الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      [ ص: 249 ] الباب الثامن عشر : في وضع الديوان وذكر أحكامه

                                      والديوان موضع لحفظ ما يتعلق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال ومن يقوم بها من الجيوش والعمال ، وفي تسميته ديوانا وجهان : أحدهما أن كسرى اطلع ذات يوم على كتاب ديوانه فرآهم يحسبون مع أنفسهم فقال ديوانه أي مجانين فسمي موضعهم بهذا الاسم ثم حذف الهاء عند كثرة الاستعمال تخفيفا للاسم فقيل ديوان .

                                      والثاني : أن الديوان بالفارسية اسم الشياطين فسمي الكتاب باسمهم لحذقهم بالأمور وقوتهم على الجلي والخفي وجمعهم لما شذ وتفرق ، ثم سمي مكان جلوسهم باسمهم فقيل ديوان .

                                      وأول من وضع الديوان في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

                                      واختلف الناس في سبب وضعه له ، فقال قوم : سببه أن أبا هريرة قدم عليه بمال من البحرين فقال له عمر ماذا جئت به ؟ فقال خمسمائة ألف درهم فاستكثره عمر فقال له : أتدري ما تقول ؟ قال نعم مائة ألف خمس مرات فقال عمر أطيب هو ؟ فقال : لا أدري فصعد عمر المنبر فحمد الله - تعالى وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس قد جاءنا مال كثير ، فإن شئتم كلنا لكم كيلا ، وإن شئتم عددنا لكم عدا ، فقام إليه رجل ، فقال يا أمير المؤمنين : قد رأيت الأعاجم يدونون ديوانا لهم فدون أنت لنا ديوانا .

                                      وقال آخرون بل سببه أن عمر بعث بعثا ، وكان عنده الهرمزان فقال لعمر هذا بعث قد أعطيت أهله الأموال ، فإن تخلف منهم رجل وآجل بمكانه فمن أين يعلم صاحبك به فأثبت لهم ديوانا فسأله عن الديوان حتى فسره لهم .

                                      وروى عابد بن يحيى عن الحارث بن نفيل أن عمر رضي الله عنه استشار المسلمين في تدوين الديوان فقال له [ ص: 250 ] علي بن أبي طالب : رضي الله عنه تقسم كل سنة ما اجتمع إليك من المال ولا تمسك منه شيئا .

                                      وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه : أرى مالا كثيرا يتبع الناس ، فإن لم يحصوا حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر ، فقال خالد بن الوليد قد كنت بالشام فرأيت ملوكها قد دونوا ديوانا وجندوا جنودا فدون ديوانا وجند جنودا فأخذ بقوله ودعا عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم وكانوا من شباب قريش وقال : اكتبوا الناس على منازلهم فبدءوا ببني هاشم فكتبوهم ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه ثم عمر وقومه وكتبوا القبائل ووضعوها على الخلافة ثم رفعوه إلى عمر ، فلما نظر فيه قال : لا ، ما وددت أنه كان هكذا ، ولكن ابدءوا بقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأقرب فالأقرب حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله فشكره العباس رضوان الله عليه على ذلك ، وقال وصلتك رحم وروى زيد بن أسلم عن أبيه أن بني عدي جاءوا إلى عمر فقالوا إنك خليفة رسول الله وخليفة أبي بكر وأبو بكر خليفة رسول الله ; فلو جعلت نفسك حيث جعلك الله سبحانه وجعلك هؤلاء القوم الذين كتبوا فقال بخ بخ يابني عدي أردتم الأكل على ظهري ، وأن أهب حسناتي لكم لا ، ولكنكم حتى تأتيكم الدعوة وأن ينطبق عليكم الدفتر يعني ولو تكتبوا آخر الناس ، إن لي صاحبين سلكا طريقا فإن خالفتهما خولف بي ، ولكنه - والله - ما أدركنا الفضل في الدنيا ، ولا نرجو الثواب عند الله - تعالى - على عملنا إلا بمحمد صلى الله عليه وسلم فهو شرفنا ، وقومه أشرف العرب ثم الأقرب فالأقرب ، والله لئن جاءت الأعاجم بعمل وجئنا بغير عمل لهم أولى بمحمد صلى الله عليه وسلم منا يوم القيامة ، فإن من قصر به عمله لم يرع به نسبه .

                                      وروى عامر أن عمر رضي الله عنه حين أراد وضع الديوان قال : بمن أبدأ ؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف ابدأ بنفسك ، فقال عمر : أذكر أني حضرت مع رسول الله ، وهو يبدأ ببني هاشم وبني عبد المطلب فبدأ بهم عمر ثم بمن يليهم من قبائل قريش بطنا بعد بطن حتى استوفى جميع قريش ، ثم انتهى إلى الأنصار ، فقال عمر ابدءوا برهط سعد بن معاذ من الأوس ثم بالأقرب فالأقرب لسعد . وروى الزهري عن سعيد بن المسيب أنه كان ذلك من المحرم سنة عشرة فلما استقر ترتيب الناس في [ ص: 251 ] الدواوين على قدر النسب المتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم فضل بينهم في العطاء على قدر السابقة في الإسلام والقربى من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر رضي الله عنه يرى التسوية بينهم في العطاء ، ولا يرى التفضيل بالسابقة ، كذلك كان رأي علي رضي الله عنه في خلافته وبه أخذ الشافعي ومالك ، وكان رأي عمر رضي الله عنه التفضيل بالسابقة في الإسلام ، وكذلك رأي عثمان رضي الله عنه بعده ، وبه أخذ أبو حنيفة وفقهاء العراق .

                                      وقد نظر عمر أبا بكر حين سوى بين الناس فقال : أتسوي بين من هاجر الهجرتين وصلى إلى القبلتين ، وبين من أسلم عام الفتح خوف السيف ؟ فقال له أبو بكر إنما عملوا لله ، وإنما أجورهم على الله ، وإنما الدنيا دار بلاغ للراكب فقال له عمر لا أجعل من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم كمن قاتل معه ; فلما وضع الديوان فضل السابقة ففرض لكل من شهد بدرا من المهاجرين الأولين خمسة آلاف درهم في كل سنة : منهم علي بن أبي طالب ، وعثمان بن عفان ، وطلحة بن عبيد الله ، والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم وفرض لنفسه معهم خمسة آلاف درهم وألحق به العباس بن عبد المطلب والحسن والحسين رضوان الله عليهم لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ; وقيل : بل فضل العباس وفرض له سبعة آلاف درهم . وفرض لكل من شهد بدرا من الأنصار أربعة آلاف درهم ، ولم يفضل على أهل بدر أحدا إلا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه فرض لكل واحدة منهن عشرة آلاف درهم إلا عائشة ، فإنه فرض لها اثني عشر ألف درهم ، وألحق بهن جويرية بنت الحارث وصفية بنت حيي وقيل : بل فرض لكل واحدة منهن ستة آلاف درهم ، وفرض لكل من هاجر قبل الفتح ثلاثة آلاف درهم ولمن أسلم بعد الفتح ألف درهم لكل رجل وفرض لغلمان أحداث من أبناء المهاجرين والأنصار كفرائض مسلمي الفتح ، وفرض لعمر بن أبي سلمة المخزومي أربعة آلاف درهم لأن أمه أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقال له محمد بن عبد الله بن جحش : لم تفضل عمر علينا وقد هاجر آباؤنا وشهدوا بدرا ؟ فقال عمر أفضله لمكانه من رسول الله [ ص: 252 ] صلى الله عليه وسلم فليأت الذي يستعتب بأم سلمة أعتبه وفرض لأسامة بن زيد أربعة آلاف درهم فقال له عبد الله بن عمر فرضت لي ثلاثة آلاف درهم وفرضت لأسامة أربعة آلاف درهم وقد شهدت ما لم يشهد أسامة ؟ فقال عمر زدته لأنه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك وكان أبوه أحب إلى رسول الله من أبيك ، ثم فرض للناس على منازلهم وقراءتهم القرآن وجهادهم ، وفرض لأهل اليمن وقيس بالشام والعراق لكل رجل منهم من ألفين إلى ألف إلى خمسمائة إلى ثلاثمائة ، ولم ينقص أحدا منها وقال : لئن كثر المال لأفرض لكل رجل أربعة آلاف درهم ألفا لفرسه وألفا لسلاحه وألفا لسفره وألفا يخلفها في أهله ; وفرض للمنفوس مائة درهم فإذا ترعرع بلغ به مائتي درهم ، فإذا بلغ زاده ، وكان لا يفرض لمولود شيئا حتى يفطم إلى أن سمع امرأة ذات ليلة ، وهي تكره ولدها على الفطام ، وهو يبكي فسألها عنه ؟ فقالت : إن عمر لا يفرض للمولود حتى يفطم فأنا أكرهه على الفطام حتى يفرض له فقال : يا ويل عمركم احتقب من وزر وهو لا يعلم ثم أمر عمر مناديه فنادى : ألا تعجلوا أولادكم بالفطام فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام ، ثم كتب إلى أهل العوالي وكان يجري عليهم القوت ، فأمر بجريب من الطعام فطحن ثم خبز ثم ثرد ثم دعا ثلاثين فأكلوا منه غداهم حتى أصدرهم ، ثم فعل في العشاء مثل ذلك فقال : يكفي الرجل جريبان في كل شهر ، وكان يرزق الرجل والمرأة والمملوكة جريبين في كل شهر ، وكان إذا أراد الرجل أن يدعو على صاحبه قال له : قطع الله عنك جريبك .

                                      وكان الديوان موضوعا على دعوة العرب في ترتيب الناس فيه معتبرا بالنسب ، وتفضيل العطاء معتبرا بالسابقة في الإسلام وحسن الأثر في الدين ، ثم روعي في التفضيل عند انقراض أهل السوابق بالتقدم في الشجاعة والبلاء في الجهد ; فهذا حكم ديوان الجيش في ابتداء وضعه على الدعوة القريبة والترتيب الشرعي .

                                      وأما ديوان الاستيفاء وجباية الأموال فجرى هذا الأمر فيه بعد ظهور الإسلام [ ص: 253 ] بالشام والعراق على ما كان عليه من قبل ، فكان ديوان الشام بالرومية ; لأنه كان من مماليك الروم وكان ديوان العراق بالفارسية ; لأنه كان من مماليك الفرس ، فلم يزل أمرهما جاريا على ذلك إلى زمن عبد الملك بن مروان فنقل ديوان الشام إلى العربية سنة إحدى وثمانين .

                                      وكان سبب نقله إليه ما حكاه المدائني أن بعض كتاب الروم في ديوانه أراد ماء لدواته فبال فيها بدلا من الماء فأدبه ، وأمر سليمان بن سعد أن ينقل الديوان إلى العربية فسأله أن يعينه بخراج الأردن سنة ففعل وولاه الأردن وكان خراجه مائة وثمانين ألف دينار ، فلم تنقض السنة حتى فرغ من الديوان فنقله . وأتى به إلى عبد الملك بن مروان فدعا سرجون كاتبه فعرضه عليه فغمه وخرج كئيبا ; فلقيه قوم من كتاب الروم فقال لهم : اطلبوا المعيشة من غير هذه الصناعة وقد قطعها الله عنكم .

                                      وأما ديوان الفارسية بالعراق فكان سبب نقله إلى العربية أن كاتب الحجاج كان يسمى زاذان فروخ كان معه صالح بن عبد الرحمن يكتب بين يديه بالعربية والفارسية فوصله زاذان فروخ بالحجاج فخف على قلبه فقال صالح لزادان فروخ إن الحجاج قد قربني ولا آمن عليك أن يقدمني عليك ، فقال : لا تظن ذلك فهو إلي أحوج مني إليه ; لأنه لا يجد من يكفيه حسابه غيري ، فقال صالح - والله - لو شئت أن أحول الحساب إلى العربية لفعلت ، قال فحول منه ورقة أو سطرا حتى أرى ففعل ثم قتل زاذان فروخ في أيام عبد الرحمن بن الأشعث ، فاستخلف الحجاج صالحا مكانه فذكر له ما جرى بينه وبين زاذان فروخ ، فأمره أن ينقله فأجابه إلى ذلك وأجله فيه أجلا حتى نقله إلى العربية ، فلما عرف مردان شاه بن زاذان فروخ ذلك بذل له مائة ألف درهم ليظهر للحجاج العجز عنه فلم يفعل ، فقال له قطع الله أوصالك من الدنيا كما قطعت أصل الفارسية ، فكان عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان يقول لله در صالح ما أعظم منته على الكتاب .

                                      التالي السابق


                                      الخدمات العلمية