الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف : رحمه الله تعالى ( وإن كان بعضه جاريا وبعضه راكدا بأن يكون في النهر موضع منخفض يركد فيه الماء ، والماء يجري بجنبه ، والراكد زائل عن سمت الجري فوقع في الراكد نجاسة ، وهو دون قلتين . فإن كان مع الجرية التي يحاذيها يبلغ قلتين فهو طاهر ، وإن لم يبلغ قلتين فهو نجس ، وتنجس كل جرية بجنبها إلى أن يجتمع في موضع قلتان فيطهر ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) هذا الذي ذكره المصنف قد ذكره هكذا أيضا كثيرون ، وقال الشيخ أبو حامد : إن كان الراكد النجس دون قلتين نظر ، إن دخل الجاري على الراكد وخرج منه من الجانب الآخر ، فإن بلغا قلتين فطاهران وإلا فنجسان . وإن لم يدخل على الراكد بل جرى على سننه ، فإن كان الجاري دون قلتين . فهو نجس ; لأنه يلاصق ماء نجسا ، وإن كان قلتين لم ينجس ، ولكن قال الشافعي : لا يطهر به الراكد ; لأنه يفارقه ، وما فارق الشيء فليس معه .

                                      وهذا الذي ذكره أبو حامد ضعيف ، وسلك إمام الحرمين طريقا جامعا مبسوطا في هذه المسألة ، ثم اختصره الغزالي في البسيط . فقال : إذا جرى الماء في حوض طرفاه راكدان فللطرفين حكم الراكد ، وللمتحرك حكم الجاري ، فلو وقعت نجاسة في الجاري لم ينجس الراكد إذا لم نوجب التباعد ، وإن كان الراكد قليلا ; لأنا نجوز رفع الماء من طرفي النجاسة في هذه الصورة ، فلو وقع في الراكد ، وهو دون قلتين نجاسة فهو نجس ، والجاري يلاقي في جريانه ماء نجسا ، وقد يقتضي الحال تنجيسه على ما سبق ، فلو كان الماء يستدير في بعض أطراف الحوض ثم يشتد في المنفذ ، قال الإمام : أرى له حكم الراكد ; لأن الاستدارة في معنى التدافع والتراد يزيد على الركود . ولو كان في وسط النهر حفرة لها عمق ، فقد نقل صاحب التقريب : أن الماء في الحفرة له حكم الراكد . وإن جرى فوقها يعني نقله عن نص الشافعي ، قال الغزالي : والوجه أن يقال : إن كان الجاري يقلب ماء الحفرة ويبدله فله حكم الجاري أيضا ، وإن كان يلبث فيها قليلا ثم يزايلها [ ص: 199 ] فله في وقت اللبث حكم الراكد ، وكذا إن كان لا يلبث ولكن تتثاقل حركته ، فله في وقت التثاقل حكم الماء الذي بين يديه ارتفاع ، وسنذكره إن شاء الله تعالى في فرع .

                                      ( فرع ) قال إمام الحرمين والغزالي في البسيط : إذا جرى الماء منحدرا في صبب أو مستو من الأرض فهو الجاري حقا ، فلو كان قدامه ارتفاع فالماء يتراد لا محالة ، ويجري مع ذلك جريا متباطئا ، فظاهر المذهب : أن له حكم الراكد . ومن أصحابنا من قال : هو جار ، قال الإمام والغزالي : وهذا ضعيف لا نعده من المذهب .



                                      ( فرع ) في مسائل تتعلق بالباب ( إحداها ) : سبق أن المائعات غير الماء تنجس بملاقاة النجاسة وإن بلغت قلالا ، وسبق بيان الفرق بينه وبين الماء ، وحكى صاحب العدة عن أبي حنيفة : أن المائع كالماء إذا بلغ الحد الذي يعتبرونه



                                      الثانية : انغمست فأرة في مائع أو ماء قليل وخرجت حية فمنفذها نجس وقد لاقاه فهل ينجسه ؟ وجهان حكاهما الإمام وآخرون ، أصحهما : لا ; لأن الأولين لم يحترزوا عن مثل هذا والثاني : نعم طردا للقياس . ولو انغمس فيه مستجمر بالأحجار نجسه بلا خلاف ، ولو حمل المصلي ، مستجمرا بطلت صلاته في أصح الوجهين ; لعدم الحاجة إليه



                                      الثالثة : قال إمام الحرمين : ولو وقف ماء كثير على مستو من الأرض وانبسط في عمق شبر أو فتر مثلا ، فليس للماء في هذا المقر تراد وتدافع ، ولا يتقوى البعض بالبعض كما يتقوى إذا كان له عمق مناسب لطوله وعرضه ، فإذا وقعت نجاسة على طرف هذا الماء وقلنا : لا يجب التباعد فهل يجب هنا ؟ وجهان حكاهما المحاملي في القولين والوجهين أحدهما : لا ، طردا للقياس ، والثاني : يجب ; لأن أجزاء هذا الماء وإن تواصلت فهي ضعيفة ، فإذا قرب من محلها كان كالمغترف من ماء قليل .

                                      قال الإمام : وهذا الذي ذكره يقتضي سياقه أن يقال : لو نقص عن القلتين قدرا يسيرا وهو منبسط كما سبق فوقعت في طرفه نجاسة ، لا ينجس الطرف الأقصى على الفور ; لأن [ ص: 200 ] النجاسة لا تنبث بسرعة مع انبساط الماء وضعف تراده ، قال الإمام : وهذا لم يصر إليه أحد من الأئمة



                                      الرابعة : قال صاحب العدة : لو كانت ساقية تجري من نهر إلى آخر فانقطع طرفها ووقعت فيها نجاسة ، قال صاحب التلخيص : نجس الذي فيها ; لأنه دون قلتين ، وإن كان متصلا بقلتين ، قال أصحابنا : هذا إذا كان أسفل الساقية وأعلاها مستويا ، والماء راكد فيها ، نجس كله إذا تقاصر عن قلتين ، فأما إن كان أعلى الساقية أرفع من أسفلها والماء يجري فيها . فوقعت نجاسة في أسفلها . فلا ينجس الذي في أعلاها ، وصار بمنزلة ماء يصب من إناء على نجاسة ، فما لم يصل النجاسة منه طاهر ، وإن كان في الطريق



                                      الخامسة : قال صاحب العدة لو توضأ من بئر ثم أخرج منها دجاجة ميتة منتفخة ، لم يلزمه أن يعيد من صلاته إلا التي تيقن أنه صلاها بماء نجس ، قال : وقال أبو حنيفة : يلزمه إعادة صلوات ثلاثة أيام ولياليها



                                      السادسة : قال أصحابنا : لو غمس كوز ممتلئ ماء نجسا في ماء كثير طاهر ، فإن كان واسع الرأس ، فأصح الوجهين : أنه يعود مطهرا لاتصاله بقلتين ( والثاني ) : لا ، لأنه كالمنفصل ، وإن كان ضيق الرأس ، فأصح الوجهين : لا يطهر ، وإذا قلنا في الصورتين يطهر فهل يطهر على الفور ؟ أو لا بد من مكث زمان يزول فيه التغير لو كان متغيرا ؟ فيه وجهان . أصحهما : الثاني ، ويكون الزمان في الضيق أكثر منه في الواسع ، فإن كان ماء الكوز متغيرا فلا بد من زوال تغيره ، ولو كان الكوز غير ممتلئ فما دام يدخل فيه الماء لا يطهر لعدم الاتصال إلا أن يدخل فيه أكثر مما كان فيه فيكون فيه الوجهان السابقان في المكاثرة .

                                      قال القاضي حسين والمتولي : ولو كان ماء الكوز طاهرا فغمسه في نجس ينقص عن قلتين بقدر ماء الكوز فهل يحكم بطهارة النجس ؟ فيه الوجهان قلت : والطهارة هنا أولى ، والله أعلم



                                      السابعة : ماء البئر كغيره في قبول النجاسة وزوالها ، فإن كان قليلا وتنجس بوقوع نجاسة ، فينبغي ألا ينزح لينبع طهور بعده ; لأنه إذا نزح بقي قعر البئر نجسا ، وقد يتنجس جدران البئر بالنزح أيضا ، بل ينبغي أن يترك .

                                      [ ص: 201 ] ليزداد فيبلغ حد الكثرة ، فإن كان نبعها قليلا لا يتوقع كثرته صب فيها ماء ليبلغ الكثرة ويزول التغير إن كان تغير . وإن كان الماء كثيرا طاهرا وتفتتت فيه نجاسة كفأرة تمعط شعرها بحيث يغلب على الظن أنه لا تخلو دلو عن شعرة . فإن لم يتغير . فهو طهور كما كان لكن يتعذر استعماله ، فالطريق إلى ذلك أن يستقي الماء كله ليذهب الشعر معه . فإن كانت العين فوارة وتعذر نزح الجميع فلينزح ما يغلب على الظن أن الشعر خرج كله ، وفسر إمام الحرمين هذا بأن يتابع الدلاء بحيث لا تسكن حركة ماء البئر بالدلو الأولى حتى تلحقها الثانية ، ثم هكذا في كل دلو حتى ينزح مثل الماء الذي كان في البئر مرة ، قال : والاستظهار عندي أن ينزح مثله مرارا وإذا أخذ من هذه البئر بعد الاستقاء المذكور شيئا فهو طاهر لأنه غير مستيقن النجاسة ولا مظنونها ، ولا يضر احتمال بقاء الشعر فإن تحقق بعد ذلك شعرا حكم به ، فلو أخذ قبل النزح دلوا فنظر فلم ير فيها شعرا فهو طهور قطعا ، فلو لم ينظر وغلب على ظنه أنه لا ينفك عن شعر ففي طهارته القولان في تقابل الأصل والظاهر ، هكذا ذكره إمام الحرمين وهو كلام حسن ، هذا كله تفريع على المذهب وهو أن الشعر نجس . فإن قلنا : طاهر . فالماء على طهارته صرح به الرافعي وغيره . ونقل عن الغزالي أنه أجرى في تدريسه للوسيط هذا الحكم مع القول بطهارة الشعر ، قال : لأن الشعر يتمعط ملتصقا به شيء من جلد الفأرة ولحمها وذلك نجس ، وهذا النقل إن صح عنه متروك لأنه توهم منجس والأصل عدمه والله أعلم .

                                      هذا تفصيل مذهبنا ، وحكى ابن المنذر وغيره خلافا منتشرا للعلماء في البئر إذا وقعت فيها نجاسة لم تغيرها ، فقال مالك وموافقوه في أن الماء لا ينجس إلا بالتغير : هو طاهر يجوز استعماله ، وقال : وعن علي بن أبي طالب وابن الزبير : ينزحها حتى تغلبهم ، وعن الحسن والثوري : ينزحها كلها ، وقال الشعبي والأوزاعي وأبو حنيفة وغيرهم : ينزح منها دلاء مخصوصة ، واختلفوا في عددها واختلافها باختلاف النجاسة ولا أصل لشيء من ذلك فالصواب ما قدمناه من مذهبنا ومذهب مالك والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية