الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        هفوات القدرية وضلالهم وقالت القدرية : نحن نفعل ما لا يريد الله تعالى ، ونقدر على ما لا يقدر . وبلغني أن رجلا من أصحاب الكلام قال لرجل من أهل الذمة : ألا تسلم يا فلان ؟ فقال : حتى يريد الله تعالى ، فقال له قد أراد الله ولكن إبليس لا يدعك ، فقال له الذمي : فأنا مع أقواهما .

        وحدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، قال حدثنا قريش بن أنس قال سمعت عمرو بن عبيد يقول : يؤتى بي يوم القيامة فأقام بين يدي الله فيقول لي لم قلت إن القاتل في النار فأقول أنت قلته ، ثم تلا هذه الآية ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها قلت له - وما في البيت أصغر مني - : أرأيت إن قال لك قد قلت إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء من أين علمت أني لا أشاء أن أغفر ؟ قال فما استطاع أن يرد علي شيئا .

        حدثني أبو الخطاب قال : نا داود بن المفضل عن محمد بن المفضل [ ص: 139 ] عن محمد بن سليمان عن الأصبغ بن جامع عن أبيه قال : كنت أطوف مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بالبيت فأتى الملتزم بين الباب والحجر فألصق به بطنه ، وقال : اللهم اغفر لي ما قضيته علي ولا تغفر لي ما لم تقضه علي . وحدثني سهل بن محمد قال : نا الأصمعي عن معاذ بن معاذ قال سمع الفضل الرقاشي رجلا يقول : اللهم اجعلني مسلما ، فقال : هذا محال ، فقال الرجل : ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك .

        وحدثني سهل قال : نا الأصمعي عن أبي معشر المدني قال : قال محمد بن كعب القرظي : " العباد أذل من أن يكون لأحد منهم في ملك الله تعالى شيء هو كاره أن يكون " .

        وحدثني سهل قال : حدثنا الأصمعي قال قال أبو عمرو : أشهد أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، ولله علينا الحجة ، ومن قال : تعال أخاصمك قلت له : أعز عنا نفسك .

        وحدثني أبو الخطاب قال نا أبو داود عن الحسن بن أبي الحسن قال : سمعت الحجاج يخطب وهو بواسط وهو يقول : اللهم أرني الهدى هدى فأتبعه وأرني الضلالة ضلالة فأجتنبها ولا تلبس علي هداي فأضل ضلالا بعيدا .

        [ ص: 140 ] قال أبو محمد : وهذا نحو قول الله تعالى وللبسنا عليهم ما يلبسون وقال عمرو بن عون القيسي - وكان من البكائين حتى ذهب بصره - سمعت سعيد بن أبي عروبة يقول : ما في القرآن آية هي أشد علي من قول موسى إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء فقلت له فالقرآن يشتد عليك والله لا أكلمك كلمة أبدا ، فما كلمته حتى مات .

        طعن القدرية بالثقات :

        وحدثني إسحاق بن إبراهيم الشهيدي عن يحيى بن حميد الطويل عن عمرو بن النضر قال مررت بعمرو بن عبيد فجلست إليه فذكر شيئا فقلت : ما هكذا يقول أصحابنا . قال ومن أصحابك ؟ قلت : أيوب وابن عون ويونس والتيمي فقال : أولئك أرجاس أنجاس أموات غير أحياء .

        قال أبو محمد : وهؤلاء الأربعة الذين ذكرهم غرة أهل زمانهم في العلم والفقه والاجتهاد في العبادة وطيب المطعم وقد درجوا على ما كان عليه من قبلهم من الصحابة والتابعين ، وهذا يدل على أن أولئك أيضا عنده أرجاس أنجاس .

        فإن ادعوا أن الذين درجوا من الصحابة والتابعين لم يكونوا على ما كان عليه هؤلاء وأنهم يقولون بمثل مقالتهم في القدر [ ص: 141 ] قلنا لهم فلم تعلقتم بالحسن وعمرو بن عبيد وغيلان ؟ ألا تعلقتم بعلي وابن مسعود وأبي عبيدة ومعاذ وسعيد بن المسيب وأشباه هؤلاء ؟ فإنهم كانوا أعظم في القدوة وأثبت في الحجة من قتادة والحسن وابن أبي عروبة .

        وأما قولهم : إنهم يكتبون الحديث عن رجال من مخالفيهم كقتادة وابن أبي نجيح وابن أبي ذئب ويمتنعون عن الكتابة عن مثلهم مثل عمرو بن عبيد وعمرو بن فائد ومعبد الجهني فإن هؤلاء الذين كتبوا عنهم أهل علم وأهل صدق في الرواية ومن كان بهذه المنزلة فلا بأس بالكتابة عنه والعمل بروايته إلا فيما اعتقده من الهوى فإنه لا يكتب عنه ولا يعمل به .

        كما أن الثقة العدل تقبل شهادته على غيره ولا تقبل شهادته لنفسه ولا لابنه ولا لأبيه ولا فيما جر إليه نفعا أو دفع عنه ضررا وإنما منع من قبول قول الصادق فيما وافق نحلته وشاكل هواه ، لأن نفسه تريه أن الحق فيما اعتقده وأن القربة إلى الله - عز وجل - في تثبيته بكل وجه ولا يؤمن مع ذلك التحريف والزيادة والنقصان .

        فإن قالوا : فإن أهل المقالات المختلفة يرى كل فريق منهم أن الحق فيما اعتقده وأن مخالفه على ضلال وهوى وكذلك أصحاب الحديث فيما انتحلوا .

        [ ص: 142 ] فمن أين علموا علما يقينا أنهم على الحق ؟ قيل لهم : إن أهل المقالات وإن اختلفوا ورأى كل صنف منهم أن الحق فيما دعا إليه فإنهم مجمعون لا يختلفون على أن من اعتصم بكتاب الله - عز وجل - وتمسك بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد استضاء بالنور واستفتح باب الرشد وطلب الحق من مظانه وليس يدفع أصحاب الحديث عن ذلك إلا ظالم ، لأنهم لا يردون شيئا من أمر الدين إلى استحسان ولا إلى قياس ونظر ولا إلى كتب الفلاسفة المتقدمين ولا إلى أصحاب الكلام المتأخرين .

        فإن ادعوا عليهم الخطأ بحملهم الكذب والمتناقض ، قيل لهم أما الكذب والغلط والضعيف فقد نبهوا عليه على ما أعلمتك وأما المتناقض فنحن مخبروك بالمخارج منه ومنبهوك على ما تأخر عنه علمك وقصر عنه نظرك وبالله الثقة وهو المستعان .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية