الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا ) هذا بيان مستأنف للتدبير قرأ حمزة ، والكسائي ، ويعقوب ، وأبو بكر ، عن عاصم ( يغشي ) بتشديد الشين من التغشية والباقون بتخفيفها من الإغشاء يقال غشي ( كرضي ) فلان أصحابه إذا أتاهم ، وغشي الشيء الشيء لحقه وغطاه .

                          ومنه في التنزيل غشيان الموج واليم والدخان والعذاب للناس وغشيان الرجل للمرأة . وأغشاه وغشاه إياه بالتشديد جعله يغشاه أي يلحقه ويغلب عليه أو يغطيه ويستره . وفي التشديد معنى المبالغة والكثرة . ومنه إغشاء الليل النهار وتغشيته وغشيانه إياه . قال تعالى : ( والليل إذا يغشى ) ( 92 : 1 ) أي يغشي النهار ، وقال : ( والليل إذا يغشاها ) ( 91 : 4 ) والضمير للشمس أي يتبع ضوءها ويغلب على المكان الذي كان فيه . والمعنى هنا أن الله تعالى قد جعل الليل الذي هو الظلمة يغشى النهار وهو ضوء الشمس على الأرض أي يتبعه ويغلب على المكان الذي كان فيه ويستره حالة كونه يطلبه حثيثا من قولهم : فرس حثيث السير ، ومضى حثيثا - كما في الأساس وغيره - أي مسرعا . والمعنى : أنه يعقبه سريعا كالطالب له لا يفصل بينهما شيء - كما قالوا - وهذا الطلب السريع يظهر أكمل الظهور بما ثبت من كون الأرض كروية الشكل تدور على محورها تحت الشمس ، فيكون نصفها مضيئا بنورها دائما والنصف الآخر مظلما دائما . ومسألة الليل والنهار معلومة بالقطع في هذا العصر فيمكن تحديد ساعات الليل والنهار في كل قطر ، ومخاطبة أهله بالتلغراف بأن تسأل في نصف الليل من تعلم أن وقتهم نصف النهار مثلا فيجيبوك ، بل البرقيات تطوف كل يوم مدن العالم المدني في الشرق والغرب مبينة ذلك .

                          وقد اتفق المحققون من علماء المسلمين كالغزالي والرازي من أئمة المعقول ، [ ص: 404 ] وابن تيمية وابن القيم من أئمة المنقول على كروية الأرض وظواهر النصوص أدل على هذا من مقابله كهذه الآية . وحكوا القول بدورانها على مركزها وأوردوا عليه نظريات تشكك في كونه قطعيا ولا تنقضه - كما في المواقف والمقاصد وغيرهما - وقوله تعالى : ( يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ) ( 39 : 5 ) أدل على استدارة الأرض من هذه الآية وكذا على دورانها ، فإن التكوير في اللغة هو اللف على المستدير كتكوير العمامة . وهو إما أن يكون بدوران الشمس في فلكها الواسع حول الأرض وإما باستدارة الأرض حول الشمس ، وهو الذي قامت الدلائل الكثيرة في علم الهيئة على رجحانه .

                          ( والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ) الأمر هنا أمر التكوين ، أو هو عبارة عن التصرف والتدبير ومنه أولو الأمر ، وأصله الأمر المقابل للنهي توسعا فيه ، أي وخلق الشمس والقمر والنجوم حال كونهن مذللات خاضعات لتصرفه منقادات لمشيئته فقد قرأ الجمهور هذه الكلمات بالنصب ، وقرأها ابن عامر بالرفع على أن الشمس مبتدأ باعتبار ما عطف عليها ، ومسخرات خبره ، ولا فرق بين القراءتين في المعنى المراد من التسخير بأمره ، إلا أن ظاهر قراءة الجمهور أن الشمس والقمر والنجوم غير السماوات والأرض ؛ لأن العطف يقتضي المغايرة وسيأتي الكلام على ذلك في الكلام على السماوات السبع في موضعه .

                          ( ألا له الخلق والأمر ) " ألا " أداة يفتتح بها القول الذي يهتم بشأنه ، لأجل تنبيه المخاطب لمضمونه وحمله على تأمله ، والخلق في أصل اللغة التقدير وإنما يكون في شيء يقع فيه ، واستعمل بمعنى الإيجاد بقدر ؛ أي : ألا إن لله الخلق فهو الخالق المالك لذوات المخلوقات وله فيها الأمر وهو التشريع والتكوين والتصرف والتدبير فهو المالك ، والملك لا شريك له في ملكه ولا في ملكه ، وقد ذكرنا آنفا بعض الآيات الناطقة بتدبيره تعالى للأمر عقب ذكر الاستواء على العرش وفي معناه حديث مرفوع عند ابن جرير . ومن هذا التدبير ما سخر الله له الملائكة المعنيين بقوله : ( فالمدبرات أمرا ) ( 79 : 5 ) من نظام العالم وسننه ، ومنه الوحي ينزل به الملائكة على الرسل . ويشملهما قوله : ( الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن ) ( 65 : 12 ) وروي عن سفيان بن عيينة أنه قال : الخلق ما دون العرش والأمر ما فوق ذلك ، وعنه أن الأمر هو الكلام ، وليس عندنا عن غيره من السلف شيء غير هذا في الآية .

                          وللصوفية أن عالم الخلق ما أوجده الله تعالى بالأسباب المعروفة في المواليد الثلاثة مثلا ، والأمر ما أوجده ابتداء بقوله : " كن " كالروح وأصل المادة والعنصر الأول لها ، ومنهم من يسمي عالم الشهادة والحس بعالم الخلق وعالم الملك ويسمي عالم الغيب بعالم الأمر والملكوت [ ص: 405 ] ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) ( 3 : 59 ) أي عند نفخ الروح فيه . فجسمه مخلوق من سلالة من طين لازب وروحه من أمر الله تعالى .

                          ( تبارك الله رب العالمين ) أي تعاظمت وتزايدت بركات الله رب العالمين كلهم ومدبر أمورهم . والحقيق وحده بعبادتهم . فتبارك من مادة البركة ، وهي الخير الكثير الثابت ، فهي هنا تنبيه على ما في هذا العالم من الخيرات والنعم التي توجب له الشكر والعبادة على عباده دون ما عبدوه معه وليس لهم من الخلق ولا من الأمر شيء وتكلمنا على مادة البركة في تفسير ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك ) ( 6 : 92 ) فيراجع :

                          ( تنبيه ) عنى بعض المتكلمين بتكلف التوفيق بين ما ورد من ذكر السماوات السبع والكرسي والعرش على الأفلاك التسعة في الهيئة الفلكية اليونانية ، فزعموا أن السماوات السبع هي الأفلاك المركوز فيها زحل والمشترى والمريخ والشمس والقمر والزهرة وعطارد ، وأن الكرسي الذي ذكر في سورة البقرة هو الفلك الثامن الذي ركزت فيه جميع النجوم الثوابت ، وأن العرش هو الفلك التاسع الذي وصفوه بالأطلس لأنه ليس فيه شيء من النجوم ، وتلك نظريات قد ثبت بطلانها عند علماء الفلك في هذا العصر فسقط كل ما بني عليها من تكلف ولم يبق حاجة إلى الخوض في ذلك لرده ، كما أنه لا حاجة إلى تكلف حمل شيء من الآيات على مسائل العلوم والفنون المعتمدة في زمننا ، فإن القرآن أرشد البشر إلى العلم بتذكيرهم بآياته في الأكوان وترك ذلك لبحثهم واجتهادهم . وهداية الدين في ذلك أن يكون العلم بالكون وسننه وسيلة لتقوية الإيمان ، وتكميل فطرة الإنسان ، ولو اهتدى دول الإفرنج بهدايته هذه لما جعلوا العلم وسيلة للقتل والتدمير وقهر القوي به للضعيف .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية