الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 385 ] ذكر ما يدل على النسخ

قرأت على أبي طالب زيد بن الحسين الحسيني المديني بها ، أخبرك أبوك الفرج سعيد بن بكر الدوري ، أخبرنا أحمد بن محمد بن النعمان ، أخبرنا محمد بن إبراهيم الخازن ، أخبرنا إسحاق بن أحمد الخزاعي ، أخبرنا محمد بن يحيى بن أبي عمر ، حدثنا هشام وعبد المجيد ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عطاء ، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : كنا لا نأكل من البدن إلا ثلاث منى ، فأرخص لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : كلوا ، وترودوا . قال : فأكلنا وترودنا .

هذا حديث صحيح ، وله طرق من حديث عطاء وغيره عن جابر ، أخبرنا حبيب بن إبراهيم بن عبد الله الصوفي ، أخبرنا الحسن بن أحمد الحسن القاري ، أخبرنا محمد بن أحمد بن محمد الكاتب ، أخبرنا عبد الله بن محمد الحافظ ، حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد ، حدثنا علي بن الجعد ، حدثنا معروف بن واصل ، عن محارب بن دثار ، عن ابن بريدة ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نهيتكم عن لحوم الأضاحي أن لا تأكلوا بعد ثلاث ، فكلوا وانتفعوا بها في أسفاركم .

أخبرني أبو مسلم محمد بن محمد بن الجنيد الصوفي ، عن أبي نصر محمد بن أحمد بن محمد بن علي الصيرفي ، أخبرنا أحمد بن الحسن القاضي ، أخبرنا محمد بن يعقوب ، أخبرنا الربيع ، أخبرنا الشافعي ، أخبرنا مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن [ ص: 386 ] عبد الله بن واقد ، عن عبد الله بن عمر ، قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث . قال عبد الله بن أبي بكر : فذكرت ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن ، فقالت : صدق ، سمعت عائشة تقول : دف ناس من أهل البادية حضرة الأضحى زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ادخروا لثلاث ، وتصدقوا بما بقي قالت : فلما كان بعد ذلك ، قيل : يا رسول الله ! لقد كان الناس ينتفعون من ضحاياهم يحملون منها الودك ، ويتخذون الأسقية ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وما ذاك ؟ أو كما قال ، قالوا : يا رسول الله ، نهيت عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت حضرة الأضحى ؛ فكلوا ، وتصدقوا ، وادخروا .

قال الشافعي : حدثنا ابن عيينة ، عن إبراهيم بن ميسرة قال : سمعت أنس بن مالك يقول : إنا لنذبح ما شاء الله من ضحايانا ، ثم نتزود بقيتها إلى البصرة .

قال الشافعي : فهذه الأحاديث تجمع معاني :

منها أن حديث علي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن إمساك لحوم الأضاحي بعد ثلاث ، وحديث عبد الله بن واقد متفقان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وفيهما دلالتان :

دلالة على أن عليا سمع النهي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن النهي بلغ عبد الله بن واقد .

ودلالة أن الرخصة من النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تبلغ [ ص: 387 ] عليا ، ولا عبد الله بن واقد ، ولو بلغتهما الرخصة ما حدثا بالنهي ، والنهي منسوخ ، وقول أنس بن مالك : " نهبط بلحوم الأضاحي البصرة " يحتمل أن يكون أنس سمع الرخصة ، ولم يسمع النهي قبلها ، فتزود بالرخصة ولم يسمع نهيا ، أو سمع الرخصة والنهي ، فكان النهي منسوخا ؛ فلم يذكره ، فقال كل واحد من المختلفين بما علم ، وهكذا يجب على كل من سمع شيئا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو ثبت له عنه أن يقول منه بما سمع ، حتى يعلم غيره . قال : فلما حدثت عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث ، ثم بالرخصة فيها بعد النهي ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر أنه إنما نهى عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث للدافة ، كان الحديث التام المحفوظ أوله وآخره ، وسبب التحريم والإحلال فيه حديث عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وكان على من علمه أن يصير إليه ، وحديث عائشة من أبين ما يوجد في الناسخ والمنسوخ من السنن .

وهذا يدل على أن بعض الحديث يخص فيحفظ بعضه دون بعضه ، ويحفظ منه شيء كان أولا ولا يحفظ آخرا ، ويحفظ آخرا ولا يحفظ أولا ، فيؤدى كل ما حفظ ، والرخصة بعدها في الإمساك والأكل ، والصدقة من لحوم الضحايا إنما هي لواحد من معنيين لاختلاف الحالين ، فإذا دفت الدافة ثبت النهي عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث ، وإذا لم تدف الدافة فالرخصة ثابتة بالأكل والتزود ، والادخار والصدقة ، ويحتمل أن يكون النهي عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث منسوخا في كل حال فيمسك الإنسان من ضحيته ما شاء ، ويتصدق بما يشاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية