الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 240 ]

157 . وذمه ( شعبة ) ذو الرسوخ ودونه التدليس للشيوخ      158 . أن يصف الشيخ بما لا يعرف
به ، وذا بمقصد يختلف      159 . فشره للضعف واستصغارا
وكـ ( الخطيب ) يوهم استكثارا      160 . و ( الشافعي ) أثبته بمره
قلت : وشرها أخو التسويه

التالي السابق


أي : وذمه شعبة فبالغ في ذمه ، وإلا فقد ذمه أكثر العلماء ، وهو مكروه جدا ، فروى الشافعي عن شعبة قال : التدليس أخو الكذب ، وقال : لأن أزني أحب إلي من أن أدلس . قال ابن الصلاح : "وهذا من شعبة إفراط محمول على المبالغة في الزجر عنه والتنفير" . وقوله : ( دونه التدليس للشيوخ ) أي : ودون القسم الأول . وهذا هو القسم الثاني من أقسام التدليس .

قال ابن الصلاح : أمره أخف منه ، و ( أن ) : في أول البيت الثاني مصدرية . والجملة في موضع رفع على أنه بيان للتدليس المذكور ، أو خبر مبتدأ محذوف [ ص: 241 ] تقديره : وهو أن يصف المدلس شيخه الذي سمع ذلك الحديث منه بوصف لا يعرف به من اسم ، أو كنية ، أو نسبة إلى قبيلة ، أو بلد ، أو صنعة أو نحو ذلك ، كي يوعر الطريق إلى معرفة السامع له ، كقول أبي بكر بن مجاهد أحد أئمة القراء : حدثنا عبد الله بن أبي عبد الله ، يريد به : عبد الله بن أبي داود السجستاني ، ونحو ذلك . قال ابن الصلاح : وفيه تضييع للمروي عنه . قلت : وللمروي أيضا بأن لا يتنبه له فيصير بعض رواته مجهولا .

ويختلف الحال في كراهة هذا القسم باختلاف المقصد الحامل على ذلك . فشر ذلك : إذا كان الحامل على ذلك كون المروي عنه ضعيفا ، فيدلسه حتى لا تظهر روايته عن الضعفاء . وقد يكون الحامل على ذلك كون المروي عنه صغيرا في السن ، أو تأخرت وفاته ، وشاركه فيه من هو دونه . وقد يكون الحامل على ذلك إيهام كثرة الشيوخ بأن يروي عن الشيخ الواحد في مواضع ، يعرفه في موضع بصفة ، وفي موضع آخر بصفة أخرى يوهم أنه غيره . وممن يفعل ذلك كثيرا الخطيب ، فقد كان لهجا به في تصانيفه .

ولم يذكر ابن الصلاح حكم من عرف بهذا القسم الثاني من التدليس . وقد جزم ابن الصباغ في " العدة " بأن من فعل ذلك; لكون من روى عنه غير ثقة عند الناس ، [ ص: 242 ] وإنما أراد أن يغير اسمه ليقبلوا خبره ، يجب أن لا يقبل خبره ، وإن كان هو يعتقد منه الثقة فقد غلط في ذلك; لجواز أن يعرف غيره من جرحه ما لا يعرفه هو ، فإن كان لصغر سنه ، فيكون ذلك رواية عن مجهول ، لا يجب قبول خبره حتى يعرف من روى عنه .

وقوله : ( واستصغارا ) ، منصوب بكان المحذوفة ، أي : ويكون استصغارا وإيهاما للكثرة ، وقوله : ( وكالخطيب ) أي : وكفعل الخطيب .

وقوله : ( والشافعي أثبته ) أي : أصل التدليس لا هذا القسم الثاني منه . قال ابن الصلاح : والحكم بأنه لا يقبل من المدلس حتى يبين ، قد أجراه الشافعي رضي الله عنه ، فيمن عرفناه دلس مرة . وممن حكاه عن الشافعي البيهقي في “ المدخل “ .

وقوله : ( قلت : وشرها أخو التسوية ) . هذا هو القسم الثالث من أقسام التدليس الذي لم يذكره ابن الصلاح - وهو تدليس التسوية - وصورته أن يروي حديثا عن شيخ ثقة ، وذلك الثقة يرويه عن ضعيف عن ثقة ، فيأتي المدلس الذي سمع الحديث من الثقة الأول ، فيسقط الذي في السند ، ويجعل الحديث عن شيخه الثقة عن الثقة الثاني ، بلفظ محتمل ، فيستوي الإسناد ، كله ثقات . وهذا شر أقسام التدليس; [ ص: 243 ] لأن الثقة الأول قد لا يكون معروفا بالتدليس ، ويجده الواقف على السند كذلك بعد التسوية قد رواه عن ثقة آخر فيحكم له بالصحة ، وفي هذا غرور شديد . وممن نقل عنه أنه كان يفعل ذلك : بقية بن الوليد ، والوليد بن مسلم . أما بقية ، فقال ابن أبي حاتم في كتاب " العلل " : سمعت أبي ، وذكر الحديث الذي رواه إسحاق بن راهويه ، عن بقية ، حدثني أبو وهب الأسدي ، عن نافع ، عن ابن عمر حديث : " لا تحمدوا إسلام المرء حتى تعرفوا عقدة رأيه " . فقال أبي : هذا الحديث له أمر قل من يفهمه ، روى هذا الحديث عبيد الله بن عمرو ، عن إسحاق بن أبي فروة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وعبيد الله بن عمرو كنيته أبو وهب وهو أسدي . فكناه بقية ونسبه إلى بني أسد لكي لا يفطن له . حتى إذا ترك إسحاق بن أبي فروة من الوسط لا يهتدى له . - قال - : وكان بقية من أفعل الناس لهذا .

وأما الوليد بن مسلم فقال أبو مسهر : كان الوليد بن مسلم يحدث بأحاديث الأوزاعي عن الكذابين ، ثم يدلسها عنهم . وقال صالح جزرة : سمعت الهيثم بن [ ص: 244 ] خارجة يقول : قلت للوليد بن مسلم : قد أفسدت حديث الأوزاعي . قال : كيف ؟ قلت : تروي عن الأوزاعي ، عن نافع ، وعن الأوزاعي ، عن الزهري ، وعن الأوزاعي ، عن يحيى بن سعيد وغيرك يدخل بين الأوزاعي وبين نافع ، عبد الله بن عامر الأسلمي وبينه وبين الزهري إبراهيم بن مرة وقرة ، قال : أنبل الأوزاعي أن يروي عن مثل هؤلاء . قلت : فإذا روى عن هؤلاء - وهم ضعفاء - أحاديث مناكير فأسقطتهم أنت وصيرتها من رواية الأوزاعي عن الثقات; ضعف الأوزاعي ، فلم يلتفت إلى قولي . وذكر الدارقطني عن الوليد أيضا هذا النوع من التدليس . قال الخطيب :

وكان الأعمش ، والثوري ، وبقية ، يفعلون مثل هذا . وقد سماه ابن [ ص: 245 ] القطان وغير واحد تدليس التسوية . قال العلائي في المراسيل : "وبالجملة فهذا النوع أفحش أنواع التدليس مطلقا وشرها" .




الخدمات العلمية