهم ذلك هو من باب القضاء لا من باب الأداء ، وإنما يكون قولهم خلاف الآثار لو جعلوا صلاته بعد الفجر من باب الأداء ، فتأمل هذا .

وإنما يتطرق الخلاف لهذه المسألة من باب اختلافهم في هل القضاء في العبادة المؤقتة يحتاج إلى أمر جديد أم لا ؟ - أعني : غير أمر الأداء - ، وهذا التأويل بهم أليق ، فإن أكثر ما نقل عنهم هذا المذهب من أنهم أبصروا يقضون الوتر قبل الصلاة وبعد الفجر ، وإن كان الذي نقل عن ابن مسعود في ذلك قولا - أعني : أنه كان يقول : إن وقت الوتر من بعد العشاء الآخرة إلى صلاة الصبح - ، فليس يجب لمكان هذا أن يظن بجميع من ذكرناه من الصحابة أنه يذهب هذا المذهب من قبل أنه أبصر يصلي الوتر بعد الفجر ، فينبغي أن تتأمل صفة النقل في ذلك عنهم .

وقد حكى ابن المنذر في وقت الوتر عن الناس خمسة أقوال :

منها القولان المشهوران اللذان ذكرتهما .

والقول الثالث : أنه يصلي الوتر وإن صلى الصبح ، وهو قول طاوس .

والرابع : أنه يصليها وإن طلعت الشمس ، وبه قال أبو ثور والأوزاعي .

والخامس : أنه يوتر من الليلة القابلة ، وهو قول سعيد بن جبير .

وهذا الاختلاف إنما سببه : اختلافهم في تأكيده وقربه من درجة الفرض ، فمن رآه أقرب أوجب القضاء في زمان أبعد من الزمان المختص به ، ومن رآه أبعد أوجب القضاء في زمان أقرب ، ومن رآه سنة كسائر السنن ضعف عنده القضاء ، إذ القضاء إنما يجب في الواجبات ، وعلى هذا يجيء اختلافهم في قضاء صلاة العيد لمن فاتته ، وينبغي أن لا يفرق في هذا بين الندب والواجب - أعني : أن من رأى أن القضاء في الواجب يكون بأمر متجدد أن يعتقد مثل ذلك في الندب ، ومن رأى أنه يجب بالأمر الأول أن يعتقد مثل ذلك في الندب .

وأما اختلافهم في القنوت فيه : فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يقنت فيه ، ومنعه مالك ، وأجازه الشافعي في أحد قوليه في النصف الآخر من رمضان ، وأجازه قوم في النصف الأول من رمضان ، وقوم في رمضان كله .

والسبب في اختلافهم في ذلك : اختلاف الآثار ، وذلك أنه روي عنه - صلى الله عليه وسلم - القنوت مطلقا ، وروي عنه القنوت شهرا ، وروي عنه أنه آخر أمره لم يكن يقنت في شيء من الصلاة ، وأنه نهى عن ذلك ، وقد تقدمت هذه المسألة .

وأما صلاة الوتر على الراحلة حيث توجهت به : فإن الجمهور على جواز ذلك لثبوت ذلك من فعله - عليه الصلاة والسلام - أعني : أنه كان يوتر على الراحلة - وهو مما يعتمدونه في الحجة على أنها ليست بفرض إذا كان قد صح عنه - عليه الصلاة والسلام - : " أنه كان يتنفل على الراحلة " . ولم يصح عنه أنه صلى قط مفروضة على الراحلة . وأما الحنفية فلمكان اتفاقهم معهم على هذه المقدمة ؛ وهو أن كل صلاة مفروضة لا تصلى على الراحلة ، واعتقادهم أن الوتر فرض ، وجب عندهم من ذلك أن لا تصلى على الراحلة ، وردوا الخبر بالقياس وذلك ضعيف .

التالي السابق


الخدمات العلمية