الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 118 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                          ( الر تلك آيات الكتاب الحكيم أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ) .

                          ( الر ) تقرأ هذه الحروف الثلاثة بأسمائها ساكنة غير معربة هكذا : ألف ، لام ، را .

                          والحرف الأخير غير مهموز . وفائدة النطق بها وبأمثالها هكذا تنبيه الذين تتلى عليهم السورة لما بعدها لأجل العناية بفهمه حتى لا يفوتهم من سماعه شيء ، وهي أقوى في هذا التنبيه من حرف الهاء الموضوع له في اسم الإشارة ، ومن كلمة ( ( ألا ) ) الافتتاحية ، وقد فصلنا هذه المسألة في أول تفسير سورة الأعراف .

                          ( تلك آيات الكتاب الحكيم ) أي تلك الآيات البعيدة الشأو ، الرفيعة الشأن التي تألفت منها هذه السورة ، أو القرآن كله ، هي آيات الكتاب الموصوف بالحكمة في معانيه ، والأحكام في مبانيه ، الحقيق بهداية متدبره وواعيه .

                          ( أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم ) الاستفهام للتعجب من عجب الكفار واستنكار إنكارهم للوحي إلى رجل من جنسهم ، والوحي الإعلام الخفي الخاص لامرئ بما يخفى على غيره . أي أكان إيحاؤنا إلى رجل من الناس أمرا نكرا اتخذوه أعجوبة بينهم يتفكهون باستغرابها ؟ كأن مشاركتهم له في البشرية يمنع اختصاص الله إياه بما شاء من العلم .

                          والمراد بالناس كفار مكة ومن تبعهم في إنكار نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وعبر عنهم بالناس لأن هذه الشبهة على الرسالة قد سبقتهم إليها أقوام الأنبياء قبله كما تقدم في قصة نوح [ ص: 119 ] وهو من سورة الأعراف ( أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ) ( 7 : 63 و 69 ) وهذا المعنى مكرر في القرآن ، وقد دحضنا هذه الشبهة في آخر تفسير سورة الأنعام ( أن أنذر الناس ) ( ( أن ) ) هذه مفسرة لما قبلها ، والإنذار الإعلام بالتوحيد والبعث وسائر مقاصد الدين المقترن بالتخويف من عاقبة الكفر والمعاصي ، أي أوحينا إليه بأن أنذر الناس كافة ( وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ) التبشير مقابل الإنذار ، أي الإعلام المقترن بالبشارة بحسن الجزاء على الإيمان والعمل الصالح . والمعنى وبشر الذين آمنوا منهم خاصة ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) يجزيهم به في الآخرة - والصدق في أصل اللغة ضد الكذب ، ثم أطلق على الإيمان وصدق النية والوفاء وسائر مواقف الفضائل ، ومنه في التنزيل ( مقعد صدق ) ( 54 : 55 ) و ( مدخل صدق ) ( 17 : 80 ) و ( مخرج صدق ) ( 17 : 80 ) و ( قدم صدق ) والقدم هاهنا السابقة والتقدم . قال البيضاوي : سابقة ومنزلة رفيعة سميت قدما لأن السبق بها كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد ، وإضافتها إلى الصدق لتحققها ، والتنبيه على أنهم إنما ينالونها بصدق القول والنية ( قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ) قرأ ابن كثير والكوفيون ( لساحر ) يعنون النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والباقون ( لسحر ) ويعنون به القرآن ، وكلا من القولين قد قالوا ، وكل من القولين يشير إلى إثبات رسالته - صلى الله عليه وسلم - ; فإن قولهم إن القرآن سحر جاء به ساحر يتضمن اعترافهم بأنهما فوق المعهود والمعلوم للبشر في عالم الأسباب المقدورة لهم ، وتأكيد قولهم بالجملة الاسمية وإن واللام ، وبوصف السحر أو الساحر بالمبين الظاهر يفيد الحصر كقول الوليد ( إن هذا إلا سحر يؤثر ) يعني القرآن . وسموه سحرا لأنه خارق للعادة بقوة تأثيره في القلوب وجذبه للنفوس إلى الإيمان ، وحملها على احتقار الحياة ولذاتها في سبيل الله ، حتى إنه يفرق بين المرء وأخيه ، وأمه وأبيه ، وزوجه وبنيه ، وفصيلته التي تؤويه ، وتمنعه وتحميه . وإنما السحر ما كان بأسباب خفية خاصة ببعض الناس يتعلمها بعضهم من بعض ، وهي إما حيل وشعوذة ، وإما خواص طبيعية علمية مجهولة للجماهير ، وإما تأثير قوى النفس وتوجيه الإرادة ، وكلها من الأمور المشتركة بين الكثيرين من العارفين بها وقد استبان لعامة العرب ثم لغيرهم من شعوب العجم أن القرآن ليس بسحر يؤثر بالتعليم والصناعة ، بل هو مجموعة علوم عالية في العقائد والآداب والتشريع والاجتماع مرقية للعقول ، مزكية للأنفس ، مصلحة للناس ، وأنه معجز للبشر في أسلوبه ونظمه ومعانيه وهدايته وتشريعه وإخباره [ ص: 120 ] بالغيب ( 1 ) وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - مبلغ له ، ولم يكن ليقدر على شيء منه ، وقد عجز عنه غيره ، فثبت أنه نبي الله ورسوله ، وأن ما جاء به وحي منه تعالى .

                          وقد بينا حقيقة الوحي لغة وشرعا ، وإثباته لنبينا - صلى الله عليه وسلم - في مواضع : منها ما في بحث دلالة القرآن على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو في ( ص 181 - 182 ج 1 ط الهيئة ) ومنها تفسير ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح ) ( 4 : 163 ) الآية . وهو في ( ص 55 وما بعدها ج 6 ط الهيئة ) . ومنها رد شبهات الكفار عليه في سورة الأنعام ( ص 258 - 267 ج 7 ط الهيئة ) ومنها في خلاصتهما ( ص 242 - 247 ج 8 ط الهيئة ) ومنها تحقيق القول في مسألة الكلام الإلهي بمناسبة تكليم الله لموسى عليه السلام ( ص 154 وما بعدها ج 9 ط الهيئة ) وبقي علينا بسط القول في نبوة محمد مع مثبتي الوحي ونفاته ، وشبهة النفاة لعالم الغيب عليها وتصويرهم للوحي إليه بغير صورته ، فنعقد له الفصل التالي :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية