الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    120 - ( فصل )

                    في المرض المعدي : كالجذام إذا استضر الناس بأهله : قال ابن وهب - في المبتلى يكون له في منزله سهم ، وله حظ في شرب فأراد من معه في المنزل إخراجه منه ، وزعموا أن استقاءه من مائهم الذي يشربونه مضر بهم ، فطلبوا إخراجه من المنزل .

                    قال ابن وهب : إذا كان له مال : أمر أن يشتري لنفسه من يقوم بأمره ، ويخرج في حوائجه ، ويلزم هو بيته فلا يخرج ، وإن لم يكن له مال : خرج من المنزل ، إذا لم يكن فيه شيء ، وينفق عليه من بيت المال .

                    وقال عيسى - في قوم ابتلوا بالجذام وهم في قرية موردهم واحد ، ومسجدهم واحد ، فيأتون المسجد فيصلون فيه ، ويجلسون فيه معهم ، ويردون الماء ويتوضئون ، فيتأذى بذلك أهل القرية ، وأرادوا منعهم من ذلك كله - قال : أما المسجد فلا يمنعون الصلاة فيه ، ولا من الجلوس ، ألا ترى إلى قول عمر بن الخطاب للمرأة المبتلاة - لما رآها تطوف بالبيت مع الناس : " لو جلست في بيتك لكان خيرا لك ؟ " ولم يعزم عليها بالنهي عن الطواف ، ودخول البيت ، وأما استقاؤهم من مائهم ، وورودهم المورد للوضوء وغير ذلك : فيمنعون ، ويجعلون لأنفسهم صحيحا يستقي لهم الماء في آنية ، ثم يفرغها في آنيتهم .

                    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا ضرر ولا ضرار } وذلك ضرر بالأصحاء فأرى أن يحال [ ص: 243 ] بينهم وبين ذلك ، ألا ترى أنه يفرق بينه وبين زوجته ، ويحال بينه وبين وطء جواريه للضرر ؟ فهذا منه .

                    وقال ابن حبيب عن مطرف في الجذامى : وأما الواحد والنفر اليسير : فلا يخرجون من الحاضرة ، ولا من قرية ، ولا من سوق ، ولا من مسجد جامع ، لأن عمر لم يعزم على المرأة وهي تطوف بالبيت ، وكذلك معيقيب الدوسي قد جعله عمر رضي الله عنه على بيت المال ، وكان عمر يجالسه ويؤاكله ، ويقول له : " كل مما يليك " فإذا كثروا : رأيت أن يتخذوا لأنفسهم موضعا ، كما صنع بمرضى مكة ، ولا يمنعون من الأسواق لتجارتهم ، وشراء حوائجهم ، أو الطواف للسؤال ، إذا لم يكن إمام يرزقهم من الفيء ، ولا يمنعون من الجمعة ، ويمنعون من غير ذلك .

                    وروى سحنون : أنهم لا يجمعون مع الناس الجمعة .

                    وأما مرضى القرى : فلا يخرجون منها ، وإن كثروا ، ولكن يمنعون من أذى الناس وقال أصبغ : ليس على مرضى الحواضر الخروج منها إلى ناحية أخرى ، ولكن إن كفاهم الإمام المؤنة منعوا من مخالطة الناس بلزوم بيوتهم والتنحي عنهم وقال ابن حبيب : يحكم عليهم بتنحيهم ناحية إذا كثروا ، وهو الذي عليه فقهاء الأمصار .

                    قلت : يشهد لهذا : الحديث الصحيح الذي رواه البخاري من حديث سعيد بن ميناء عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا عدوى ; ولا هامة ، ولا صفر ، وفر من المجذوم فرارك من الأسد ، أو قال : من الأسود } .

                    وروى مسلم في صحيحه " من حديث يعلى بن عطاء عن عمرو بن الشريد عن أبيه ، قال : [ ص: 244 ] { كان في وفد ثقيف رجل مجذوم ، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم : إنا بايعناك فارجع } .

                    وفي " مسند أبي داود الطيالسي " : حدثنا ابن أبي الزناد ، عن محمد بن عبد الله القرشي ، عن أمه ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تديموا النظر إليهم : يعني المجذومين } ومحمد هذا هو محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان .

                    ولا تعارض بين هذا وبين ما رواه مفضل بن فضالة عن حبيب بن الشهيد عن ابن المنكدر عن جابر { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم ، فوضعها معه في قصعته ، وقال : كل باسم الله ، وتوكلا على الله } فإن هذا يدل على جواز الأمرين ، وهذا في حق طائفة ، وهذا في حق طائفة ، فمن قوي توكله واعتماده ويقينه من الأمة : أخذ بهذا الحديث ، ومن ضعف عن ذلك : أخذ بالحديث الآخر ، وهذه سنة ، وهذه سنة والله أعلم .

                    فإذا أراد أهل الدار أن يؤاكلوا المجذومين ويشاربوهم ويضاجعوهم : فلهم ذلك ، وإن أرادوا مجانبتهم ومباعدتهم : فلهم ذلك . وفي قوله صلى الله عليه وسلم : { لا تديموا النظر إلى المجذومين } ، فائدة طبية عظيمة ، وهي أن الطبيعة نقالة ، فإذا أدام النظر إلى المجذوم خيف عليه أن يصيبه ذلك بنقل الطبيعة ، وقد جرب الناس أن المجامع إذا نظر إلى شيء عند الجماع وأدام النظر إليه ، انتقل من صفته إلى الولد ، وحكى بعض رؤساء الأطباء أنه أجلس ابن أخ له للكحل فكان ينظر في أعين الرمد فيرمد ، فقال له : اترك الكحل ، فتركه فلم يعرض له رمد ، قال : لأن الطبيعة نقالة .

                    وذكر البيهقي وغيره : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من غفار ، فدخل عليها ، فأمرها فنزعت ثيابها ، فرأى بياضا عند ثدييها ، فانحاز النبي صلى الله عليه وسلم عن الفراش ، فلما أصبح قال : الحقي بأهلك } [ ص: 245 ] وحمل لها صداقها .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية