الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    115 - ( فصل )

                    وكذلك لا ضمان في تحريق الكتب المضلة وإتلافها .

                    قال المروذي : قلت لأحمد : استعرت كتابا فيه أشياء رديئة ، ترى أن أخرقه أو أحرقه ؟ قال : نعم .

                    وقد { رأى النبي صلى الله عليه وسلم بيد عمر كتابا اكتتبه من التوراة ، وأعجبه موافقته للقرآن ، فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهب به عمر إلى التنور فألقاه فيه } . [ ص: 234 ] فكيف لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما صنف بعده من الكتب التي يعارض بعضها ما في القرآن والسنة ؟ والله المستعان .

                    وقد " أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كتب عنه شيئا غير القرآن أن يمحوه " ثم " أذن في كتابة سنته " ولم يأذن في غير ذلك .

                    وكل هذه الكتب المتضمنة لمخالفة السنة : غير مأذون فيها ، بل مأذون في محقها وإتلافها ، وما على الأمة أضر منها ، وقد حرق الصحابة جميع المصاحف المخالفة لمصحف عثمان ، لما خافوا على الأمة من الاختلاف ، فكيف لو رأوا هذه الكتب التي أوقعت الخلاف والتفرق بين الأمة :

                    وقال الخلال : أخبرني محمد بن أبي هارون أن أبا الحارث حدثهم قال : قال أبو عبد الله : أهلكهم وضع الكتب ، تركوا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على الكلام .

                    وقال : أخبرني محمد بن أحمد بن واصل المقري قال : سمعت أبا عبد الله - وسئل عن الرأي ؟ - فرفع صوته ، قال : لا يثبت شيء من الرأي ، عليكم بالقرآن والحديث والآثار .

                    وقال في رواية ابن مشيش : إن أبا عبد الله سأله رجل ، فقال : أكتب الرأي ؟ فقال : ما تصنع بالرأي ؟ عليك بالسنن فتعلمها وعليك بالأحاديث المعروفة .

                    وقال عبد الله بن أحمد : سمعت أبي يقول : هذه الكتب بدعة وضعها .

                    وقال إسحاق بن منصور : سمعت أبا عبد الله يقول : لا يعجبني شيء من وضع الكتب ، من وضع شيئا من الكتب فهو مبتدع .

                    وقال المروذي : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا حماد بن زيد ، قال : قال لي ابن عون : يا حماد ، هذه الكتب تضل .

                    وقال الميموني : ذاكرت أبا عبد الله خطأ الناس في العلم ، فقال : وأي الناس لا يخطئ ؟ ولا سيما من وضع الكتب ، فهو أكثر خطأ .

                    وقال إسحاق : سمعت أبا عبد الله - وسأله قوم من أردبيل عن رجل يقال له : عبد الرحيم ، وضع كتابا - فقال أبو عبد الله : هل أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذا ؟ أو أحد من [ ص: 235 ] التابعين ؟ وأغلظ وشدد في أمره ، وقال : انهوا الناس عنه ، وعليكم بالحديث . وقال في رواية أبي الحارث : ما كتبت من هذه الكتب الموضوعة شيئا قط .

                    وقال محمد بن زيد المستملي : سأل أحمد رجل ، فقال : أكتب كتب الرأي ؟ قال : لا تفعل ، عليك بالحديث والآثار ، فقال له السائل : إن ابن المبارك قد كتبها ، فقال له أحمد : ابن المبارك لم ينزل من السماء ، إنما أمرنا أن نأخذ العلم من فوق .

                    وقال عبد الله بن أحمد : سمعت أبي - وذكر وضع الكتب - فقال : أكرهها ، هذا أبو فلان وضع كتابا ، فجاءه أبو فلان فوضع كتابا ، وجاء فلان فوضع كتابا ، فهذا لا انقضاء له ، كلما جاء رجل وضع كتابا ، وهذه الكتب وضعها بدعة ، كلما جاء رجل وضع كتابا ، وترك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ليس إلا الاتباع والسنن ، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وعاب وضع الكتب وكرهه كراهة شديدة .

                    وقال المروذي في موضع آخر : قال أبو عبد الله : يضعون البدع في كتبهم ، إنما أحذر عنها أشد التحذير ، قلت : إنهم يحتجون بمالك : أنه وضع كتابا ؟ فقال أبو عبد الله : هذا ابن عون والتيمي ويونس وأيوب : هل وضعوا كتابا ؟ هل كان في الدنيا مثل هؤلاء ؟ وكان ابن سيرين وأصحابه لا يكتبون الحديث ، فكيف الرأي ؟ وكلام أحمد في هذا كثير جدا ، قد ذكره الخلال في كتاب العلم .

                    ومسألة وضع الكتب : فيها تفصيل ، ليس هذا موضعه ، وإنما كره أحمد ذلك ، ومنع منه : لما فيه من الاشتغال به ، والإعراض عن القرآن والسنة ، فإذا كانت الكتب متضمنة لنصر القرآن والسنة والذب عنهما ، وإبطال للآراء والمذاهب المخالفة لهما فلا بأس بها ، وقد تكون واجبة ومستحبة ومباحة ، بحسب اقتضاء الحال ، والله أعلم .

                    والمقصود : أن هذه الكتب المشتملة على الكذب والبدعة يجب إتلافها وإعدامها ، وهي أولى بذلك من إتلاف آلات اللهو والمعازف ، وإتلاف آنية الخمر ، فإن ضررها أعظم من ضرر هذه ، ولا ضمان فيها ، كما لا ضمان في كسر أواني الخمر وشق زقاقها .

                    قال المروذي : قلت لأبي عبد الله : لو رأيت مسكرا في قنينة أو قربة تكسر ، أو تصب ؟ قال : تكسر .

                    وقال أبو طالب : قلت نمر على المسكر القليل أو الكثير : أكسره ؟ قال : نعم تكسره .

                    قال محمد بن حرب : قلت لأبي عبد الله : ألقى رجلا ومعه قربة مغطاة ؟ قال : بريبة ؟ قلت : نعم ، قال تكسرها . [ ص: 236 ]

                    وقال في رواية ابن منصور - في الرجل يرى الطنبور والطبل مغطى والقنينة - إذا كان ، يعني أنه يتبين أنه طنبور أو طبل ، أو فيها مسكر : كسره .

                    وقد روى عبد الله بن أبي الهذيل ، قال : { كان عبد الله بن مسعود يحلف بالله أن التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم - حين حرمت الخمر - أن تكسر دنانها ، وأن تكفأ : ثمر التمر والزبيب } رواه الدارقطني في " السنن " بإسناد صحيح .

                    وعن أنس بن مالك عن أبي طلحة { أنه قال : يا نبي الله ، إني اشتريت خمرا لأيتام في حجري ، قال : أهرق الخمر ، واكسر الدنان } رواه الترمذي من حديث ليث بن أبي سليم عن يحيى بن عباد عنه .

                    وفي " مسند أحمد " من حديث أبي طعمة قال : سمعت عبد الله بن عمر يقول : { لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمربد ، فإذا بزقاق على المربد فيها خمر ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدية - وما عرفت المدية إلا يومئذ - فأمر بالزقاق فشقت ، ثم قال : لعنت الخمر وشاربها ، وساقيها ، وبائعها ، ومبتاعها ، وحاملها } الحديث . في " المسند "

                    أيضا عن ضمرة بن حبيب قال : قال عبد الله بن عمر : { أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آتيه بمدية ، فأتيته بها ، فأرسل بها فأرهفت ، ثم أعطانيها ، وقال : اغد علي بها ، ففعلت ، فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة ، وفيها زقاق خمر ، قد جلبت من الشام ، فأخذ المدية مني ، فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته ، ثم أعطانيها وأمر أصحابه الذين كانوا معه أن يمضوا معي ، وأن يعاونوني ، وأمرني أن آتي الأسواق كلها ، فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته ، ففعلت ، فلم أترك في أسواقها زقا إلا شققته } .

                    وفي " الصحيحين " عن أنس بن مالك قال : " كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح ، وأبا طلحة [ ص: 237 ] وأبي بن كعب شرابا من فضيخ وتمر ، فأتاهم آت ، فقال : إن الخمر قد حرمت ، فقال أبو طلحة : قم يا أنس إلى هذه الجرة فاكسرها ، فقمت إلى مهراس لنا ، فضربتها بأسفله حتى تكسرت " .

                    وفي " سنن النسائي وأبي داود " عن أبي هريرة ، قال : " علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { كان يصوم في بعض الأيام التي كان يصومها ، فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دن ، فلما كان المساء جئته أحملها إليه - فذكر الحديث - ثم قال : فرفعتها إليه ، فإذا هو ينش ، فقال : خذ هذه فاضرب بها الحائط ، فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر } .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية