الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( كتاب الطلاق ) .

                                                                                        [ ص: 252 ] لما ذكر النكاح وأحكامه اللازمة ، والمتأخرة عنه شرع فيما به يرتفع وقدم الرضاع لأنه يوجب حرمة مؤبدة بخلاف الطلاق تقديما للأشد على الأخف وهو في اللغة يدل على الحل ، والانحلال يقال أطلقت الأسير إذا حللت إساره وخليت عنه فانطلق أي ذهب في سبيله وطلق الرجل امرأته تطليقا فهو مطلق فإن كثر تطليقه للنساء قيل مطليق ومطلاق ، والاسم الطلاق فطلقت هي تطلق من باب قتل ، وفي لغة من باب قرب فهي طالق بغير هاء .

                                                                                        قال الأزهري وكلهم يقول طالق بغير هاء قال وأما قول الأعشى

                                                                                        أيا جارتا بيني فإنك طالقه كذاك أمور الناس غاد وطارقه

                                                                                        فقال الليث : أراد طالقة غدا وإنما اجترأ عليه لأنه يقال طلقت فحمل النعت على الفعل ، وقال ابن فارس : أيضا امرأة طالق طلقها زوجها وطالقة غدا فصرح بالفرق لأن الصفة غير واقعة ، وقال ابن الأنباري إذا كان النعت منفردا به الأنثى دون الذكر لم تدخله الهاء نحو طالق وطامث وحائض لأنه لا يحتاج إلى فارق لاختصاص الأنثى به وتمامه في المصباح وبه اندفع ما ذكره في الصحاح من أنه يقال طالق وطالقة قالوا إنه استعمل في النكاح بالتطليق ، وفي غيره بالإطلاق حتى كان الأول صريحا ، والثاني كناية فلم يتوقف على النية في طلقتك وأنت مطلقة بالتشديد وتوقف عليها في أطلقتك ومطلقة بالتخفيف ، والتفعيل هنا للتكثير إن قاله في الثالثة كغلقت الأبواب وإلا فللإخبار عن أول طلقة أوقعها فليس فيه إلا التوكيد ، وفي المعراج أنه اسم مصدر بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم ومنه قوله تعالى { الطلاق مرتان } أو مصدر من طلقت المرأة بالضم طلاقا أو بالفتح كالفساد من فسد ، وعن الأخفش لا يقال طلقت بالضم ، وفي ديوان الأدب أنه لغة ا هـ .

                                                                                        وفي الشريعة ما أفاده بقوله ( وهو رفع القيد الثابت شرعا بالنكاح ) فخرج بالشرعي القيد الحسي وبالنكاح العتق ولو اقتصر على رفع قيد النكاح لخرجا به ويرد عليه أنه منقوض طردا وعكسا أما الأول فبالفسخ كتفريق القاضي بإبائها عن الإسلام وردة أحد الزوجين وخيار البلوغ ، والعتق فإن تفريق القاضي ونحوه فيه فسخ وليس بطلاق فقد وجد الحد ولم يوجد المحدود وأما الثاني فبالطلاق الرجعي فإنه ليس فيه رفع القيد فقد انتفى الحد ولم ينتف المحدود فالحد الصحيح قولنا رفع قيد النكاح حالا أو مآلا بلفظ مخصوص فخرج بقيد النكاح الحسي ، والعتق وباللفظ المخصوص الفسخ لأن المراد به ما اشتمل على مادة الطلاق صريحا وكناية وسائر الكنايات الرجعية ، والبائنة ولفظ الخلع وقول القاضي فرقت بينكما عند إباء الزوج عن الإسلام ، وفي العنة ، واللعان ودخل الرجعي بقولنا أو مآلا وهاهنا أبحاث الأول أنهم قالوا ركنه اللفظ المخصوص الدال على رفع القيد فكان ينبغي أن يعرفوه به فإن حقيقة الشيء ركنه فعلى هذا هو لفظ دال على رفع قيد النكاح الثاني أن القيد صيرورتها ممنوعة عن الخروج ، والبروز كما صرح به في البدائع في بيان أحكام النكاح ورفعه يحصل بالإذن لها في الخروج ، والبروز فكان هذا التعريف مناسبا للمعنى اللغوي لا الشرعي .

                                                                                        ولذا قال في البدائع : ركن الطلاق اللفظ الذي جعل دلالة على معنى الطلاق لغة وهو التخلية ، والإرسال ورفع القيد في الصريح وقطع الوصلة ونحوه في الكنايات أو شرعا وهو إزالة حل المحلية في النوعين أو ما يقوم مقام اللفظ ا هـ .

                                                                                        فقد أفاد أن ركنه شرعا اللفظ الدال على إزالة حل المحلية وأن رفع القيد إنما هو مناسب للمعنى اللغوي [ ص: 253 ] الثالث كان ينبغي تعريفه بأنه رفع عقد النكاح بلفظ مخصوص ولو مآلا لا يقال لو كان الطلاق رافعا للعقد لارتفع الطلاق لأن رفع العقد بدون العقد لا يتصور فإذا انعدم العقد من الأصل انعدم الفسخ من الأصل فإذا انعدم الفسخ عاد العقد لفقد ما ينافيه لأنا نقول جوابه ما أجابوا به في القول بفسخ عقد البيع وحاصله أنه يجعل العقد كأن لم يكن في المستقبل دون الماضي ويؤيده ما في الجوهرة وهو في الشرع عبارة عن المعنى الموضوع لحل عقدة النكاح ويقال إنه عبارة عن إسقاط الحق عن البضع ولهذا يجوز تعليقه بالشرط ، والطلاق عندهم لا يزيل الملك وإنما يحصل زوال الملك عقيبه إذا كان طلاقا قبل الدخول أو بائنا ، وإن كان رجعيا وقف على انقضاء العدة أي لم يزل الملك إلا بعد انقضائها ا هـ .

                                                                                        وفي البدائع وأما بيان ما يرفع حكم النكاح فالطلاق إلى آخره فجعل المرفوع الحكم ، وفيه ما علمت ، وقد يقال إنما لم يقولوا برفع العقد لبقاء آثاره من العدة إلا أنه يخص المدخول بها وأما غير المدخول بها فلا أثر بعد الطلاق ، والتحقيق ما أفاده في التلويح من بحث العلل بقوله وأما بقاء العلل الشرعية حقيقة كالعقود مثلا فلا خفاء في بطلانه فإنها كلمات لا يتصور حدوث حرف منها حال قيام حرف آخر ، والفسخ إنما يرد على الحكم دون العقد ولو سلم فالحكم ببقائها ضروري ثبت دفعا للحاجة إلى الفسخ فلا يثبت في حق غير الفسخ ا هـ .

                                                                                        الرابع أنه لو طلقها ثم راجعها قبل انقضاء عدتها ينبغي أن لا يكون طلاقا لأنه لم يوجد الرفع في المآل وجوابه أن الرفع في المآل لم ينحصر في انقضاء العدة قبل المراجعة بل فيه ، وفيما إذا طلقها بعد ثنتين فإنه حينئذ يظهر عمل الطلقة الأولى بانضمام الثنتين إليها فتحرم حرمة غليظة .

                                                                                        كما أشار إليه في المحيط بقوله : وإذا طلقها ثم راجعها يبقى الطلاق ، وإن كان لا يزيل القيد ، والحل للحال لأنه يزيلهما في المآل إذا انضم إليه ثنتان ا هـ .

                                                                                        وعلى هذا لو طلقها ثم ماتت قبل انقضاء العدة أو طلقها ثم راجعها ثم ماتت بعد سنين ينبغي أن يتبين عدم وقوع الطلقة الأولى حتى لو حلف أنه لم يوقع عليها طلاقا قط لا يحنث ، وقد علمت ركنه ، وأما سببه فالحاجة إلى الخلاص عند تباين الأخلاق وعروض البغضاء الموجبة عدم إقامة حدود الله تعالى وشرعه رحمة منه - سبحانه - وأما صفته فهو أبغض المباحات إلى الله تعالى ، وفي المعراج : إيقاع الطلاق مباح ، وإن كان مبغضا في الأصل عند عامة العلماء ومن الناس من يقول : لا يباح إيقاعه إلا لضرورة كبر سن أو ريبة لقوله عليه السلام { لعن الله كل مذواق مطلاق } ولنا إطلاق الآيات فإنه يقتضي الإباحة مطلقا { وطلق النبي صلى الله عليه وسلم حفصة رضي الله عنها فأمره الله تعالى أن يراجعها فإنها صوامة قوامة } ولم يكن هناك ريبة ولا كبر سن وكذا الصحابة رضي الله عنهم فإن عمر رضي الله عنه طلق أم عاصم وابن عوف تماضر والمغيرة بن شعبة أربع نسوة والحسن بن علي رضي الله عنهما استكثر النكاح ، والطلاق بالكوفة فقال علي رضي الله عنه على المنبر : إن ابني هذا مطلاق فلا تزوجوه فقالوا [ ص: 254 ] نزوجه ثم نزوجه ثم نزوجه ا هـ .

                                                                                        وقد روى أبو داود عن ابن عمر مرفوعا { أبغض الحلال إلى الله تعالى عز وجل الطلاق } قال الشمني رحمه الله فإن قيل هذا الحديث مشكل لأن كون الطلاق مبغضا إلى الله عز وجل مناف لكونه حلالا لأن كونه مبغضا يقتضي رجحان تركه على فعله وكونه حلالا يقتضي مساواة تركه بفعله أجيب ليس المراد بالحلال هنا ما استوى فعله وتركه بل ما ليس تركه بلازم الشامل للمباح ، والواجب ، والمندوب ، والمكروه ا هـ .

                                                                                        وبما ذكرناه عن المعراج تبين أن قوله في فتح القدير ، والأصح حظره إلا لحاجة اختيار القول الضعيف وليس المذهب عن علمائنا وأما قوله : ولا يخفى أن كلامهم فيما سيأتي من التعليل يصرح بأنه محظور لما فيه من كفران نعمة النكاح وإنما أبيح للحاجة ، والحاجة ما ذكرنا في بيان سببه فبين الحكمين منهم تدافع ا هـ .

                                                                                        فجوابه أنه لا تدافع بين كلامهم لأن كلامهم هنا صريح في إباحته لغير حاجة ودعوى أن تعليلهم فيما سيأتي بأنه محظور خلاف الواقع منهم وإنما قالوا في الاستدلال على بدعية الثلاث أن الأصل في الطلاق هو الحظر لما فيه من قطع النكاح الذي تعلقت به المصالح الدينية ، والدنيوية ، والإباحة للحاجة إلى الخلاص ولا حاجة إلى الجمع بين الثلاث كذا في الهداية ، والمحيط وغيرهما فهذا لا يدل على أنه محظور شرعا وإنما [ ص: 255 ] يفيد أن الأصل فيه الحظر وترك ذلك بالشرع فصار الحل هو المشروع فهو نظير قول صاحب كشف الأسرار أن الأصل في النكاح الحظر وإنما أبيح للحاجة إلى التوالد ، والتناسل فهل يفهم منه أنه محظور فالحق إباحته لغير حاجة طلبا للخلاص منها لقوله تعالى { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن } وحمله على الحاجة ليس بصحيح .

                                                                                        وفي غاية البيان : يستحب طلاقها إذا كانت سليطة مؤذية أو تاركة للصلاة لا تقيم حدود الله تعالى ا هـ .

                                                                                        وهو يفيد جواز معاشرة من لا تصلي ولا إثم عليه بل عليها ولذا قالوا في الفتاوى له أن يضربها على ترك الصلاة ولم يقولوا عليه مع أن في ضربها على تركها روايتين ذكرهما قاضي خان فقد علمت أنه مباح ومستحب وسيأتي أنه حرام بدعي ويكون واجبا إذا فات الإمساك بالمعروف كما في امرأة المجبوب ، والعنين بعد الطلب ، ولذا قالوا إذا فاته الإمساك بالمعروف ناب القاضي منابه فوجب التسريح بالإحسان وأما شرطه في الزوج فالعقل ، والبلوغ ، وفي الزوجة أن تكون منكوحته أو في عدته التي تصلح معها محلا للطلاق وهي المعتدة بعدة الطلاق لا المعتدة بعدة الوطء ، والخلوة وحاصل ما في فتح القدير أن المعتدة التي هي محل للطلاق هي كل معتدة عن طلاق أو بعد تفريق القاضي بإباء أحدهما عن الإسلام وبعد ارتداد أحدهما مطلقا فقط فلا يقع الطلاق في عدة عن فسخ إلا في هاتين ولا يقع في العدة عن فسخ بحرمة مؤبدة كما إذا اعترضت الحرمة بتقبيل ابن الزوج وكذا عن فسخ بحرمة غير مؤبدة كالفسخ بخيار العتق ، والبلوغ وعدم الكفاءة ونقصان المهر وسبي أحدهما ومهاجرته إلينا ، وقد صرح في بحث خيار البلوغ بأن الأوجه وقوع الطلاق في العدة ونبهنا في ذلك المحل أن المنقول خلافه فالحق ما ذكره هنا من عدمه وزاد في البدائع أن من شرائطه شرط الركن وهو اللفظ المخصوص أن لا يلحقه استثناء وأن لا يكون للطلاق انتهاء غاية فإنه لو قال : أنت طالق من واحدة إلى ثلاث لم تقع الثلاث عند الإمام وأما حكمه فوقوع الفرقة مؤجلا إلى انقضاء العدة في الرجعي وبدونه في البائن وأما محاسنه فالتخلص به من المكاره الدينية ، والدنيوية وبه يعلم أن طلاق الدور واقع كما في القنية من آخر الإيمان وأما أقسامه فثلاثة : حسن ، وأحسن ، وبدعي [ ص: 256 ] وأما ألفاظه فثلاثة صريح وما ألحق به وكناية وسيأتيان .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( كتاب الطلاق ) .

                                                                                        [ ص: 252 ] ( قوله : صريحا وكناية ) أي كأنت طالق وكأنت مطلقة بالتخفيف وأنت ط ل ق فإنها كناية وقوله : وسائر الكنايات . . . إلخ معطوف على قوله ما اشتمل لأن هذه الألفاظ غير مشتملة على مادة ط ل ق لكن عبارة الفتح تفيد خلاف هذا فتأمل ( قوله : فكان هذا التعريف مناسبا للمعنى اللغوي لا الشرعي ) قال في النهر ليس بصحيح لأن القيد ليس مقصورا على ما ذكره وليس في كلام البدائع ما يوهم هذا فإنه قال وأما ما يرفع حكم النكاح فالطلاق وقال قبله للنكاح الصحيح أحكام بعضها أصلي وبعضها من التوابع فالأول حل الوطء إلا لعارض ، والثاني حل النظر وملك المتعة وملك الحبس وغير ذلك ا هـ .

                                                                                        ( قوله : وهو إزالة حل المحلية في النوعين ) أي في الصريح ، والكناية وأراد بحل المحلية كون المرأة محلا للحل أي حل الوطء ودواعيه وقوله : أو ما يقوم مقام اللفظ معطوف على اللفظ في قوله ركن الطلاق اللفظ وفسر في البدائع الذي يقوم مقام اللفظ بالكتابة ، والإشارة أي الكتابة المستبينة ، والإشارة بالأصابع المقرونة بلفظ الطلاق [ ص: 253 ] ( قوله : لا يقال لو كان الطلاق رافعا للعقد لارتفع الطلاق ) كذا في بعض النسخ ، وفي بعضها لارتفع العقد ، وفي بعضها لو كان الطلاق رافعا للقيد لارتفع الطلاق لأن رفع القيد بدون العقد لا يتصور . . . إلخ .

                                                                                        ( قوله : فإذا انعدم الفسخ عاد العقد لفقد ما ينافيه ) كذا في بعض النسخ ، وفي بعضها عاد الطلاق ، والصواب الأولى كما ذكره الرملي ( قوله : وفيه ما علمت ) أي من أنه يكون التعريف مناسبا للمعنى اللغوي لا الشرعي ، وقد علمت اندفاعه بما مر عن النهر ومما يؤيد ما في البدائع ما يأتي قريبا عن التلويح ( قوله : وقد يقال ) جواب عن قوله الثالث كان ينبغي تعريفه بأنه رفع عقد النكاح لكن ينافيه ما يأتي عن التلويح كما نبه عليه الرملي ( قوله : الرابع أنه لو طلقها . . . إلخ ) وارد على قوله في التعريف السابق أو مآلا المدخل للرجعي ( قوله : وفيما إذا طلقها بعد ثنتين ) لفظ بعد مبني على الضم لا مضاف إلى ثنتين لأنه لا يلائمه ما بعده .

                                                                                        ( قوله : وعلى هذا لو طلقها . . . إلخ . ) قيل ما حاصله هذا يصلح إيرادا على الجواب المتقدم فإنه لم يرتفع القيد بأحد الشيئين مع أنه قد صدر منه اللفظ الدال على رفع القيد الذي هو ركن الطلاق فالأحسن في التعريف الشرعي ما ذكره القهستاني بقوله هو إزالة النكاح أو نقصان حله بلفظ مخصوص ا هـ .

                                                                                        وفيه أن مجرد صدور اللفظ الذي هو الركن لا يلزم منه زوال القيد في الطلاق الرجعي بل يتوقف على انضمام انقضاء العدة أو إيقاع الثنتين كما هو صريح كلام المؤلف فهو طلاق لكن لم يظهر حكمه لعدم وجود شرطه كما في مسألة المحيط .

                                                                                        ( قوله : حتى لو حلف أنه لم يوقع عليها طلاقا قط لم يحنث ) قال المقدسي في شرحه : كيف يقال لم يوقع طلقة ولو أوقع ثنتين بعدها حرمت حرمة غليظة إجماعا ، والمراجعة تقتضي وقوع الطلاق فقد صرح الزيلعي وغيره بأن المراجعة بدون وقوع الطلاق محال [ ص: 254 ] ( قوله : أجيب . . . إلخ ) حاصله أن المراد بالحلال ما ليس بحرام فلا ينافي الحكم عليه بأنه مبغوض إلى الله تعالى لأنه يراد به أحد ما شمله وهو المكروه فيصح الحكم عليه بالأبغضية بخلاف ما إذا أريد بالحلال المباح فإنه ينافي الحكم المذكور ولا يخفى أن هذا الجواب مؤيد لما صححه في فتح القدير ( قوله : اختيار للقول الضعيف ) أي من حيث التقييد بالحاجة لا من كل وجه لأن القول الضعيف تخصيص الحاجة بالكبر ، والريبة والذي في الفتح أعم من ذلك لأنه قال غير أن الحاجة لا تقتصر على الكبر ، والريبة فمن الحاجة المبيحة أن يلقي إليه عدم اشتهائها بحيث يعجز أو يتضرر بإكراهه نفسه على جماعها فهذا إذا وقع فإن كان قادرا على طول غيرها مع استبقائها ورضيت بإقامتها في عصمته بلا وطء وبلا قسم فيكره طلاقه ، وإن لم يكن قادرا على طولها أو لم ترض هي بترك حقها فهو مباح ا هـ .

                                                                                        ( قوله : فهذا لا يدل على أنه محظور شرعا إلخ . ) .

                                                                                        اعلم أنه في الهداية صرح بأن الطلاق مشروع في ذاته من حيث إنه إزالة الرق وقال إنه لا ينافي الحظر لمعنى في غيره وهو ما فيه من قطع النكاح الذي تعلقت به المصالح الدينية ، والدنيوية وصرح أيضا بأن الأصل فيه الحظر وأن الإباحة لحاجة الخلاص فتحصل من مجموع كلامه أنه مشروع من جهة ومحظور من جهة فمشروعيته من حيث إنه إزالة الرق فإن النكاح رق المرأة كما في الحديث ، وقد يتضرر الرجل بها كما قد تتضرر هي به فلو لم يشرع وجه للخلاص للزم الضرر المؤدي إلى أن لا يقيما حدود الله وإنما كان الأصل فيه الحظر لأنه تعالى قال { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا } الآية ففيه كفران هذه النعمة وقطع لهذه المودة ، والرحمة التي بها مصالح الدين ، والدنيا فهذه جهة حظره ولا تنافي بين الحظر ، والمشروعية من جهتين كالصلاة في الأرض المغصوبة لكن جهة الحظر تندفع بالحاجة ككبر أو ريبة أو دمامة خلقة أو تنافر طباع بينهما أو إرادة تأديب أو عدم قدرة على الإقامة بحقوق النكاح ونحو ذلك فبالحاجة تتمحض جهة المشروعية وتزول جهة الحظر وبدونها تبقى الجهتان لما فيه من كفران النعمة وإيذائها وإيذاء أهلها وأولاده منها بلا حاجة ولا سبب ولذا قال تعالى : { فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا } أي فلا تطلبوا الفراق وعليه الحديث { أبغض الحلال إلى الله الطلاق } أي أبغض المشروع الطلاق ومشروعيته بمعنى عدم حرمته فلا ينافي كونه مبغوضا كما مر عن الشمني أو كما قال في الفتح أنه باعتبار إباحته في بعض الأوقات أعني أوقات تحقق الحاجة إليه .

                                                                                        وبهذا ظهر أنه لا منافاة بين قولهم أنه مباح وقولهم : الأصل فيه الحظر ، والإباحة للحاجة إلى الخلاص فإن إباحته من جهة وحظره من جهة وليست جهة الإباحة خاصة بالكبر ، والريبة كما مر عن بعضهم فإنه ضعيف بل هي مطلقة فكل داع إلى الخلاص مما هو معتبر شرعا من الأعذار رافع لجهة الحظر وممحض لجهة الإباحة والمشروعية فهذا معنى قول المعراج أنه مباح مطلقا لأنه ذكره في معرض الرد على القول بتقييد الحاجة بالكبر ، والريبة ولذا قال في الفتح غير أن الحاجة لا تقتصر على ذلك ولا يمكن إثبات الإباحة مطلقا لمنافاته إثبات جهة الحظر إذ لا شك أنه بلا سبب أصلا لا ينبغي فعله وينسب فاعله إلى الحمق لما فيه من كفران النعمة ، والإيذاء المنهي عنه فليست جهة الحظر ساقطة بالكلية كما يوهمه كلام البحر ولذا كان أبغض الحلال بخلاف قولهم الأصل في النكاح الحظر فإن هذا الأصل ساقط وإنه حرام في الأصل لما فيه من الانتفاع بجزء الآدمي المحترم ، والاطلاع على العورات وارتفع هذا الأصل لحاجة التوالد ، والتناسل وبقاء العالم أما الأصل في [ ص: 255 ] الطلاق فإنه باق لم يسقط بالكلية فبين الأصلين بون بعيد لما قلنا من بقاء الحظر إذا كان بلا سبب أصلا ولا يمكن أن يحمل طلاق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم على فعله بلا سبب أصلا بأن يكون لغوا وعبثا بل لا بد من سبب معتبر شرعا من الأعذار المذكورة ونحوها فهذا تحقيق المقام بما لا مزيد عليه فاغتنمه والله الموفق .

                                                                                        ( قوله : وهو يفيد جواز معاشرة من لا تصلي ) كذا في بعض النسخ ، وفي بعضها كراهة معاشرة من لا تصلي ولا مخالفة لأن المراد بالكراهة التنزيهية ( قوله : هي كل معتدة عن طلاق ) يستثنى منه اللعان لأنه يوجب حرمة مؤبدة وهو طلاق لا فسخ كما مر في النكاح ( قوله : وبعد ارتداد أحدهما مطلقا ) الظاهر أن المراد بالإطلاق سواء كان المرتد هو أو هي ولم يطلق في مسألة الإباء لقوله بعده فلا يقع الطلاق في عدة عن فسخ إلا في هاتين فيفيد أن المراد الفسخ ولو كان هو الآبي كان إباؤه طلاقا لا فسخا .

                                                                                        وفي مسألة الردة لو كان هو المرتد ففي كونه فسخا خلاف أبي يوسف أما ردتها ففسخ اتفاقا هذا ولكن سيأتي في آخر كنايات الطلاق أن المرتد إذا لحق بدار الحرب وطلقها في العدة لم يقع طلاقه لانقطاع العصمة فإن عاد وهي في العدة وقع إلى آخر ما نقله عن البدائع ونقل هناك عن البزازية إذا أسلم أحد الزوجين لا يقع على الآخر طلاقه وكتب الرملي هناك أن هذا في الحربية إذا خرجت مسلمة ثم خرج زوجها بأمان فطلقها لا يقع . . إلخ راجعه .

                                                                                        ( قوله : وسبي أحدهما ومهاجرته إلينا ) إنما لا يقع فيهما لعدم العدة لأن المسبي ، والمهاجر إن كان الزوج فلا عدة على زوجته الحربية ، وإن كانت المرأة فكذلك لحلها للسابي باستبراء إن كانت مسبية ، وإن كانت مهاجرة فكذلك لا عدة عليها عنده وعندهما ، وإن كان عليها العدة فهي عدة لا توجب ملك يد فكانت كالعدة في الفاسد كذا في الفتح وزاد بعده وكذا لو خرج الزوجان مستأمنين فأسلم أحدهما أو صار ذميا فهي امرأته حتى تحيض ثلاثا فتقع الفرقة بلا طلاق فلا يقع عليها طلاقه لأن المصر منهما كأنه في دار الحرب لتمكنه من الرجوع ا هـ .

                                                                                        وفي كلام المؤلف تسامح إذ قوله : وسبي أحدهما ومهاجرته يشعر بوجود العدة فيهما وليس كذلك ( قوله : وبه يعلم أن طلاق الدور واقع ) أي بكون التخلص المذكور من محاسنه يعلم وقوعه وإلا لفاتت هذه الحكمة تأمل وصورته أن يقول لها : إن طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثا وهو واقع إجماعا كما حرره في منح الغفار عن جواهر الفتاوى فلو حكم بعدمه حاكم لا ينفذ أصلا ولا عبرة بخلاف ابن سريج من أصحاب الشافعي قلت وسيأتي ذكر هذه المسألة مبسوطا في الفصل الآتي بعد باب الصريح عند قوله ، وإن نكحها قبل أمس وقع الآن .




                                                                                        الخدمات العلمية