الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل منزلة التذكر

ثم ينزل القلب منزل التذكر وهو قرين الإنابة ، قال الله تعالى وما يتذكر إلا من ينيب وقال تبصرة وذكرى لكل عبد منيب وهو من خواص أولي الألباب ، [ ص: 440 ] كما قال تعالى إنما يتذكر أولو الألباب وقال تعالى وما يذكر إلا أولو الألباب .

والتذكر والتفكر منزلان يثمران أنواع المعارف ، وحقائق الإيمان والإحسان ، والعارف لا يزال يعود بتفكره على تذكره ، وبتذكره على تفكره ، حتى يفتح قفل قلبه بإذن الفتاح العليم ، قال الحسن البصري : ما زال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر ، وبالتفكر على التذكر ، ويناطقون القلوب حتى نطقت .

قال صاحب المنازل : التذكر فوق التفكر ، لأن التفكر طلب ، والتذكر وجود .

يريد أن التفكر التماس الغايات من مباديها ، كما قال : التفكر تلمس البصيرة لاستدراك البغية .

وأما قوله : التذكر وجود ، فلأنه يكون فيما قد حصل بالتفكر ، ثم غاب عنه بالنسيان ، فإذا تذكره وجده فظفر به .

والتذكر تفعل من الذكر ، وهو ضد النسيان ، وهو حضور صورة المذكور العلمية في القلب ، واختير له بناء التفعل لحصوله بعد مهلة وتدرج ، كالتبصر والتفهم والتعلم .

فمنزلة التذكر من التفكر منزلة حصول الشيء المطلوب بعد التفتيش عليه ، ولهذا كانت آيات الله المتلوة والمشهودة ذكرى ، كما قال في المتلوة ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لأولي الألباب وقال عن القرآن وإنه لتذكرة للمتقين وقال في آياته المشهودة أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب .

[ ص: 441 ] فالتبصرة آلة البصر ، والتذكرة آلة الذكر ، وقرن بينهما وجعلهما لأهل الإنابة ، لأن العبد إذا أناب إلى الله أبصر مواقع الآيات والعبر ، فاستدل بها على ما هي آيات له ، فزال عنه الإعراض بالإنابة ، والعمى بالتبصرة ، والغفلة بالتذكرة ، لأن التبصرة توجب له حصول صورة المدلول في القلب بعد غفلته عنها ، فترتيب المنازل الثلاثة أحسن ترتيب ، ثم إن كلا منها يمد صاحبه ويقويه ويثمره .

وقال تعالى في آياته المشهودة وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .

والناس ثلاثة : رجل قلبه ميت ، فذلك الذي لا قلب له ، فهذا ليست هذه الآية ذكرى في حقه .

الثاني : رجل له قلب حي مستعد ، لكنه غير مستمع للآيات المتلوة التي يخبر بها الله عن الآيات المشهودة إما لعدم ورودها ، أو لوصولها إليه ولكن قلبه مشغول عنها بغيرها ، فهو غائب القلب ، ليس حاضرا ، فهذا أيضا لا تحصل له الذكرى مع استعداده ووجود قلبه .

الثالث : رجل حي القلب مستعد ، تليت عليه الآيات ، فأصغى بسمعه ، وألقى السمع وأحضر قلبه ، ولم يشغله بغير فهم ما يسمعه ، فهو شاهد القلب ، ملق السمع ، فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات المتلوة والمشهودة .

فالأول : بمنزلة الأعمى الذي لا يبصر .

والثاني : بمنزلة البصير الطامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه ، فكلاهما لا يراه .

والثالث : بمنزلة البصير الذي قد حدق إلى جهة المنظور ، وأتبعه بصره ، وقابله على توسط من البعد والقرب ، فهذا هو الذي يراه .

فسبحان من جعل كلامه شفاء لما في الصدور .

فإن قيل : فما موقع " أو " من هذا النظم على ما قررت ؟

قيل : فيها سر لطيف ، ولسنا نقول : إنها بمعنى الواو ، كما يقوله ظاهرية النحاة .

[ ص: 442 ] فاعلم أن الرجل قد يكون له قلب وقاد ، مليء باستخراج العبر ، واستنباط الحكم ، فهذا قلبه يوقعه على التذكر والاعتبار ، فإذا سمع الآيات كانت له نورا على نور ، وهؤلاء أكمل خلق الله ، وأعظمهم إيمانا وبصيرة ، حتى كأن الذي أخبرهم به الرسول مشاهد لهم ، لكن لم يشعروا بتفاصيله وأنواعه ، حتى قيل : إن مثل حال الصديق مع النبي صلى الله عليه وسلم ، كمثل رجلين دخلا دارا ، فرأى أحدهما تفاصيل ما فيها وجزئياته ، والآخر وقعت يده على ما في الدار ولم ير تفاصيله ولا جزئياته ، لكن علم أن فيها أمورا عظيمة ، لم يدرك بصره تفاصيلها ، ثم خرجا ، فسأله عما رأى في الدار ؟ فجعل كلما أخبره بشيء صدقه ، لما عنده من شواهده ، وهذه أعلى درجات الصديقية ، ولا تستبعد أن يمن الله المنان على عبد بمثل هذا الإيمان ، فإن فضل الله لا يدخل تحت حصر ولا حسبان .

فصاحب هذا القلب إذا سمع الآيات وفي قلبه نور من البصيرة ازداد بها نورا إلى نوره ، فإن لم يكن للعبد مثل هذا القلب فألقى السمع وشهد قلبه ولم يغب حصل له التذكر أيضا فإن لم يصبها وابل فطل والوابل والطل في جميع الأعمال وآثارها وموجباتها . وأهل الجنة سابقون مقربون ، وأصحاب يمين ، وبينهما في درجات التفضيل ما بينهما ، حتى إن شراب أحد النوعين الصرف يطيب به شراب النوع الآخر ويمزج به مزجا ، قال الله تعالى ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد فكل مؤمن يرى هذا ، ولكن رؤية أهل العلم له لون ، ورؤية غيرهم له لون آخر .

قال صاحب المنازل : أبنية التذكر ثلاثة : الانتفاع بالعظة ، والاستبصار بالعبرة ، والظفر بثمرة الفكرة .

الانتفاع بالعظة : هو أن يقدح في القلب قادح الخوف والرجاء ، فيتحرك للعمل ، طلبا للخلاص من الخوف ، ورغبة في حصول المرجو .

والعظة هي الأمر والنهي ، المقرون بالترغيب والترهيب .

[ ص: 443 ] والعظة نوعان : عظة بالمسموع ، وعظة بالمشهود ، فالعظة بالمسموع الانتفاع بما يسمعه من الهدى والرشد ، والنصائح التي جاءت على لسان الرسل وما أوحي إليهم ، وكذلك الانتفاع بالعظة من كل ناصح ومرشد في مصالح الدين والدنيا .

والعظة بالمشهود الانتفاع بما يراه ويشهده في العالم من مواقع العبر ، وأحكام القدر ، ومجاريه ، وما يشاهده من آيات الله الدالة على صدق رسله .

وأما استبصار العبرة فهو زيادة البصيرة عما كانت عليه في منزل التفكر بقوة الاستحضار ، لأن التذكر يعتقل المعاني التي حصلت بالتفكر في مواقع الآيات والعبر ، فهو يظفر بها بالتفكر ، وتنصقل له وتنجلي بالتذكر ، فيقوى العزم على السير بحسب قوة الاستبصار ، لأنه يوجب تحديد النظر فيما يحرك المطلب إذ الطلب فرع الشعور ، فكلما قوي الشعور بالمحبوب اشتد سفر القلب إليه ، وكلما اشتغل الفكر به ازداد الشعور به والبصيرة فيه ، والتذكر له .

وأما الظفر بثمرة الفكرة فهذا موضع لطيف .

وللفكرة ثمرتان : حصول المطلوب تاما بحسب الإمكان ، والعمل بموجبه رعاية لحقه ، فإن القلب حال التفكر كان قد كل بأعماله في تحصيل المطلوب ، فلما حصلت له المعاني وتخمرت في القلب ، واستراح العقل عاد فتذكر ما كان حصله وطالعه ، فابتهج به وفرح به ، وصحح في هذا المنزل ما كان فاته في منزل التفكر ، لأنه قد أشرف عليه في مقام التذكر ، الذي هو أعلى منه ، فأخذ حينئذ في الثمرة المقصودة ، وهي العمل بموجبه مراعاة لحقه ، فإن العمل الصالح هو ثمرة العلم النافع ، الذي هو ثمرة التفكر .

وإذا أردت فهم هذا بمثال حسي . فطالب المال ما دام جادا في طلبه ، فهو في كلال وتعب ، حتى إذا ظفر به استراح من كد الطلب ، وقدم من سفر التجارة ، فطالع ما حصله وأبصره ، وصحح في هذا الحال ما عساه غلط فيه في حال اشتغاله بالطلب ، فإذا صح له وبردت غنيمته له أخذ في صرف المال في وجوه الانتفاع المطلوبة منه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية