الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الباب الخامس من الجملة الثالثة

وهو القول في صلاة الخوف .

اختلف العلماء في جواز صلاة الخوف بعد النبي - عليه الصلاة والسلام - وفي صفتها .

[ 1 - حكم صلاة الخوف ]

فأكثر العلماء على أن صلاة الخوف جائزة لعموم قوله تعالى : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا ) الآية . ولما ثبت ذلك من فعله - عليه الصلاة والسلام - وعمل الأئمة والخلفاء بعده بذلك ، وشذ أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة فقال : لا تصلى صلاة الخوف بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بإمام واحد ، وإنما تصلى بعده بإمامين يصلي واحد منهما بطائفة ركعتين ، ثم يصلي الآخر بطائفة أخرى وهي الحارسة ركعتين أيضا وتحرس التي قد صلت .

والسبب في اختلافهم : هل صلاة النبي بأصحابه صلاة الخوف هي عبادة أو هي لمكان فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن رأى أنها عبادة لم ير أنها خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام ، ومن رآها لمكان فضل النبي - عليه الصلاة والسلام - رآها خاصة بالنبي - عليه الصلاة والسلام - وإلا فقد كان يمكننا أن ينقسم الناس على إمامين ، وإنما كان ضرورة اجتماعهم على إمام واحد خاصة من خواص النبي - عليه الصلاة والسلام - وتأيد عنده هذا التأويل بدليل الخطاب المفهوم من قوله تعالى : ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ) الآية . ومفهوم الخطاب أنه إذا لم يكن فيهم فالحكم غير هذا الحكم ، وقد ذهبت طائفة من فقهاء الشام إلى أن صلاة الخوف تؤخر عن وقت الخوف إلى وقت الأمن كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق ، والجمهور على أن ذلك الفعل يوم الخندق كان قبل نزول صلاة الخوف ، وأنه منسوخ بها .

[ 2 - صفة صلاة الخوف ]

وأما صفة صلاة الخوف فإن العلماء اختلفوا فيها اختلافا كثيرا لاختلاف الآثار في هذا الباب : ( أعني : المنقولة من فعله ) - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخوف ، والمشهور من ذلك سبع صفات .

[ الصفة الأولى ]

فمن ذلك ما أخرجه مالك ، ومسلم من حديث صالح بن خوات عمن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صفت معه ، وصفت طائفة وجاه العدو ، فصلى بالتي معه ركعة ، ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم ، ثم انصرفوا وجاه العدو ، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاتهم ، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ، ثم سلم بهم ، وبهذا الحديث قال الشافعي .

[ الصفة الثانية ]

وروى مالك هذا الحديث بعينه عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات موقوفا [ ص: 149 ] كمثل حديث يزيد بن رومان : أنه لما قضى الركعة بالطائفة الثانية سلم ولم ينتظرهم حتى يفرغوا من الصلاة ، واختار مالك هذه الصفة ، فالشافعي آثر المسند على الموقوف ، ومالك آثر الموقوف ; لأنه أشبه بالأصول : ( أعني : أنه لا يجلس الإمام حتى تفرغ الطائفة الثانية من صلاتها ; لأن الإمام متبوع لا متبع ) وغير مختلف عليه .

والصفة الثالثة : ما ورد في حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه ، رواه الثوري وجماعة وخرجه أبو داود قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف بطائفة وطائفة مستقبلو العدو ، فصلى بالذين معه ركعة وسجدتين وانصرفوا ولم يسلموا ، فوقفوا بإزاء العدو ، ثم جاء الآخرون فقاموا معه ، فصلى بهم ركعة ، ثم سلم فقام هؤلاء ، فصلوا لأنفسهم ركعة ، ثم سلموا وذهبوا ، فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو ، ورجع أولئك إلى مراتبهم فصلوا لأنفسهم ركعة ، ثم سلموا " وبهذه الصفة قال أبو حنيفة وأصحابه ما خلا أبا يوسف على ما تقدم " .

والصفة الرابعة الواردة في حديث أبي عياش الزرقي قال : " كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعسفان ، وعلى المشركين خالد بن الوليد ، فصلينا الظهر ، فقال المشركون : لقد أصبنا غفلة لو كنا حملنا عليهم ، وهم في الصلاة ، فأنزل الله آية القصر بين الظهر والعصر ، فلما حضرت العصر قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستقبل القبلة والمشركون أمامه ، فصلى خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صف واحد ، وصف بعد ذلك صف آخر ، فركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وركعوا جميعا ، ثم سجد ، وسجد الصف الذي يليه ، وقام الآخر يحرسونهم فلما صلى هؤلاء سجدتين ، وقاموا سجد الآخرون الذين كانوا خلفه ، ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين ، وتقدم الصف الآخر إلى مقام الصف الأول ، ثم ركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وركعوا جميعا ، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه ، وقام الآخرون يحرسونهم ، فلما جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصف الذي يليه سجد الآخرون ، ثم جلسوا جميعا ، فسلم بهم جميعا " وهذه الصلاة صلاها بعسفان وصلاها يوم بني سليم . قال أبو داود : وروي هذا عن جابر وعن ابن عباس وعن مجاهد ، وعن أبي موسى وعن هشام بن عروة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : وهو قول الثوري وهو أحوطها يريد أنه ليس في هذه الصفة كبير عمل مخالف لأفعال الصلاة المعروفة ، وقال بهذه الصفة جملة من أصحابمالك وأصحاب الشافعي ، وخرجها مسلم عن جابر ، وقال جابر : كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائكم .

والصفة الخامسة : الواردة في حديث حذيفة قال ثعلبة بن زهدم قال : كنا مع سعيد بن العاصي بطبرستان ، فقام فقال : أيكم صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف ؟ قال حذيفة : أنا ، فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا شيئا " وهذا مخالف للأصل مخالفة كثيرة . وخرج أيضا عن ابن عباس في معناه أنه قال : " الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع وفي السفر ركعتان وفي الخوف ركعة واحدة " وأجاز هذه الصفة الثوري . )

والصفة السادسة : الواردة في حديث أبي بكرة وحديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى بكل طائفة من الطائفتين ركعتين ركعتين ، وبه كان يفتي الحسن ، وفيه دليل على اختلاف نية الإمام والمأموم لكونه متما ، وهم مقصرون ، خرجه مسلم عن جابر .

[ ص: 150 ] والصفة السابعة : الواردة في حديث ابن عمر عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال : يتقدم الإمام ، وطائفة من الناس ، فيصلي بهم ركعة . وتكون طائفة منهم بينه ، وبين العدو لم يصلوا ، فإذا صلى الذين معه ركعة استأخروا مكان الذين لم يصلوا معه ولا يسلمون ، ويتقدم الذين لم يصلوا ، فيصلون معه ركعة ، ثم ينصرف الإمام ، وقد صلى ركعتين تتقدم كل واحدة من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعة ركعة بعد أن ينصرف الإمام فتكون كل واحدة من الطائفتين قد صلت ركعتين ، فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم ، أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها ، وممن قال بهذه الصفة أشهب عن مالك وجماعة .

وقال أبو عمر : الحجة لمن قال بحديث ابن عمر هذا أنه ورد بنقل الأئمة أهل المدينة وهم الحجة في النقل على من خالفهم ، وهي أيضا مع هذا أشبه بالأصول لأن الطائفة الأولى والثانية لم يقضوا الركعة إلا بعد خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة وهو المعروف من سنة القضاء المجتمع عليها في سائر الصلوات ، وأكثر العلماء على ما جاء في هذا الحديث من أنه إذا اشتد الخوف جاز أن يصلوا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، وإيماء من غير ركوع ولا سجود ، وخالف في ذلك أبو حنيفة فقال : لا يصلي الخائف إلا إلى القبلة ، ولا يصلي أحد في حال المسايفة .

وسبب الخلاف في ذلك مخالفة هذا الفعل للأصول ، وقد رأى قوم أن هذه الصفات كلها جائزة ، وأن للمكلف أن يصلي أيتها أحب ، وقد قيل : إن هذا الاختلاف إنما كان بحسب اختلاف المواطن .

التالي السابق


الخدمات العلمية