الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            دور القيادة في إدارة الأزمة

            سلوى حامد الملا

            تقديم

            عمر عبيد حسنة

            الحمد لله، الذي شرع لنا قيما هادية لمسالك الحياة المختلفة، وأقام لنا نماذج بشرية تجسد لنا هذه القيم، وتنزلها على واقع الناس، بحراسة وتسديد الوحي، حتى لا نضل ولا نشقى، وجعل من مسيرة السيرة، محل القدوة، دليلا لفعل الإنسان وحركة الحياة، بكل تضاريسها وإشكالاتها، وكيفية التعامل معها، وكلفـنا بالاجتـهاد في إبـداع البرامج والخـطـط من وحـي هذه القيم الخالدة، التي تعلو على ظروف الزمان والمكان، وتتسع مساحاتها وطبقات معانيها لتطور فهم الإنسان واستقطاب استطاعاته في الظروف كلها.

            كما حملت هذه القيم لنا التحذير من السقوط الحضاري، وأهمية التنبه للمخاطر المحتملة، والوقاية منها، وكيفية إدارتها وتجاوزها حال وقوعها، وقدمت لذلك نماذج هادية، وقصت علينا علل أصحاب الأديان السابقة، التي كانت سبب بلائهم وأزماتهم وسقوطهم واستبدالهم، كتجارب إنسانية تاريخية، خضعت لسنة الله في الحياة والأحياء، حتى نعتبر بها ونأخذ حذرنا ونقوم بمراجعات دائمة لاختبار مدى انطباق سلوكنا وخياراتنا على المنهج السنني، [ ص: 5 ] الذي يمثل صراط الذين أنعم الله عليهم من الأمم السابقة، بعيدا عن الذين غضب الله عليهم والضالين، بسبب التأبي عن سنن الله، والانصراف عنها.

            والصلاة والسلام على من كانت الغاية من ابتعاثه إلحاق الرحمة بالعالمين، وإنقاذ الناس من الضلال، ووضع الآصار والأغلال عنهم، وتخليصهم من العنت والشقوة، وبين لهم من الدين ما شرعه الله ووصى به الأنبياء من قبل، فجاءت شريعته صلى الله عليه وسلم جماع الشرائع، ونبوته خاتمة النبوات، وصفاته كمالات الأنبياء، وأمته التي بناها هي أمة الوسطية والاعتدال، وأغنى تجربتهم بتاريخ النبوة وقصص الأنبياء وكيفية تعاملهم مع المشـكلات والأزمات، ليكون الأنبياء، الذين جاءوا لتتابع الأزمان ومختلف الأقوام وتجاربهم مصدر أسوة وقدوة.

            ولقد منحت وراثة النبوة الرسالة الخاتمة صفة العمق التاريخي العالمي والصلاحية لكل زمان ومكان وإنسان، وامتلاك الأهلية للتعامل مع ما يعترض الحياة من الإشكاليات والأزمات، بحيث أصبحت حياة الأنبياء وسيرتهم نوافذ وإضاءات أغنت إنسان الرسالة الخاتمة برصيد تاريخي وأبجدية تمكنه من قراءة جميع الوقائع والحالات وكيفية التعامل معها، فلكل نبي خصائص وصفات محل اقتداء واتباع، ولقوم كل نبي عادات ومنكرات وعلل وأمراض وأزمات جاءت النبوة لمعالجتها؛ فحياة الأنبياء وسيرهم تمثل السجل الحضاري التاريخي للإنسان.

            لذلك يمكن القول: إن الدرجة الحضارية لكل قوم تجد موقعا لكيفية التعامل معها في تاريخ النبوة، من أشـد الأقـوام تخلفا، منذ النشـأة الأولى، إلى أكثرها تقدما، حتى ينشئ الله النشأة الآخرة. [ ص: 6 ]

            وتأتي عظمة الرسالة الخاتمة وقيمة مسيرة عطائها، بدءا من النبوة الأولى إلى اكتمال نزول الوحي، من خلال تعدد الظروف وتنوعها، وتنوع العطاء والعلاج تاريخيا، الأمر جعل من الرسالة، خاتمة النبوة، مؤهلة للتعامل مع جميع الظروف والأحوال.

            وبذلك، فالنبوة الخاتمة، ليست مقتصرة على فترة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإنما هي من بدء النبوة الأولى وحتى ختمها، وجاء الجيل، الذي تربى على عين النبوة الخاتمة، نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، بخصائصه وصفاته، يمثل بمجموعه كامل النماذج، ويقدم أدلة للتعامل مع مختلف الظروف، ويبين مساحات من الفروق الفردية والخصائص، التي تتناسب مع كل ما يطرأ على حياة الناس، من العسر واليسر.

            لذلك، يمكن مقاربة الصـحـابة، رضـوان الله عليهم، بمجموع خصائصـهم، بالقول:

            إنهم يمثلون ما انتهت إليه خصائص وصفات الأنبياء، عليهم السـلام، فكما أن الرسالة الخاتمة انتهت إليها أصول الرسالات السماوية والنبوة التاريخية، وأن النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم اجتمعت له كمالات الأنبياء، فإن الجيل من الأصحاب، المشهود له بالخيرية والاتباع، انتهت إليه خصائص ومزايا الأنبياء؛ ذلك أن تعدد خصـائص الأنبيـاء وصـفـاتهم وشـرائعهم، الأصـل أنه إنما يتناسب مع خصائص الأفراد والأزمان، ويحمل العلاج والأدوية لكل علل الأمم، في كل زمان ومكان وإنسان. [ ص: 7 ]

            إن الصحابة، كما وصفهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كالنجوم أمنة السماء، التي تحفظ توازن الحياة، وتهدي إلى مسالكها الصحيحة، السليمة من الأزمات، يقول الرسـول صلى الله عليه وسلم : ( النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السـماء ما توعد، وأنا أمنـة لأصـحابي، فإذا ذهبت أتى أصـحابي ما يـوعـدون، وأصـحابي أمنـة لأمتي، فإذا ذهب أصـحـابـي أتـى أمتـي ما يوعدون ) (أخرجه مسلم).

            وبعد:

            فهذا "كتـاب الأمـة" السـادس والسـتون بعـد المـائة: "دور القيادة في إدارة الأزمة"، للأستاذة سلوى حامد الـملا، في سلسلة "كتاب الأمة"، التي تصدرها إدارة البحوث والدراسات الإسلامية في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، في سعيها الدائب لاسترداد الوعي والفاعلية المبصرة، ومعـاودة إخـراج الأمـة الوسـط، التي تتـحـلى بمنـهج الوسـطية وتمتلك ميزان الاعتدال، استجابة لقوله تعالى: ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) (الحديد:25)، الأمر الذي يؤهلها ويمكنها من الشهادة على الناس، وتخليصهم من التسـلط والظلم والإكراه والأغلال والآصار والأزمات والإشـكاليات، يقول تعالى: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) (البقرة:143). [ ص: 8 ]

            وذلك العطاء، لا يتحقق ولا يمتد إلا بديمومة تجديد الاجتهاد، في ضوء المتغيرات المستمرة؛ الاجتهاد الذي يأخذ باعتباره فقه النص وفهم الواقع وبناء الملكة الفقهية وتكاملها، ولا يتأتى ذلك إلا باستكمال شعب المعرفة، والتحول إلى الاجتهاد الجماعي، وإقامة المؤسسات ومراكز البحوث والدراسات.

            إن إشكاليات العالم اليوم، والإحاطة بعلمها، والقدرة على سبر غورها، وتحديد وجهتها، وإبصار عواقبها، لا يتسع له علم إنسان ولا عمره ولا عقله، مهما بلغ شأنه.

            لذلك يبقى السبيل، الذي يكاد يكون الوحيد لاستيعاب إشكاليات الحياة العالمية وتجنب مخاطرها، التي لم تعد تقتصر على أصحابها في هذا العصر العولمي، هو بالتحول إلى مؤسسات الاجتهاد الجماعي، الذي تجتمع لديه سائر الاختصاصات والمعارف، التي تمت إلى هذه المستجدات والإشكاليات والأزمات بصلة، من قريب أو بعيد.

            المؤسسات القادرة على القيام بالمراجعات الشاملة لواقع الأمة وموقعها من العالم اليوم، وأسباب تخلفها، في محاولة لإعادة ترميم (الذات) وتنميتها وتحصينها وحسن اختيار دورها، ومعالجة الاختلالات، وحمايتها من المخاطر المحيطة بها، والأخذ بيدها لتجاوز الأزمات، التي تعاني منها أو تقترب من دارها.

            ويبقى سبيل الخروج من المعاناة والأزمات، بكل إفرازاتها وتداعياتها، والتخلف والتراجع وإصاباته، بالعودة المبصرة إلى البوصلة الأساس، قيم الوحي، [ ص: 9 ] في الكتاب والسنة، وتنزيلها في السيرة النبوية وجيل خير القرون، التي أصبحنا نحملها ولا نعملها والتي تحولت ، مع الأسف، إلى أسفار تطبع وتحمل وتنقل، بحيث أصبح العلم يرفع على الرفوف، وتزين به الجدران، ولا تنار به العقول.

            وقد يكون من المتفق عليه أهمية العودة إلى قيم الكتاب والسنة، كسبيل للخروج، لكن يبقى المطروح هو: كيفية تلك العودة؟

            وفي تـقـديرنا أن ذلك يـتـطلب نقدا شـجـاعـا للطـرائـق، التي نسـلكها ولا توصلنا، كما يتطلب اجتهادا جريئا لإبصار آفاق وأبعاد وطبقات من المقاصد والمعاني غابت عن حياتنا، بسبب محاصرة بأسوار من القدسية، ترفعها من التداول وتحرم المساس بها، وتستمر الحال هي الحال، وفي أحسن الأحوال، أو إن شئت فقل: في أردئها، تجيء المحاولات والإسقاطات على الواقع والاجتهادات والفتاوى بائسة أو منحازة، فتصبح تبعا لهوى السلطان، سلطان السـياسة أو سـلطان المـال أو الجـاه، أو تكريسـا للهوى الحزبي أو الطائفي أو المذهبي، أو سندا ودعما لممارسات يائسة أو طائشة أو عابثة بقيم الدين من بعض أصـحاب العقول المعوجة، وبذلك تتحـول القيم في الكتاب والسـنة من حل للإشـكاليات والأزمات إلى صناعة إشكاليات وأزمات مركبة، ونعيش كما يقول الله تعالى: ( ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ) (النور:40). [ ص: 10 ]

            ولعل من الأهمية بمكان أن نؤكد أن عملية إسقاط القيم والأحكام الشـرعية على الواقع دون دراية وفقـه وفهم لهذا الـواقع، بكل تعقـيداتـه، الذي يشـكل محل الحكم والذي يفترض أن تتوفر فيه شـروط تنزيل الحكم وفي مقدمتها الاستطاعة، حيث لا تكليف بدون استطاعة... هي التي تشكل أزمات وإصابات يأخذ بعضها برقاب بعض؛ بدل أن تقدم الحل وترسم سبيل الخروج وتؤهل لإبداع آلية للتعامل مع الأزمة وتبصر بطريق العودة إلى قيم الكتاب والسنة واستنطاقها للإجابة عن مشكلاتنا وأزماتنا، باعتبار أننا نؤمن بعصمتها وخلودها، ونعتقد أن قصورها عن تقديم الحل لمشكلاتنا والعلاج لأزماتنا هو قصور في ذواتنا واجتهادنا وبصارتنا، وغيبوبتنا عن قيمنا الإسلامية وعصرنا الزاخر بالمشكلات معا.

            ولذلك، فبدل أن نقدم الحل نزيد الإشكالية تعقيدا وتأزيما، وقد يصل الأمر إلى الشك بقدرة القيم الإسلامية على تقديم الحل.

            فكيف يتأتى لنا تقديم الحل المناسب والفقه الملائم إذا لم نستدرك آليات فقه النص والتحقق بالتخصصات المعرفية المطلوبة لفهم العصر؟ إننا نعيش عصر ذهاب العلم، الذي أخبر عنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم .

            فعن زياد بن لبيد رضي الله عنه قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شـيئا فقال: ( وذاك عند أوان ذهاب العلم ) قال: قلنا: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن، ونقرئه أبناءنا، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: ( ثكلتك [ ص: 11 ] أمك يا ابن أم لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أوليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل لا ينتفعون مما فيهما بشيء؟ ) (أخرجه أحمد).

            وقد يكون الأمر المهم هنا أن نعاود التأكيد أن القيم معصومة وخالدة، وهذا لا يعني بالضرورة أن يكون التراث، حتى ولو كان متأتيا من هذه القيم بنظرات واجتهادات بشرية، معصوما أو خالدا.

            وحين نطلب العودة إلى القيم في الكتاب والسنة الخالدة والمعصومة واستئناف المسيرة لتجديد الاجتهاد وكيفية التعامل مع الأزمات والإشكاليات، لا ندعو إلى إسقاط التراث والقفز من فوقه، أثناء العودة إلى قيم الكتاب والسنة، ولكن ندعو إلى عدم الانحباس ضمن ظروفه وأشخاصه وبيئة نشوئه، ونؤكد القول: إن هذا التراث العظيم، الذي تولد عن الاجتهاد والنظر لتنزيل قيم الكتاب والسـنة على واقع النـاس في أزمان مختلفة هو التـجـربة الغـنـية، التي نهتدي بها ونمر من خلالها وتجاربها في الخطأ والصواب والتعديل والتصـويب إلى استلهام قيم الكتاب والسنة، وإعادة استنطاقها للإجابة عن أسئلتنا اليومية؛ وهذا النهج لا يتوفر إلا باستيعاب التراث، وبناء الملكة المؤهلة للنظر والاجتهاد، واكتشاف طبقات وآفاق إضافية تناسب عصرنا وبيئتنا وعالمنا، وتحقق خلود الآيات وقدرتها على الإنتاج لكل زمان وحال.

            فتجربة التراث غنية، وغنية جدا، لكن تبقى المشكلة: كيف نتعامل مع هذا التراث العظيم، ونستصحبه لإعانتنا على النظر في قضايانا ومشكلات [ ص: 12 ] أزماننا، ونبصر، من خلال ما يشكل لنا من رؤية وتجارب تاريخية، المخاطر والأزمات، التي تعرض لنا، وكيفية التعامل معها؟

            والأمر المحزن حقا، أننا ما نزال نقتصـر في التعامل مع التراث على الفخر به، والاتكاء عليه لتغطية حالة العجز ومعالجة مركب النقص، الذي نعاني منه، والتفاخر بأننا أصل الحضارة العالمية اليوم، وفي أحسن الأحوال نحي التراث بالطباعة والنشر والتجليد الفاخر، والتسابق في ذلك، والتباهي بالحجوم والكميات، أو على أحسن الأحوال بتحقيق مخطوطاته وكتبه، شرحا واختصارا، واختصارا وشرحا، وتتمركز معظم جهودنا حول تنقيته من التصحيف والتخليط، وتحريره من الالتباس، وتوثيقه، ويكاد ينصرف لذلك معظم طلابنا وجامعاتنا ومعاهدنا، وإذا انتهى التحقيق والشرح للمختصرات والمتون والاختصار للشروح والمطولات فقد انتهت المهمة، وذهبت هذه الجهود إلى رفوف المكتبات، كشأن ما سبقها، وقد لا يرجع إليه إلا طالب يحقق مخطوطة أو مؤلفا بنفس الإطار والموضوع!

            وهذا التحقيق عمل عظيم، ومقدمة لا بد منها للانطلاق من نصوص صحيحه وسليمة ودقيقة؛ وطباعتها ونشرها لتمكين الإطلاع عليها عمل عظيم أيضا، لكن ذلك كله يبقى في إطار الوسائل والأدوات، التي سوف تفتقد قيمتها العملية إذا لم ندركها ونستوعبها ونتمكن منها، لنوظفها ولنبني عليها، ونكون قادرين على بناء الملكة على تجريدها من حدود الزمان والمكان وتوليدها في هذا الزمان وهذا المكان، بكل ظروفه ومشكلاته. [ ص: 13 ]

            إنه عمل يكاد ينصرف كليا إلى تحرير الإسناد والرواية، لكنه يبقى مهتما جزئيا، وبشـكل لا يكاد يذكـر، بالدراية والفقه والإجابة عن أسـئلة الحـاضـر، وفي أحسن الأحوال القيام بعملية الإسقاط، والعودة إلى الوراء عشرات أو مئات السنين، دون النظر للمتغيرات والظروف والأحوال، تحدونا في ذلك دوافع حزبية أو طائفية أو سياسية -كما أسلفنا- دون القدرة على عملية التنزيل، الذي يلاحظ ظرف الزمان والمكان والاستطاعة وتوفر شروط محل الحكم.

            وتبقى مشكلة التمييز بين الإسقاط والتنزيل، هي المعضلة والأزمة الحقيقية، اليوم وغدا وبعد غد؛ ذلك أن الإسقاط عملية حفظ وذاكرة ومقاربة آلية وليس اجتهادا وإعمال عقل وتحريك ذكاء.

            ولعلنا نقول: إن هذا الركود وهذه العطالة والعجز في استصحاب التراث واستنطاقه والاقتصار على إسقاطه على الواقع، دون دراسة أو فقه، انتهى ببعض العجزة إلى الانحباس ضمن التراث، وإعطائه صفة العصمة والتقديس، شأن قيم الكتاب والسنة، والاكتفاء بالقراءة ومعاودة القراءة؛ كما انتهى بالبعض الآخر إلى إسقاطه من حسابهم واهتمامهم والحكم عليه بأنه جاء ثمرة لغير عصرنا وظروفنا، وبالتالي لا يصلح لمعالجة واقعنا!

            والكثير منا انحاز عاطفيا للتراث، وأكد على أهميته في استعادة العافية، والعيش في ظل القيم الإسلامية، لكن دون امتلاك المنهج الصحيح والرؤية السليمة واستشعار أهمية توفير التخصصات والمؤهلات اللازمة، فاستعجل أمره، وكان لتصرفه نصيب كبير من العبث بالأحكام الشرعية، والإقدام على مجازفات [ ص: 14 ] غير معقولة ولا مقبولة ولا مثمرة ولا شرعية، فضل بذلك عندهم السعي وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، فشكلت تصرفاتهم وسوء تقديرهم وعدم فقههم ضغثا على إبالة، وكأن النوايا الحسنة - إن وجدت - تشفع لهم، على الرغم مما يلحقونه بالأمة من إصابات وفتن ونكبات تدمر أجيالها، وتشوه قيمها، وتنفر الناس منها، وتعيدها إلى نقطة الصفر، وتدخلها في أزمات وإشكالات لا نهاية لها، وبذلك نكسر أسلحتنا بأيدينا، ونمكن أعداءنا منا.

            لقد أكدنا في أكثر من مناسبة أن التعاليم الإسلامية، أو القيم الإسلامية، أو التكاليف الشرعية، تبدأ مع الإنسان من الحال التي هو عليها، والاستطاعة التي يملكها، وتترقى به، صعودا، ولكن ذلك لا يمنع من الإصابة والارتكاس والهبوط في أقدار التدين، بحسب ارتفاع الاستطاعة وتدنيها.

            إن التـكليف ابتـداء منـوط بالاسـتطـاعة، فـإذا فـقدت الاسـتـطـاعـة فلا تكليف، والآيات الدالة على ذلك كثيرة، وكثيرة جدا، يأتي على رأسها قول الله تعالى: ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) (البقرة:286)، وقـوله: ( لا تكلف نفس إلا وسعها ) (البقرة:233)، وقـوله سـبحانه: ( من استطاع إليه سبيلا ) (آل عمران:97)، وقوله: ( فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) (البقرة:196)، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ... إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) (أخرجه البخاري).

            وبذلك نستطيع القول: إن المسلم يطبق الشريعة في كل أحواله وبحسب استطاعته، فإذا زادت استطاعته زادت تكاليفه... [ ص: 15 ]

            وهكذا، فإن تطبيق الشريعة لا يشكل إشكالية بالنسبة للمسلم في كل الأحوال، حتى في أشدها عنتا وعسرا.. وبذلك يخرج من عهدة التكليف، ويعتبر ما قام به من التكاليف الشرعية، وفق استطاعته، هو الإسلام المنوط به كاملا، ولو لم يستكمل جميع فروعه، ويصدق هذا على مسالك الأفراد كما يصدق على الجماعات والدول والأمم، شريطة أن يكون المسلم مؤمنا بكامل التكاليف الشرعية، ما يستطيع منها وما لا يستطيع، وإنما يعمل على بلوغ ما لا يستطيع؛ يؤمن بكل التعاليم والتكاليف، ويطبق منها ما يستطيع ويقع ضمن حدود طاقاته.

            وهو بذلك يتجاوز ما يمكن أن يكون من عقدة الذنب، ويغلق نوافذ الطـاقة السـلبية في ذاته، وينمي الطـاقة الإيجـابية، ويتوسع في دوائر الخير، في مقاربة لبلوغ الكمال.

            كما أنه بهذه القناعة لا يقع أسيرا للأمنيات والرغبات، التي لا يمتلك إمكانها، فيقدم على مجازفات خاسرة، ابتداء لأنه لا يمتلك مناطها من الاستطاعة، بكل جوانبها؛ كما يتخلص من اللبس والخلط بين الإمكانات والأمنيات وسوء التقدير، عندما ينظر للمشكلات والتكاليف من خلال أدوات معرفية صحيحة وموضوعية.

            صحيح أن الشريعة بكامل تعاليمها إنما جاءت متوافقة مع استطاعة الإنسان ومنسجمة مع فطرته ابتداء، ولا أدل على ذلك من أن الجيل الأنموذج، برعاية النبوة وتسديدها، دلل على أن تكاليفها إنما تقع ضمن [ ص: 16 ] استطاعة الإنسان، لكن صحيح أيضا، عقلا وواقعا، أن أقدار التدين وأحوال الناس لا تثبت على حال، وإنما هي عرضة للصعود والهبوط.

            فالرؤية لأبعاد التكليف ومساحاته تبقى متكاملة، والإرادة متوفرة وقائمة، لكن القدرة متفاوتة، بحسب الأحوال، ومن هنا تتفاوت درجة التكليف.

            وهنا قضية أيضا قد يكون من المفيد الإشارة إليها، والتوقف عندها، وفتح ملفها، واستدعائها للتفاكر والاجتهاد والنظرات التجديدية، وهي فرية ادعاء أن المجتمعات غير جاهزة ولا مؤهلة لتطبيق الشريعة، كنوع من الالتواء والالتفاف على القضية، ومحاولة القفز من فوقها، والعمل على تأجيل النظر فيها، وفي ذلك مزيد من الابتعاد عن شرع الله والتأهيل للعمل به.

            فإذا تقرر عندنا أن الشريعة تبدأ مع الناس من حيث هم، وأن التكليف منوط بالاستطاعة، فإن تطبيق الشريعة، بحدود الاستطاعة، على مسـتوى الفرد والمجتمع والأمة والدولة، يبقى ممكنا بل ملزما في كل الأحوال، وذلك بالقدر المتاح، ومن ثم يبدأ الترقي بالتطبيق، بحسب الاستطاعة -كما أسلفنا- وبذلك يتم تأهيل المجتمع والفرد لتطبيق الشريعة بالشريعة نفسها، إذ لا يمكن أن يؤهل المجتمع لتطبيق الشريعة بقوانين خارجة عليها، أو معادية لها، أو بعيدة عنـها؛ فالتـأهيل يبدأ بتطـبـيـق التـكاليف الشـرعية المسـتـطاعة والممـكنـة، ومن ثم الترقي والتنمية للاستطاعة لتطبيق الشريعة أكثر فأكثر.

            وهنا محذور، قد يكون من المناسب التخويف منه والإشارة إليه، وهو اتخاذ حدود الاستطاعة المناسبة لتنزيل الأحكام فلسفة للهرب والقعود عن [ ص: 17 ] الاضطلاع بالأمانة والإرجاء والتنصل من المسـؤولية، فالمسـلم في ذلك أمام من يعلم السر وأخفى.

            هذا من جانب، ومن الجانب الآخر فإن سوء التقدير هو الذي يدفعنا إلى الإقدام على مواجهات وتكاليف غير ممكنة وغير محسوبة، ولا نملك الاستطاعة لممارستها، ومع ذلك نحاول التطاول إلى ما لا نسـتطيع، بضروب من الحماس، الأمر الذي يجعلنا نخسـر ما نسـتطيع، حيث إننـا بذلك ندع ما نملك إلى ما لا نملك، فنخسر الجميع، وقد تكون هذه المسالك اليائسة والمترافقة مع الفقه القليل والرأي العليل هي الدافع لهذه المجازفات الكثيرة والخطيرة، التي بدأت ولم تنته، ذلك أن النظر للإشكاليات والإقدام عليها بدون استيعابها وامتلاك الاستطاعة للتعامل معها، والأدوات المناسبة والاختصاصات المعرفية المطلوبة لتحليلها ودراسة أسبابها والاهتداء إلى طرائق حلها، يؤدي إلى تأزيم المشكلات بدل حلها وحسن إدارتها.

            ولعل هذا الذي عرضنا له يمت بصلة كبيرة إلى أن حدود الاستطاعة ومداها إنما يقوم بالسنن الجارية في الكون والإنسان والحياة، ويعاير بالقوانين الضابطة لمسيرة الحياة والتي تمكن من إبصار المخاطر والأزمات المحتملة، والحيلولة دون وقوعها، ويبصر بكيفية التعامل معها، حال وقوعها، وفق هذا المنهج السنني والقانون الاجتماعي: ( سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا ) (الأحزاب:38). [ ص: 18 ]

            ولعل عدم استيعاب مسألة الاستطاعة وإمكانية القدرة على تحديدها والعلم بالقوانين والسنن الجارية، هي التي تدفع إلى المجازفة والتطاول إلى انتظار السـنن الخارقة، التي لا تكليف لنا بها، وإنما شـأنها إلى الله، بل لعلنا نـقـول: إن السنن الخارقة قد توقفت في حياة الناس بعد اكتمال الدين الخاتم، بحيث جعل إنجاز تعاليمه وتحقق تكاليفه وإعجازه في تغيير الحال منوط باستطاعة وعزمات البشر، بعد أن بلغ الإنسان رشده وآتاه الله حكما وعلما.

            فالمعجزة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة أنهم أنجزوا هذا البناء من خلال السنن الجارية، من خلال عزمات الناس والتدافع الحضاري، يقول الله تعالى: ( ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض ) (محمد:4)، ويقول: ( قل هو من عند أنفسكم ) (آل عمران:165).

            ويبقى الإنسان، وتبقى الاستطاعة محل الحكم ومدار التكليف، لذلك لا بد أن يتم الاجتـهاد ليس فقط في إطـار حـفظ الحكم وتحقيقه ونقله، وإنما بمتابعة الطريق، والتحول بالاجتهاد، كل الاجتهاد، إلى محل تنزيل الحكم الشرعي، واختبار مدى استكمال شروط تنزيله، وفقا للمعطيات السننية، التي أشرنا إليها.

            ولعل لقضية تطبيق الشريعة وكيفية تعامل الأحكام الشرعية مع الواقع بعدا آخر، فيما وراء الاستطاعة، وهو أن مبتنى الشريعة على تحقيق مصالح العباد، في معاشهم ومعادهم، ودرء المفاسد عنهم، وأن الأحكام الشرعية معللة بالمصالح ابتداء، والتكاليف الشرعية في ذلك نوعان، كما هو معلوم، نوع [ ص: 19 ] يتعلق بالعبادات وهو توقيفي تعبدي، الكثير منه غير معلل وغير قابل للتعليل والقياس والاجتهاد تقريبا، والنوع الآخر يشمل أحكام المعاملات، التي مبتناها المصالح والمفاسد؛ وساحة الاجتهاد الكبيرة المتجددة هي في مجال أحكام المعاملات وأحوال الناس واجتماعهم وعمرانهم وتطور مجتمعاتهم؛ وتقدير هذه المصالح والمفاسد إنما يكون من أهل العلم والتخصص به في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والقانونية، والعمران بشكل عام، الذين يمتلكون المرجعية الشرعية أيضا، وهذا لا يتأتى من فرد أو أفراد بعد هذا التطور الهائل في المجتمعات والتواصل بين العالم والتأثير والتأثر والتحديات المشتركة، الظاهر منها والباطن.

            لذلك، فإن السبيل إلى تقدير المصالح والمفاسد إنما يكون باجتهاد جماعي، تتوفر له جميع التخصصات، التي لها علاقة به، ومنها التخصص الشـرعي، الذي يشـكل المرجـعية والإطـار والأسـاس، الـذي يـقـوم عليـه البنـاء الحضاري.

            وهنا نقول: إن تنزيل الحكم لابد أن ينظر معه إلى مدى تحقيقه للمصلحة المقدرة، ذلك أن مساحة الاجتهاد في هذه المسائل ومدى الاحتمالات وتغير الاجتهاد من وقت لآخر ومن مجتمع لآخر متسع جدا؛ وحيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله.

            لذلك نجد الفقهاء الأحناف في فقه المعاملات، كثيرا ما عدلوا عن القياس، كأحد مصادر الأحكام الشرعية، إذا تبين لهم من التطبيق الآلي [ ص: 20 ] ومن المستجدات أن التطبيق يفوت المصلحة، وقد يفضي إلى مفسدة؛ عدلوا عن القياس إلى الاستحسان، وهو العدول عن القياس لمصلحة واضحة تقتضي ذلك العدول، وإن كان بعضهم أحب أن يسميه، تحوطا: "القياس الخفي".

            كما ذهب بعض علماء الحنابلة إلى تقييد النصوص بالمصالح، وأكثر من ذلك تقديم المصلحة عند التعارض الظاهر، والمصالح إنما ينظر فيها أهل التخصصات المتنوعة - كما أسلفنا - التي لها علاقة بالقضية المطروحة للاجتهاد، واليوم العالم يمر بإشكاليات وقضايا كثيرة ومعقدة ومركبة، وعالم المسلمين تحيط به الأزمات والمشكلات والفتن، التي يأخذ بعضها برقاب بعض، وبمقابل ذلك نجد العبث بالأحكام والمجازفات وسوء التقدير واحتراف الزعامات الجـاهلة، التي تنصب نفسها للحل والعقد، مما يزيد الأمور تعقيدا، ويولد من الأزمة أزمـات، ويـتـقـدم الجهل، ويحاصر العلم، وتتـسـع دائـرة الكـذب والتدليس، ولا يردعنا قوله تعالى: ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ) (يونس:39)، وقوله: ( ولا تقف ما ليس لك به علم )

            فهل من سبيل إلى تجديد الاجتهاد، وإعادة النظر بوسائله ومؤهلاته والتخصصات المطلوبة للنظر والرأي، والتأدب مع الحقيقة والواقع، حيث إننا اليوم نفتقد المعرفة ونفتقد أخلاقها، فأنى لنا النهوض والنجاح؟

            وقد تكون قضية فقه التنزيل من أهم وأخطر القضايا المطروحة على العقل المسلم، ذلك أن ملف الاجتهاد التنزيلي وأهميته أمر ما يزال خافيا وغائبا، [ ص: 21 ] فالمعطيات الفقهية، أو ساحة الاجتهاد، تاريخيا، اتجهت صوب فقه النص، والامتداد بالقياس، وفقه النوازل، الذي هو أقرب للإسقاط منه للتنزيل، وتطبيق النص على الحوادث المتشابهة، أو الحالات المتماثلة، إلا القليل القليل من النظرات المتناثرة هنا وهناك، ولعل المسوغ في هذا كان ذلك التوازي بين النص والواقع، وأن الفقهاء والمجتهدين كانوا في الماضي من داخل المجتمع، العاملين فيه، المدركين لمكوناته ومستوياته وأعرافه واستطاعاته.

            أما بعد أن أصبح الكثير من المجتهدين يعيشون خارج حياة الناس وأنشطتهم وأعرافهم واستطاعاتهم وأقدار تدينهم، فلم تعد الأدوات الاجتهادية والساحة الاجتهادية تتجاوز أفق النص إلى فقه واقع الناس، أو فهم واقع الناس، الذي يعتبر موقع الاجتهاد الحقيقي اليوم.

            وفهم واقع الناس، واستطاعاتهم، بكل مكوناته وتعقيداته وأدوات قياسه، أصبح بحاجة إلى اختصاصات معرفية دقيقة ومتنوعة؛ وأصبح الاجتهاد الجماعي متعدد التخصصات المعرفية، هو السبيل لتنزيل القيم الإسلامية على واقع الناس.

            إن الفهم، أو فقه محل تنزيل الحكم ومكوناته واستطاعاته لا يقل أهمية عن فقه النصوص، في الكتاب والسنة، إن لم يتجاوزها، بعد هذا الرصيد الضخم من فقه النص، وبعد أن اكتمل وتوفر لنا هذا الرصيد التراثي الضخم عبر القرون، وأصبح المطلوب والمطروح: [ ص: 22 ]

            كيف نتعامل مع هذه القيم وهذا التراث؟ كيف نعيد قراءتها بحسب واقعنا، حتى نتمكن من الارتقاء به من خلالها؟

            وكيف نعيد قراءة وتقويم واقعنا، وتحديد مواطن الاعتلالات، ونفقه أسبابها، ونحسن اختيار العلاج الملائم لأمراضنا، وندرس الأسباب المنشئة لأزماتنا في كل مرحلة، ونقارب ذلك من خزانة التعاليم والتكاليف الشرعية؟

            كيف نحل المعادلة الصعبة اليوم: نفقه القيم ونفهم الواقع؟ ولعلنا نقول: إن فهم الواقع هو من فقه القيم والنصوص، في المحصلة النهائية.

            وإذا لم نحل هذه المعادلة الصعبة، ويتسع في حياتنا فقه التنزيل، نتحول إلى ظاهرة صوتية، ومجازفات غير محسوبة، وسوء تقدير، وتعسف في تطبيق الشريعة، ومحاصرتها، وإبعاد الناس عنها، وفرارهم منها، بدل أن يفروا إليها طلبا للنجاة.

            إن فقه المحل، وإدراك حدود الاستطاعة، ومدى التكليف، في كل مرحلة من حياة الناس، لا يعني التقطيع والانتقاء والتعطيل والإلغاء لأحكام الشريعة ورفعها من ساحة التكليف والتطبيق، وإنما يعني أن التطبيق العشوائي دون التبصر والاجتهاد وتوفر شروط الاستطاعة يفضي إلى حصول المفسدة، بدل تحقيق المصلحة، لذلك يتوقف تطبيق الحكم على توفير الاستطاعة، ويستأنف تطبيقه حين توفيرها.

            فتحريم ادخار لحوم الأضاحي للدافة، عندما تعرضت المدينة المنورة للأزمة، التي لحقت بالناس، حيث ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم [ ص: 23 ] الضحايا بعد ثلاث ) لا يعني إلغاء حكم الادخار، بدليل أنه في العام التالي عندما تحسنت أحوال الناس وتغيرت ظروف الاستطاعة وتوفرت شروط التنزيل، تغير الحكم.

            تقول السيدة عائشة، رضي الله عنها: "دف أهل أبيات من أهل البادية حضرة الأضحى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ادخروا ثلاثا، ثم تصدقوا بما بقي ) فلما كان بعد ذلك، قالوا: يا رسول الله، إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويجملون منها الودك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وما ذاك؟"، قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال: ( إنما نهيتكم من أجل الدافة، التي دفت، فكلوا وادخروا وتصدقوا ) (أخرجه مسلم).

            إنه فقه كيفية التعامل مع الأزمات، وكيفية إدارتها، ذلك أن الأزمة هي خلل يلحق بالواقع، ويخلف اهتزازات وتغيرات وحاجات وإصابات على غير المألوف والمعتاد، فكيف نديرها؟ وكيف نتعامل معها؟ والأزمـة والشـدة والمخمصة تغير من الاستطاعات، وتحد من الاسـتطاعات، وبذلك تتغير الأحكام.

            فقد يؤدي تطبيق الأحكام الشرعية الناظمة للحياة الطبيعية إلى مزيد من التأزم والمفاسد، لذلك جاءت القاعدة الشرعية: أن "الضرورات تبيح المحظـورات"، وهذا لا يعني أبدا تعطـيل الأحـكام أو إلغـاء التكاليف الشـرعية، وإنما يعني فـقـه تـنـزيـلـها ومواءمتها للـواقـع، يقول الله تعـالى: ( فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ) [ ص: 24 ] (المائدة:3)، ويقول تعالى: ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم ) (النحل:115).

            وهذا الفقه الواقعي الميداني، هو الذي حمل سيدنا عمر رضي الله عنه من وقت مبكر على التعامل مع الأزمات بمقاصد الشرع وفقه المحل والواقع، الأمر الذي جعله، أو الفقه، الذي جعله يتخذ تشريعات إدارية للتعامل مع "أزمة عام الرمادة"، المعروفة في مظانها، ومنها: عدم قطع يد السارق، وإيقاف جباية الزكاة، ومن ثم العودة لجبايتها بعد تحسن الحال، ولعل منها أيضا وضع الجزية عن نصارى بني تغلب، وعدم قتل المرتد، ومد فترة استتابته، ضمن ظروف معينة؛ وكثيرون هم فقهاؤنا، الذين غيروا فقههم بعد تغير الأعراف والأحوال والمجتمعات، التي كانوا يعيشـون فيها، ولا يعني ذلك أبدا إلغاء الأحكام أو تعطيلها أو إسقاطها من ساحة التكليف.

            فعدم توفر شروط النجاح المطلوبة لأي عمل اليوم يؤدي إلى إيقاف وحجب المكافأة، أو الجائزة، وهذا لا يعني إلغاءها بحال من الأحوال.

            وإذا كان فقه المحل، أو توفر الاستطاعة لتنزيل الأحكام الشرعية على واقع الناس، وتقويم حياتهم بها، في الظـروف والأحـوال العادية الطبيعية مطـلـوبا، فإن فقه الأزمة ومعرفة أسبابها ومكوناتها، وامتلاك القدرة على دراسة أسبابها وتفكيكها، والتبصر بكيفية إدارتها، والأحكام الملائمة للتعامل معها، والخروج منها، هو آكد وأهم، الأمر الذي ما يزال غائبا بالأقدار المطلوبة عن العقل المسلم اليوم، حتى ليمكننا القول: إن ثقافة دراسة المخاطر لمشاريعنا وأعمالنا، [ ص: 25 ] واستشراف الأزمات والاحتمالات، والإعداد لها، وكيفية التعامل معها، حال وقوعها، وفقه الأحكام المناسبة لها، لم تأخذ البعد المطلوب، وتمنح العبرة، وتحول دون التكرار والتراجع المستمر، ولعل ذلك إنما حصل بسبب الفهم المعوج لقضية القدر أصلا.

            إن الفهم المعوج للقدر، هو الذي يؤدي إلى اعتبار وقوع الأزمة والعجز عن التعامل معها والاستسلام لها من أقدار الله! الأمر الذي أفضى بنا إلى العطالة الكاملة، وفقدان الفاعلية، ولجم القوة الإيجابية، وانطلاق القوة السلبية في أشخاصنا، وقد غاب عن الكثير منا الفقه الصحيح وأهمية مغالبة قدر بقدر، وأن تلك المغالبة والمدافعة من قدر الله، وأن حصول الأزمة مسبوق بمقدمات وسنن لم نبصرها، ولم نأخذ حذرنا، وإذا وقعت فالتعامل معها أيضا يخضع لسنن وأدوات وآليات تعامل.

            إن دراسة الأسباب ودراسة المكونات المركبة للأزمة، وإرجاعها إلى عناصرها الأولى، من خلال فقه الأزمة نفسها، يعتبر المنهج الصحيح لإدارة الأزمة بأقل قدر من الخسارة، ويحقق العبرة منها.. وتلك الدراية وذلك الفقه، لا يتحقق إلا من خلال أدوات وآليات توفرها اليوم تخصصات بعينها.

            فلكل أزمة آلاتها وأدواتها وتخصصاتها ووسائل اكتشاف عناصر إدارتها، والتحول بها من الشدة إلى الفرج، ومن العسر إلى اليسر، ذلك أن عوامل الحل كامنة في الأزمة ذاتها، يقول تعالى: ( إن مع العسر يسرا ) (الشرح:6)، [ ص: 26 ] فإن جوانب اليسر مرافقة لتعقيدات العسر، والتكليف إنما يكون بمعرفة كيفية اكتشافها، وبذلك يتم تحويل الأزمة من نقمة إلى نعمة.

            هذا إضافة إلى أن غياب إدراك البعد النفسي والروحي في وقوع الأزمة، والتعامل معها أثناء وقوعها يخفي كثيرا من الأسباب الفاعلة؛ وكثيرة هي المقدمات النفسـية والروحية، التي تفضي بالناس إلى الوقوع في الأزمة، وتنقصهم أثناء علاجها وإدارتها، فليس الأمر ماديا فقط، وإن كان الجانب المادي هو أكثر وضوحا وسهولة في الإدراك ومحلا للقياس، لكن الإنسان بمكونـاته النفسـية والروحـية هو عنصـر أسـاس في حصول الأزمة وفي حلها، فالله تعالى يقول: ( فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى ) (شروط) ( فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى ) (شروط) ( فسنيسره للعسرى ) (الليل:5-10).

            فهذه الشروط البنائية للنفس البشرية، ذات دخل أساس في حصول الأزمة وصناعة مقدماتها، كما أن لها عطاء معينا في التعامل معها، من الصبر والأناة والتأمل والأمل في حلها، والإفادة من عبرتها، والقيام بالمراجعة لأسبابها، وعدم الانكسار أمامها.

            لذلك، فقد تكون الإشكالية في تهميش ثقافة الأزمة وأدوات التعامل معها، والتدريب منذ الطفولة الأولى على الاعتماد على النفس، واكتساب البصارة والمهارة، التي تتطلب ترك الإنسان منذ طفولته يواجه مشكلاته بنفسه، تحت إشراف من هو أكثر منه دراية وتربية. [ ص: 27 ]

            والأزمـة إنما تـرجـع في أسـبابها الرئـيسـة، في مـعـظـم الأحـوال، إلى الخـلل السـلوكي تجـاه التعـامل مع الأشـياء: ( قل هو من عند أنفسكم ) (آل عمران:165)؛ والأزمـات ليسـت خوارق تنزل على الإنسان بلا سبب ولا سنة، ذلك أن التربية الاستقلالية والاعتماد على (الذات) في هذا المجال، في البيت والمدرسة والنادي والمصنع والمتجر والإعـلام، هو الذي ينشـئ أفرادا أو جماعات يواجهون التحدي والأزمات؛ ويبقى المطلوب أن نخلي بين الإنسان، مهما كان عمره، وبين ما يعترضه من إشكاليات؛ وتدخلنا إنما يكون للتوجيه والإعانة على تحديد جوانب التقصير فقط.

            أما التربية التواكلية فهي أساس البلاء .. فهي التي تدفعنا باسم الحب والعواطف الجياشة أن نمرض عن الطفل، ونحمل له أشياءه، ونرتب له سريره، ونخاصم عنه أقرانه، ولا يكلف هو نفسه إلا بالبكاء عند الشدة والحاجة والأزمة، لاستدعائنا، لنقوم بكل المهام عنه، فينشأ على ذلك، ويتعود عليه، ويصبح الحل الوحيد لكل مشكلاته وأزماته البكاء والصراخ والعطالة في التعامل مع المحيط، مهما كانت مشكلاته، وعلى ذلك يتشكل الأفراد والجماعات.

            وقد تتشكل الأمم على هذه (السيكولوجية)، فتتوهم أن الصراخ والضجيج والخطب والاحتجاج وسماكة الحناجر هي التي تحل مشكلاتها، وفي أحسن الأحوال تستدعي الخبراء والعلماء الغرباء عن البيئة والمشكلات لتحل لها أزماتها، وتبقى هي ظاهرة صوتية، يقول الله تعالى: ( حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا * قالوا يا ذا القرنين [ ص: 28 ] إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ) (الكهف:93-94).

            ونعاود القول: لعل أحد الأسباب الأهم في العجز عن التفاعل مع الأزمة، في العقل المسلم، أو في الواقع الإسلامي، وغياب ثقافتها، والاكتفاء بالموقف السـلبي تجاهها: الاعتـقاد بأن ذلك من قـدر الله، الذي لا يرد، ولا حيلة للإنسان معه، كما أسلفنا.

            هذا الفهم المعوج لقضية القدر، انتهى بالكثير من المسلمين إلى العجز، ولو فقهوا مسألة القدر على أنه السنن، التي تحكم الحياة والأحياء بمقدمات ونتائج وعواقب، وأن من تكاليف المسلم مغالبة قدر بقدر، والفرار من قدر إلى قدر، وأن الرسـول صلى الله عليه وسلم القدوة، ببنائه للحضارة الإسلامية وتجسيده للقيم الإسلامية في حياة الناس، كان يتخذ من الأسباب والوسائل والخطط الملائمة ما يحقق له النجاح ويجنبه الفشل، وكان يحذر أصحابه من الوقوع في علل الأمم السابقة، التي كانت سببا في هلاكهم، والاعتبار بما حصل لهم، بسبب عنادهم وغفلتهم عن سنن الله في الحياة.

            والقرآن الخالد يحض على السير في الأرض والتوغل في التاريخ لتحقيق الاعتبار وعدم الغفلة، يقول تعالى: ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين * هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) (آل عمران: 137-138).. [ ص: 29 ]

            وقصص الأنبياء مع أقوامهم، موطن العبرة والحذر، تملأ مساحات كبيرة من آي القرآن الكريم؛ وقصة سيدنا يوسف، عليه السلام، قراءة مبكرة لاستشراف الأزمة، وكيفية الإعداد لها، والتعامل معها، ووضع برنامج عمل، ضمن فترة زمنية، يقول تعالى: ( قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون * ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون * ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ) (يوسف:47-49).

            وبعد:

            فهذا الكتاب في أصله رسالة أكاديمية، تقدمت بها الباحثة لنيل درجة الماجستير في "السياسة العامة في الإسلام"، ويعتبر إحدى المحاولات الاجتهادية لإبراز أهمية دور القيادة في استيعاب الأزمة وإدارتها والمقاربة مع التراث في كيفية التعامل معها، يجيء في الوقت الذي يموج عالم المسلمين بالأزمات، التي يأخذ بعضها برقاب بعض، ويعرض للخصائص والسمات القيادية والتخصصات المعرفية المطلوبة لفقه الأزمة وإدارتها، ويرسم سبيل الخروج منها، وكيفية التحقق بالعبرة والمناعة الحضارية، ويؤكد الحاجة إلى أهمية إعمال المنهج السنني في النظر للأزمة، ذلك أن للسقوط سننا وقوانين وأسبابا، كما أن للنهوض سننا وقوانين لا تحابي أحدا: ( ... فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا ) (فاطر:43). [ ص: 30 ]

            والأزمة إشكالية مركبة ومعقدة، لذلك فقد يكون من الأهمية بمكان العمل على امتلاك المعارف والعلوم والتخصصات والأدوات، التي تمكن من دقة قراءتها، وتحليل مجموعة العناصر المكونة لها، ووضع خطة لمعالجة أسبابها، وأخذ العبرة، وبناء المناعة، للحيلولة دون تكرارها، والتأكيد على أهمية إدراك البعد الإيماني والنفسي والروحي ودوره في بناء القوة الإيجابية للإنسان وانتشاله من اليأس والسقوط والانكسار أمام الأزمة، ولجم القوة السلبية، التي تنتهي به إلى الإحباط والاستسلام، وتخليص المسلم من الروح التواكلية، وتحريض واستنفار الطاقات الكامنة، وتجديد رؤيته الإيمانية، التي تدفعه إلى مغالبة قدر بقدر، والفرار من قدر إلى قدر.

            وتبـرز في الأزمات أهـميـة التـضامن والتـكافل والتـعاضـد الاجـتماعـي في مواجهتها وردم الفجوة الناتجة عنها، وأهمية إدراك مغزى قولة الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأشعريين: ( إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم ) (أخرجه البخاري)، وبذلك أبان منهج ترميم آثار الأزمات، وآلية التعامل معها.

            ولا شك أن التربية والتدريب على كيفية التعامل مع الأزمات، وذلك ببناء الشخصية الاستقلالية، التي تتعود مواجهة الصعاب والتعامل مع الإشكاليات منذ الطفولة الأولى، ومرورا بمراحل التنشئة والتثقيف المتعددة، هي المؤهل لإدارة الأزمات، وعدم السقوط أمامها، أو الاستجداء لحلها، [ ص: 31 ] فاليسر من لوازم العسر، فإن مع العسر يسرا، فكيف نبصر ذلك ونحول النقم إلى خيرات ونعم؟

            والقيادة المؤهلة لإدارة الأزمة تتطور بحسب الظروف والأحوال، وهي اليوم ليست فردا، مهما عظم شـأنه، وإنما هي مؤسـسـات، تمتلك المعارف المطلوبة لقراءة الأزمة وسيرورتها وكيفية التعامل معها.

            ولعل من أهم ما تميزت به الدراسة المحاولة المقدورة لاستصحاب الميراث الفقهي والثقافي، "تعامل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع الأزمة عام الرمادة"، وتجريده من قيود الزمان والمكان، والسعي للإفادة منه، والاهتداء بأضوائه لرؤية المشكلات والأزمات المعاصرة؛ إن مثل هذه المقاربات وهذا الفقه الغائب لا تكفي فيه دراسة ولا دراسات، فإدارة الأزمة ملف مفتوح للنظر والعطاء، ومناخ الأزمة، دائما، يتطلب فقها خاصا وبصارة نوعية وأحكاما استثنائية، فـ "الضرورات تبيح المحظورات".

            والحمد لله من قبل ومن بعد. [ ص: 32 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية