الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب قول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين وما ينهى عن الكذب

                                                                                                                                                                                                        5743 حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب قوله - تعالى - يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين وما ينهى عن الكذب ) قال الراغب أصل الصدق والكذب في القول ماضيا كان أو مستقبلا وعدا كان أو غيره ، ولا يكونان بالقصد الأول إلا في الخبر ، وقد يكونان في غيره كالاستفهام والطلب ، والصدق مطابقة القول الضمير والمخبر عنه ، فإن انخرم شرط لم يكن صدقا ، بل إما أن يكون كذبا أو مترددا بينهما على اعتبارين ، كقول المنافق : محمد رسول الله فإنه يصح أن يقال صدق لكون المخبر عنه كذلك ، يصح أن يقال كذب لمخالفة قوله لضميره . والصديق من كثر منه الصدق ، وقد يستعمل الصدق والكذب في كل ما يحق في الاعتقاد ويحصل نحو صدق ظني ، وفي الفعل نحو صدق في القتال ، ومنه قد صدقت الرؤيا ا ه ملخصا . وقال ابن التين : اختلف في قوله مع الصادقين فقيل معناه مثلهم وقيل منهم . قلت : وأظن المصنف لمح بذكر الآية إلى قصة كعب بن مالك وما أداه صدقه في الحديث إلى الخير الذي ذكره في الآية بعد أن وقع له ما وقع من ترك المسلمين كلامه تلك المدة حتى ضاقت عليه الأرض بما رحبت ثم من الله عليه بقبول توبته ، وقال في قصته : ما أنعم الله علي من نعمة بعد إذ [ ص: 524 ] هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي أن لا أكون كذبت فأهلك كما هلك الذين كذبوا ، وقال الغزالي : الكذب من قبائح الذنوب ، وليس حراما لعينه بل لما فيه من الضرر ، ولذلك يؤذن فيه حيث يتعين طريقا إلى المصلحة . وتعقب بأنه يلزم أن يكون الكذب - إذا لم ينشأ عنه ضرر - مباحا ، وليس كذلك ، ويمكن الجواب بأنه يمنع من ذلك حسما للمادة فلا يباح منه إلا ما يترتب عليه مصلحة ، فقد أخرج البيهقي في " الشعب " بسند صحيح عن أبي بكر الصديق قال " الكذب يجانب الإيمان " وأخرجه عنه مرفوعا وقال : الصحيح موقوف . وأخرج البزار من حديث سعد بن أبي وقاص رفعه قال يطبع المؤمن على كل شيء ، إلا الخيانة والكذب وسنده قوي ، وذكر الدارقطني في " العلل " أن الأشبه أنه موقوف ، وشاهد المرفوع من مرسل صفوان بن سليم في الموطأ قال ابن التين : ظاهره يعارض حديث ابن مسعود ، والجمع بينهما حمل حديث صفوان على المؤمن الكامل .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( جرير ) هو ابن عبد الحميد ، ومنصور هو ابن المعتمر ، وأما جرير المذكور في ثالث أحاديث الباب فهو ابن حازم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إن الصدق يهدي ) بفتح أوله من الهداية وهي الدلالة الموصلة إلى المطلوب ، هكذا وقع أول الحديث من رواية منصور عن أبي وائل ، ووقع في أوله من رواية الأعمش عن أبي وائل عند مسلم وأبي داود والترمذي عليكم بالصدق فإن الصدق وفيه وإياكم والكذب فإن الكذب إلخ .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إلى البر ) بكسر الموحدة أصله التوسع في فعل الخير ، وهو اسم جامع للخيرات كلها ، ويطلق على العمل الخالص الدائم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وإن البر يهدي إلى الجنة ) قال ابن بطال : مصداقه في كتاب الله - تعالى - : إن الأبرار لفي نعيم . قوله : ( وإن الرجل ليصدق ) زاد في رواية الأعمش ويتحرى الصدق وكذا زادها في الشق الثاني .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حتى يكون صديقا ) في رواية الأعمش حتى يكتب عند الله صديقا قال ابن بطال : المراد أنه يتكرر منه الصدق حتى يستحق اسم المبالغة في الصدق .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وإن الكذب يهدي إلى الفجور ) قال الراغب : أصل الفجر الشق ، فالفجور شق ستر الديانة ، ويطلق على الميل إلى الفساد وعلى الانبعاث في المعاصي ، وهو اسم جامع للشر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وإن الرجل ليكذب حتى يكتب ) في رواية الكشميهني يكون وهو وزن الأول ، والمراد بالكتابة الحكم عليه بذلك وإظهاره للمخلوقين من الملأ الأعلى وإلقاء ذلك في قلوب أهل الأرض ، وقد ذكره مالك بلاغا عن ابن مسعود وزاد فيه زيادة مفيدة ولفظه لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب فينكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه فيكتب عند الله من الكاذبين قال النووي قال العلماء : في هذا الحديث حث على تحري الصدق وهو قصده والاعتناء به وعلى التحذير من الكذب والتساهل فيه ، فإنه إذا تساهل فيه كثر منه فيعرف به . قلت : والتقييد بالتحري وقع في رواية أبي الأحوص عن منصور بن المعتمر عند مسلم ولفظه وإن العبد ليتحرى الصدق وكذا قال في الكذب ، وعنده أيضا في رواية الأعمش عن شقيق وهو أبو وائل وأوله عنده [ ص: 525 ] عليكم بالصدق وفيه وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق وقال فيه وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب فذكره ، وفي هذه الزيادة إشارة إلى أن من توقى الكذب بالقصد الصحيح إلى الصدق صار له الصدق سجية حتى يستحق الوصف به ، وكذلك عكسه ، وليس المراد أن الحمد والذم فيهما يختص بمن يقصد إليهما فقط ، إن كان الصادق في الأصل ممدوحا والكاذب مذموما . ثم قال النووي : واعلم أن الموجود في نسخ البخاري ومسلم في بلادنا وغيرها أنه ليس في متن الحديث إلا ما ذكرناه قاله القاضي عياض ، وكذا نقله الحميدي ، ونقل أبو مسعود عن كتاب مسلم في حديث ابن مثنى وابن بشار زيادة وهي إن شر الروايا روايا الكذب ; لأن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ، ولا يعد الرجل صبيه ثم يخلفه فذكر أبو مسعود أن مسلما روى هذه الزيادة في كتابه ، وذكرها أيضا أبو بكر البرقاني في هذا الحديث ، قال الحميدي : وليست عندنا في كتاب مسلم ، والروايا جمع رواية بالتشديد وهو ما يتروى فيه الإنسان قبل قوله أو فعله ، وقيل هو جمع رواية أي للكذب والهاء للمبالغة . قلت : لم أر شيئا من هذا في " الأطراف لأبي مسعود " ولا في " الجمع بين الصحيحين للحميدي " فلعلهما ذكراه في غير هذين الكتابين .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية