الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          حقوق الإنسان في ضوء الحديث النبوي

          الأستاذ / يسري محمد أرشد

          تقديم

          عمر عبيد حسنة

          الحمد لله الذي جعل الإنسانية منحدرة من أسرة واحدة،

          فقال تعالى: ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) (الحجرات:13) ،

          وقال تعالى: ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ) (النساء:1) .

          ذلك أن الإيمان بوحدة الأصل الإنساني، هـو السبيل الوحيد لإلغاء الفوارق القسرية، كاللون والقوم والجنس، وإيقاف التميز العنصري ... الخ، ومنح الناس المساواة المتأتاة من أصل الخلق، والتي هـي أساس الحقوق جميعا، ووسيلة تحقيق الكرامة الإنسانية، كما منحهم الفرص المتكافئة، بحيث يصبح ميزان الكرامة التقوى والعمل الصالح، وهو معيار كسبي منوط بعمل الإنسان، وخبرته، وسعيه، ومدى عطائه، وما يقدمه لنفسه وللإنسانية من خير، وما يساهم به من ارتقاء، لا بسبب نسبه أو قومه أو لونه أو جنسه؛ لأنها جميعا أمور قسرية، لا اختيار للإنسان فيها، ولا يد له بحصولها، لذلك فمن الظلم والعدوان أن تعتمد هـذه الأمور القسرية ميزان الكرامة الإنسانية، وسبيل التفاضل بين البشر. [ ص: 5 ] فالإنسان في الإسلام مكرم بأصل خلقه، بضرب النظر عن معتقده ولونه وجنسه، قال تعالى : ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) (الإسراء:70) ،

          والتفـاضل بين الناس إنمـا يقاس بمقياس النفع والعطاء، قال صلى الله عليه وسلم : ( أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس ) (أخرجه الأصبهاني ) . والإيمان بهذه القضية -التي لا بد لها أن تصبح مسلمة- يعتبر الأساس الرئيس، الذي تبنى عليه حقوق الإنسان وتصان كرامته. والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، النبي الخاتم، الذي انتهت إليه أصول الرسالات السماوية، حيث أكمل وأكتمل به بناء صرح النبوة التاريخي، وانتهت إليه تجاربها الغنية، فعن أبي هـريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هـلا وضعت هـذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين ) (أخرجه البخاري ) .

          وقال تعالى: ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي [ ص: 6 ] إليه من ينيب ) (الشورى:13) وقال تعالى: ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ) (المائدة:3) ،

          وقال تعالى: ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هـو الفضل الكبير ) (فاطر:32) .

          فالنبي القدوة، عليه الصلاة والسلام، هـو الذي انتشل إنسانية الإنسان من الهدر والضياع، وصوب العلاقات الإنسانية.. ( عن أبي هـريرة، رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخـرها بالآباء؛ مؤمن تقي وفاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب، ليدعن رجال فخـرهم بأقـوام إنما هـم فحم من فحم جهـنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن ) (أخرجه أبو داود ) . وأسس لكرامة الإنسان ووحدة أصله ببيانه النبوي، ( فقال صلى الله عليه وسلم : « ... ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى ... ) (أخرجه الإمام أحمد ) ، فكانت بعثته ورسالته التي جاء بها رحمة للإنسانية، والرحمة والتراحم هـي أرقى درجات العلاقات الإنسانية والكمال البشري. [ ص: 7 ] " وبعد:

          فهذا كتاب الأمة الرابع عشر بعد المائة: «حقوق الإنسان في ضوء الحديث النبوي» للأستاذ يسري محمد أرشد ، في سلسلة «كتاب الأمة» التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة قطر، في محاولاته الدائبة لاستئناف الحياة الإسلامية، ومعاودة النهوض من خلال العودة بالأمة إلى الينابيع الأولى في الكتاب والسنة للانطلاق منها، ونفي نوابت السوء، والمساهمة ببناء النخبة، التي تمثل (عقل الأمة) ، والطائفة القائمة على الحق التي لا يضرها من خالفها، حتى يأتي أمر الله وهي على ذلك، استجابة لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ) (أخرجه مسلم ) .

          وهذا الحديث، يحمل من التكليف ويحمل من المسئولية ويطمئن إلى النتائج المستقبلية ما يحمل من الخبر اليقين، حتى تكون هـذه الطائفة بمثابة الأنموذج الذي يثير الاقتداء، ويتحقق به الخلود، ويشكل جسور التوصيل السليمة، لعودة الأمة إلى ثقافتها وينابيعها، بعيدا عن الجمود والتقليد والمغالاة والتحريف، ويحررها بعقيدة التوحيد (المحور الأساس) من الألوهيات بشتى أشكالها.

          ذلك أننا نعتقد أن إشكالية تخلف الأمة المسلمة، وغياب إنسانية الإنسان في دولنا، ليست بسبب فقر ثقافي في القيم الضابطة والموجهة لمسيرة الحياة، ولا بغياب التجربة التاريخية التي تجسد هـذه القيم في واقع الناس، في [ ص: 8 ] أحوالهم المتعددة والمتنوعة، وإنما الإشكالية كل الإشكالية في عدم وضع البرامج الملائمة لكيفية العودة، لكيفية التعامل مع القيم في ضوء الاستطاعات المتوفرة، والظروف المحيطة، وحسن تحديد الاستطاعة وتقدير الإمكانية، التي تشكل محل التكليف في كل مرحلة من مسيرة الحياة، وامتلاك الفهم المتجدد والقدرة على التمييز بين تنـزيل القيم والأحكام الشرعية على واقع الناس في ضوء الاستطاعة، وبين إسقاطها على واقع قد يفتقد الاستطاعة، وبذلك تكون الإساءة للقيم في الكتاب والسنة، ومن ثم التوهم بأنها سبب التخلف والتراجع، وأنه لابد لعملية التنمية والنهوض من تجاوزها، وفي ذلك ما فيه من المغالطة الشرعية والفكرية والحضارية والتاريخية.

          إن التعسف في التعامل مع النصوص، ومحاولات الإسقاط التي تفتقر إلى فقه النص وفقه الواقع معا، كان السبب في بناء القناعة المغلوطة عند كثير من المثقفين: وهي أن سبب التخلف جاء ثـمرة للتمسك بالقيم الإسـلامية، لا بسبب الانسلاخ منها، وما رافق ذلك من العجز عن تقديم نماذج حقيقية، تتجلى فيها هـذه القيم في واقع الناس.

          ونستطيع أن نؤكد، بأن معظم المحاولات في هـذا المجال، انتهت ـمع الأسف - إلى لون من الانغلاق، والطائفية، والحزبية، والافتتان بالذات، الأمر الذي أدى إلى الانسحاب من المجتمع، وإطلاق الأحكام الظالمة عليه، والعجز عن التدرب ضمن هـذه المحاولات والتجمعات، على القيم الإسلامية، وحسن تمثلها وإغراء الناس بها. [ ص: 9 ] إن معظم تلك المحاولات العتيدة لم تنج بالجملة من كثير من الإصابات التي لحقت بالمجتمعات التي تعيش فيها، حتى تشكل أملا مطمئنا للخروج، كما أنها وبسبب غياب الإدراك لأهمية التخصص في الشعب المعرفية المتنوعة لم تحسن قراءة الظواهر والتحولات الاجتماعية والثقافية بدقة، وتتمكن من تقدير الأمور، لتدرك أبعاد دورها، وكيفية التعاطي مع المجتمعات من خلال فهمها، بل قد تكون تجاوزت أحيانا المساحة الشرعية في ممارساتها وعلاقاتها، تحت شتى الأعذار والذرائع، وقضت ردحا من تاريخها، تقتصر على إطلاق الشعارات، وتجترئ على اتهام (الآخر) دون تبين أو بصيرة.

          ولعلها في أحسن الأحوال كانت تقتصر على ممارسة الفكر الدفاعي الشعاري من على المنابر، دون أن تكلف نفسها توفير الخبرات والتخصصات والمعارف المطلوبة لوضع الخطط والبرامج الكفيلة ببناء الأمة وقيادة المجتمع، لذلك استمرت هـذه السنوات كالذي يمارس طحن الماء في الوقت الذي نرى أن الحضارة الإنسانية عامة، بأشد الحاجة إلى القيم الإسلامية وعلاقاتها المتوازنة لاسترداد إنسانية إنسانها التعيس.

          وتشتد حاجة الإنسانية أكثر فأكثر إلى القيم الإسلامية، وإلى النماذج الإسلامية المثيرة للاقتداء في حقبة العولمة المعاصرة، حيث انفتح العالم وانفسح لاستقبال كل شيء، ومراجعة كل شيء، وعرض كل بضاعة.

          والأمر المحزن أن العالم الإسلامي أو عالم المسلمين يدخل حقبة العولمة دون إعداد أو استعداد وهو ما يزال يعيش ظواهر صوتية، حيث الشعارات، [ ص: 10 ] والحماسات، والخطب، والتحشيد، والتراشق الكلامي، على المستوى الفكري، من جانب، والحالة السوطية من الاستبداد والقهر ومحاولات الإقصاء واعتماد الحل الأمني لمعالجة أكثر المشكلات الاجتماعية والسياسية تعقيدا على المستوى السياسي.

          ومن جانب آخر، فالصورة المرسومة لعالم المسلمين أو للمسلمين في العالم هـي صورة العنف، والإرهاب، والتخلف، وانتهاك الحريات العامة، وقمع المرأة، ومعاداة التقدم، وتهديد الحضارة الإنسانية، ذلك أن العولمة اليوم وهي تحاول الهيمنة والتسلط على العالم وتنميطه حسب مزاجها، تعتبر أن من لوازم هـيمنتها، محاولة رسم صورة مشوهه للمسلمين، ليشكل ذلك مبررا لتجييش العالم، لمواجهة أعداء الحضارة والتقدم والتنمية وحقوق الإنسان.. إنها محاولات توضع لها الفلسفات التي تبررها تجاه عالم المسلمين، أو ما يمكن لها ويجذرها في فكر (الآخر) ، وإثارة عدوانه تجاه المسلمين، ذلك أن الإسلام بقيمه في العدالة والمساواة وحقوق الإنسان عامة، وتجربته التاريخية الحضارية، وعطائه الإنساني، كان ولا يزال يشكل البديل الحضاري لمعالجة أزمة الإنسان المعاصر عندما يصبح قادرا على توعية العالم والارتقاء به وإعانته على تجاوز الصورة المشوهة والمرسومة بيد أبنائه، من قبل خصومه، إلى إدراك الحقيقة التي لا يمكن طمسها أو حتى تشويها.

          ولا شك عندنا، أن القيم الإسلامية وحقائقها الواضحة، سوف تشكل باستمرار الهاجس الدائم لخصوم الإسلام وأعدائه، الذين يمثلون آلهة العصر، [ ص: 11 ] وعلى الأخص ما يرونه اليوم من الإقبال للتعرف على الإسلام والتثقف بثقافته، ذلك الإقبال الذي بدأ يتجاوز الأخذ بالاعتبار واقع المسلمين الرديء إلى حقائق الإسلام المجردة، التي تشكل البديل الحضاري، بعد أن أفلست التجارب الحضارية في تحقيق إنسانية الإنسان وصون حقوقه.

          ولعلنا نقول هـنا: إن الحقيقة الأهم والتي ستبقى خالدة، التي جاءت بها النبوة والتي تشكل الأساس لكرامة الإنسان، والمحور الأساس لحقوقه وحماية إنسانيته، هـي عقيدة التوحيد (لا إله إلا الله) ، التي بها يصير الإنسان مسلما، ويعتبر الخروج عليها خروجا من الإسلام.. وهذه العقيدة على فطرتـها، وبساطتها، وسهولة النطق بها، والارتياح والاطمئنان الذي تفيضه على نفس قائلها، تمتلك مخزونا من الأبعاد الحضارية والثقافية والإنسانية والقانونية، يمكن أن تشكل مفصلا أساسا، في الحركة الإنسانية، والبناء الحضاري القائم على احترام إنسانية الإنسان، وأن أي عدول عنها، وانتهاك لها، أو تحريف لمدلولها، سوف يلحق الخلل بمسيرة الحياة، ويؤذن بامتداد التأله والهيمنة والتسلط والإكراه وهدر كرامة الإنسان.

          وعقيدة التوحيد، في أبعادها المتعددة وتجلياتها المتنوعة، مغيبة في الواقع العملي والكثير من الأدبيات اليوم، التي تحاول إدخالها في طور الفلسفة وعلم الكلام والتجريد الذهني، أو تقتصر فيها على الرياضات النفسية تنقية للمعتقد، وتحريرا لمفهوم الذات الإلهية، وتحديدا لصفات الألوهية والربوبية فقط، دون الامتداد بها إلى تغيير واقع الحياة، وإعادة بنائها، وتصحيح [ ص: 12 ] علاقاتها، بحيث يمكن تصنيفها جميعا في إطار الاقتصار على تصويب الوسائل للوصول إلى تحقيق الأهداف بشكل صحيح، ذلك أن الاقتصار على بناء الوسائل، دون إعمالها في واقع الحياة وتحقيق الأهداف يشكل خللا كبيرا، حيث تتحول بذلك الأهداف إلى وسائل، وعندها قد لا نجد فرقا كبيرا في مسالك ودروب الحياة بين من يمتلكها ويدندن حولها ويحاول تـحريرها، وبين من لا يلقون لذلك بالا، بل قد لا نجد إلا اختلافا في العناوين، دون أي فرق في المضامين والمسالك.

          إن الاقتصار على تحرير الوسائل، للوصول إلى عقيدة التوحيد السليمة، دون إعمال هـذه الوسائل في تحقيق الأهداف، وإيقاف الشرك المتجذر في دروب الحياة ومجالاتها المختلفة على حساب المساواة وحفظ إنسانية الإنسان، سوف يعود على العقيدة نفسها بالمحاصرة وعدم الفاعلية ومن ثم عدم القناعة بجدواها، وعلى الأخص عندما يكون روادها ودعاتها يعيشون فصاما خطيرا بين واقع يعيشونه، ولا يدينونه ويعملون على تصويبه، بكل مناقضاته لعقيدة التوحيد، وبين فقه، أو فكر، يقتصر على المجاهدة في تحريرها وبيان مواصفاتها.. فإذا قلناها باللسان فلا علينا بعد ذلك أن ننغمس في حياة تناقضها!

          وما لم نمارس عقيدة التوحيد عمليا ونجسدها في واقع الحياة ونحكمها بالعلاقات الإنسانية، ومجالات الحياة، فنطهر بها الحياة من الشرك، والإنسان من العبودية، بحيث تصبح كلها سـلوكا توحيديا متينا، يصـعب اختراقه، [ ص: 13 ] أو الإخلال به، من قبل الذين يحاولون أن يجعلوا من أنفسهم إلهة، ويعتدون بذلك على عقيدة التوحيد، وسلطان الإله، فسوف تكون دعوانا أو دعواتنا بلا دليل، أو نكون كالذي يوبخ نفسه؛ لأن قولنا يخالف عملنا.

          والأخطر على عقيدة التوحـيد، التي هـي في حقيقتـها تحرير للإنسان مما يمكن أن يمارس عليه من الألوهيات، أو من الآلهة المزيفة في مجالات الحياة، هـو أن تمارس تلك الألوهيات أو التسلطات تحت مظلة عقيدة التوحيد.

          إن الممارسات التاريخية الظالمة، قبل الإسلام، والطغيان باسم الدين، وما ألحقته بالبشرية من التسلط والاستبداد والاستغلال، أدت إلى دفع الكثير من المجتمعات إلى إقصاء الدين عن إدارة الحياة، والتحرر من استغلال رجالاته ورموزه، الذين لم يقتصر عسفهم وظلمهم على التحكم بدنيا الناس، شأن غيرهم من الطغاة والمستبدين، وإنما امتد إلى التحكم بمصائرهم في الآخرة أيضا.

          إن تلك الممارسات التاريخية الظالمة شكلت بلا شك رواسب نفسية وعقدا تاريخية ليس من السهل تجاوزها، ذلك أن الأصل في الدين تحرير الإنسان وتخليصه وتهذيبه، لكن المصيبة عندما يتحول على يد الكهانات الدينية إلى وسيلة للتسلط والهيمنة والاستغلال والقهر، حيث يمارس ذلك كله تحت شعار (المقدس) الذي لا تجوز مناقشته أو السؤال حتى عن مجرد حكمته، وليس نقده؛ لأنه تنفيذ لإرادة الله وأقداره في الناس! [ ص: 14 ] ولا شك عندنا أن الإشكالية الكبيرة في انتهاك حقوق الإنسان وإهدار كرامته تاريخيا إنما تمثلت في الربط بين السلطة والألوهية، بين البشرية والإلهية، حتى بات الحاكم هـو المتحدث باسم الله، وأن أوامره دين، وكلامه مقدس، غير قابل للمراجعة، وما على الشعوب إلا الطاعة العمياء، والتقرب إلى الله بتنفيذ إرادة الحاكم، حتى بات بناء مصيرها وسعادة آخرتها إنما يقاس بمدى طاعة الحاكم، المتحدث باسم الله، الذي يمثل قدره، بما اصطلح على تسميته: «الحكم الثيوقراطي» أو الحكم الديني، الذي أخضع الإنسان لمعاناة شديدة وتضحيات كبيرة، في محاولته للخلاص منه، والذي ترك فيما بعد عقدة الخوف من (الديني) بإطلاق، وأدى إلى فصل كل ما هـو ديني عن شئون الحياة وإدارة المجتمع.

          لقد تجاوز هـذا اللون من إهدار كرامة الإنسان وحقوقه كل الأشكال التي عرفتها البشرية في تاريخها الطويل.

          وفي تقديرنا: بأن الحقيقة الكبرى لعقيدة التوحيد تتمثل في نزع تلك الألوهية الزائفة عن البشر أو تأله البشر، وجعلهم جميعا متساوين أمام إله واحد منـزه عن الظلم والطغيان، له صفات الكمال كلها.

          فإذا كان الإله المعبود الخالق واحد، ومصدر الخلق واحد، فإن المساواة، وهي أساس كل حق وواجب، تأتي ثمرة طبيعية لهذا الاعتقاد، بل تعتبر مقياس هـذا الاعتقاد، وليست عقيدة التوحيد في حقيقتها هـي الاقتصار على تمتمات وألفاظ أو جدليات فلسفية ذهنية قد لا تحرك ساكنا، وهذا يكاد [ ص: 15 ] يكون الفرق الأساس بين العقيدة كمحرك سلوكي اجتماعي وبين الفلسفة كجدليات ومعارف باردة لا تحرك ساكنا، فعقيدة التوحيد في حقيقتها عمل وفاعلية، وتغيير وتحرير، ومغالبة قدر بقدر.

          وبالإمكان القول: إن عقيدة التوحيد، التي تعني نسخ ألوهية البشر ووضعهم على قدم المساواة أمام الله الخالق، الذي بيده كل شيء، كانت الفيصل الأساس في فك التلبس بين السلطة وبين الألوهية، والتمييز بين نصوص الدين وقيمه، التي جعلت الجميع سواء أمام الله سبحانه وتعالى ، وبين صور التدين المغشوش.

          ذلك أن معظم الشر في العالم والانتهاك لحقوق الإنسان كامن في تسلط الإنسان على الإنسان، هـذا التسلط الذي أخذ أشكالا وصورا عديدة في التاريخ الحضاري الإنساني، وكان كلما اكتشفت راية من رايات التمييز والتسلط وأسقطت ابتدع المتسلطون رايات وشعارات جديدة، حتى انتهت الصورة إلى أبشع أنواع التسلط، كما أسلفنا، وهو التحالف بين الجبت والطاغوت، أو الالتباس بين (الديني) و (السياسي) ، حيث لم يتورع الكثير من المستبدين والمتألهين عن محاولات توظيف العلم، إلى جانب الدين، للبغي وتمييز بعض الأعراق بطبيعة الخلق عن غيرها، كالعرق الآري أو الشعب المختار وغير ذلك كثير، ولم يكتفوا باستغلال الدين.

          لقد أخذ هـذا التسلط أشكالا وألوانا متعددة في التاريخ-كما أسلفنا- أخذ شكل مالك الأرض لمن يعمل فيها من العبيد مما سمي (أقنان الأرض) ، [ ص: 16 ] وأخذ شكل صاحب العمل بالنسبة للعامل، وأخذ شكل الحاكم الديني المتحدث باسم الله، بالنسبة للشعب، وأخذ شكل الكاهن، رجل الدين، الذي يستغل الدين للتصرف بدنيا الناس وآخرتهم، كواسطة غفران بينهم وبين الله، وتجاوز التسلط باسم الدين مجالات الدنيا ليطرح صكوكا مالية مقابل الغفران في الآخرة، وأخذ شكل الرجل الأبيض في مقابل السود والملونيين، وأخذ شكل شعب الله المختار الذي يدعي التميز عن سائر الشعوب، وأخذ شكل الطبقة الكادحة العاملة صاحبة المصلحة الحقيقية في الحكم، وأخذ شكل الحزب الأوحد والزعيم الأوحد.

          وقد لا تكون آخر التقليعات صورة الإمبريالي ، الذي يتوهم بانتهاء التاريخ البشري إلى حضارته وثقافته، فيحاول أن يتحكم اليوم بكل شيء، وقد يأخذ هـذا التسلط شكل الانتداب والوصاية لإدارة الشعوب غير المؤهلة لإدارة نفسها، وبناء الحضارة بزعم المتألهين أو يأخذ شكل الاستعمار، أو حتى أشكالا معاصرة باسم إشاعة السلم والأمن ونشر الديمقراطية ومكافحة العنف والتطرف ومطاردة الإرهاب، فإذا جاءت نتائج تطبيق الديمقراطية ولو احتمالا على غير هـوى المتسلطين كان الخوف من الديمقراطية على الديمقراطية، وهكذا كلما اكتشف زيف إله ابتدع المتسلطون شعارات وآلهة أخرى، حتى وصلت اليوم إلى مرحلة الدولة الإله والتي قد تمتلك العجل الذهبي، والعلم الباغي، الإعلام، الذي يسحر أعين الناس ويخطف أبصارهم ويسترهبهم، فتعطي نفسها الحق في التدخل في كل مكان، متجاوزة كل سيادة وعرف وقانون ومؤسسة. [ ص: 17 ] لذلك نعتقد بأن معظم الشر في العالم ناشئ من تسلط الإنسان على الإنسان، بشتى الصور والأشكال، وأن حقوق الإنسان اليوم تحولت إلى مهزلة أشبه بدمى الأطفال يتلاعب بها الأقوياء المتألهون كيفما أرادوا، لعدم وجود من يردعهم، وما لم يتوقف هـذا التسلط والهيمنة، ويعود الناس إلى المساواة، وكأنهم في هـذه الحياة يعيشون على طاولة مستديرة، لا ميزة لأحد على أحد، فسـوف يسـتمر الظلم والاضطهاد، وهذا التحرير لن يتأتى إلا بتأصيل وتأسيس عقيدة التوحيد واسـتمرار التذكير بها وتذكرها حتى لا يضل الإنسان ولا يطغى فيشقى.

          إن استبطان عقيدة التوحيد في القلب وتكرارها باللسان وطلب استحضارها في أشد لحظات التجلي في العبادة، إنما تقرر للتحصن في مواجهة محاولات الخروج عليها والنيل منها، لأن نشوء الألوهيات البشرية مستمر، ولن تتوقف المدافعة في هـذا المجال؛ لأن هـذه المدافعة تمثل جدلية الحياة، حيث يتقرر في ضوئها حق الإنسان، وقد يكون أشد أنواع التسلط وأخطرها وهضم الحقوق وانتهاك الحرمات عندما يعطي الإنسان نفسه حق التصرف بمن هـو إنسان مثله، يشرع له القيم بحيث تتحول هـذه القيم في النهاية جسرا يمر عليه التسلط.

          لذلك نقول: بأن عقيدة التوحيد (لا إله إلا الله) حررت الإنسان من العبوديات، ونسخت الألوهيات البشرية والحجرية والطبيعية والكونية، بشكل عام، وسوت بين الناس جميعا، كما أنها حررت القيم الضابطة [ ص: 18 ] لمسيرة الحياة من مواضعات البشر، التي كانت وما تزال تشكل جسر العبودية والتسلط.

          إن النبوة التاريخية، من لدن آدم وما تلقاه من رسالة السماء من الكلمات، إلى ما في الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى ، إلى الرسالة الخاتمة، التي اجتمعت لها أصول الرسالات جميعا، كانت ولا تزال تشكل في حقيقتها حركة تحرير للإنسان، ومحاولة لاسترداد إنسانيته، وتخليصه من العبوديات؛ كانت ثورة تحريرية من بعض الوجوه -مع التحفظ على مدلول مثل هـذه التعابير- كانت دعوة للتحرير، لم يحتملها الكبراء، والملأ، والمتألهون، فحولوها إلى مواجهة مع النبوة وقيم الدين، وعقيدة التوحيد؛ لأن الغاية النهائية لهذه العقيدة هـي التسوية بين الناس، أو مساواة الكبراء المتألهين بسائر البشر؛ لأنها تنـزع عنهم الألوهيات المزيفة، وتعيدهم إلى وضعهم الإنساني، وهم يريدون أن يجعلوا من أنفسهم آلهة فوق البشر.

          هـذه هـي الإشكالية الكبرى لحقوق الإنسان، التي يتمثل حلها بالإيمان بالله والكفر بالطاغوت، وهذه هـي المعادلة الصعبة لرحلة النبوة تاريخيا في صراعها مع الطاغوت وإشكالية المدافعة بين الخير والشر،

          قال تعالى: ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ) (البقرة:256) ،

          حيث ما تزال البشرية تاريخيا تهلك بالطاغية، التي تعني كل ألوان الطغيان والتسلط،

          قال تعالى: ( فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية ) (الحاقة:5) . [ ص: 19 ] ولعلنا نقول: إن عطاء عقيدة التوحيد، لا يعرف التوقف في كل الأحوال والحالات التي يمر فيها المؤمن، ذلك أن استشعاره بحقوقه يبدأ مع إيمانه من داخل النفس، فيحول هـذا الإيمان بينه وبين الذل والانكسار أمام أعتى الطغاة، كما يمنحه الحس بإنسانيته والاستمتاع بحريته وحقوقه، وهو في أشد حالات المعاناة والظلم، لذلك يبقى مؤهلا للنهوض، واسترداد حقوقه، ومقاومة الظلم والاستعباد وهو في أشد حالات الاستضعاف ( فإن لم يستطع فبقلبه ) (أخرجه مسلم ) ، كما يؤمن بأن الاعتراف بحقوق الآخرين من لوازم إيمانه واستحقاقات عقيدته ( لا إكراه في الدين ) .

          وقد تكون الإشكالية أيضا عند بعض من لا يستطيع الارتقاء إلى استيعاب رسالة النبوة، على حقيقتها، فيظن أنها لون من ألوان استغلال الدين، لصناعة آلهة جديدة أشد وأعتى باسم الدين، كما أسلفنا، وهذا الظن من الأمور القائمة والمستمرة في ميدان التدين منذ بدء الوحي وحتى يومنا هـذا، فقد " رأى أبو سفيان الحشود المؤمنة يوم فتح مكة مقبلة: «وأطلعه العباس على قوة المسلمين، حيث استعرض الجيش أمامه، فأدرك أبو سفيان قوة المسلمين وأنه لا قبل لقريش بهم، حتى إذا مرت به كتيبة المهاجرين والأنصار وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والله لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما، فقال العباس: ويحك يا أبا سفيان ، إنها النبوة»، "

          فكان الرد تصويبا للرؤية: إنها النبوة، وليس الملك. [ ص: 20 ] وما لم نمتلك القدرة على التفريق بين الملك والسلطة والحكم، الذي يتولاه البشر، الذي يجرى عليه الخطأ والصواب، وبين النبوة، فسوف نقع مرة أخرى في الحكم الثيوقراطي (الديني) الذي عانت منه البشرية، ولا تزال، بحيث شكلت المعاناة عقدة أصبح من الصعب التخلص منها؛ لأنها أصابت الكثير بعمى الألوان وعدم التمييز، فأسقط هـذا اللون من الحكم والتسلط، الذي ملأ ذهنه، على كل الأشـكال حتى على دين التوحيد، الذي ما جاء إلا لفك الالتباس، ونسخ الآلهة البشرية، وإسقاط الكهانة الدينية، واسترداد إنسانية الإنسان.

          وقد تكون الإصـابة أيضا عند بعض من يؤمنون بعقيدة التوحيد أنهم قد لا يدركون أبعاد هـذه العقـيدة ودورها في الحياة بشـكل حقـيقي، وبذلك فلا يحول الإيمان بها عندهم دون السقوط تحت وطأة ممارسة الألوهيات البشرية، ولو لم تسم بأسمائها، حيث يمارس الشرك بألوان متعددة في حياة الناس، وخاصة في مجال انتهاك حقوق الإنسان، وفي كثير من الأحيان قد تلتبس عندهم المفاهيم وتتسرب إلى مجتمع عقيدة التوحيد بعض علل الأمم السابقة، التي حذرنا الله من الوقوع فيها، حيث تتشكل الكهانات الدينية التي تمكن للطاغوت أو للاستبداد السياسي أو الظلم الاجتماعي في سبيل تحقيق مصالح آنية.

          ولقد قص الله علينا ما سقط فيه رجال الدين من الكهانة والاستغلال لنكون على بينة من أمرنا،

          يقول تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن [ ص: 21 ] سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ) (التوبة:34) .. ويقول: ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ) (النساء:60) .

          فعلل التدين يمكن أن تتسرب إلى أصحاب الرسالة الخاتمة، فيتحول التدين من تحرير للإنسان إلى انتهاك لحقوقه، وبذلك يحاول الإنسان أن يخلص بهروبه إلى الإيمان من طاغوت يتحكم بدنياه ليقع بطاغوت التدين المغشوش الذي يتحكم بدنياه وآخرته أيضا.

          لكن المشكلة ليست دائما بالتمكين لطاغوت البشر وإقصاء الدين، وإنما بالعجز عن كيفية تصويب معادلة الحياة، وحفظ كرامة الإنسان، وإلغاء الطاغوت، وتحرير الناس بعقيدة التوحيد.

          ولقد وقع مثل هـذا التسرب لعلل التدين من الأمم السابقة إلى الأمة حديثة العهد بالإسلام في عهد النبوة، فكان التصويب، وكان التأكيد على عطاء عقيدة التوحيد في حياة الناس، فقصة أبي ذر مع غلامه، رضي الله عنه ما، ما تزال شاهد إدانة على كل الانتهاكات لحقوق الإنسان، وهي معروفة في مظانها، عندما عنفه وعيره بأمه السوداء. ( فعن المعرور بن سويد ، رضي الله عنه قال: لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك فقال: إني ساببت رجلا فعيرته بأمه [ ص: 22 ] فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : يا أبا ذر: أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم ) (أخرجه البخاري ) .

          ( وروي عن أبي ذر رضي الله عنه ، أنه قال: قاولت (أي خاصمت) رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا ابن السوداء.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : طف الصاع، طف الصاع، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل»، قال أبوذر: فاضطجعت وقلت للرجل (المذكور) : قم فطأ على خدي ) (قال العراقي : رواه ابن المبارك ) .. ومنذ ذلك الوقت لم يعرف أبو ذر من غلامه؛ إنها عقيدة التوحيد التي سوت بين أبي ذر وخادمه، وبين بلال وأبي بكر ، في مجتمع القدوة.

          هذا التسامي البشري في مجال عقيدة التوحيد، ومساواة الخلق في الحقوق والواجبات أمام الخالق، حيث المساواة هـي أولى ثمرات الإيمان، وهي أساس حقوق الإنسان جميعا، هـذا التسامي الواقعي، والذي شكل أنموذجا مثاليا في تاريخ الحضارة الإنسانية، يحول على الدوام دون الألوهيات والعنصريات، وجميع أشكال التمييز، وتشتد الحاجة والتطلع إليه، وبذل الجهد لاسترداده، كلما استحكم الاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، وغيبت إنسانية الإنسان.

          وفي قصة الملك الغساني، جبلة بن الأيهم ، مع الأعرابي، من الدلالات ما يكفي لبيان دور عقيدة التوحيد في تأسيس وحماية حقوق الإنسان.. [ ص: 23 ] فبينما " «كان جبلة بن الأيهم، أحد ملوك الغساسنة، يطوف بالكعبة، بعد أن أسلم، وإذا أحد الطائفين يدوس على إزاره، فالتفت إليه مغضبا، ثم لطمه على خده، فقال له هـذا الطائف: لأشكونك إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب . وبين يدي عمر بث الرجل شكواه. فاستدعى عمر جبلة وسأله: أحقا ما يقول الرجل أنك لطمته على خده؟

          قال جبلة: نعم، ولولا أننا أمام بيت الله لقطعت أنفه بسيفي هـذا. فقال له عمر: ولم؟ فأجابه جبلة: لأنه داس على إزاري وأنا أطوف بالبيت.

          عندها قال عمر: اختر لنفسك واحدا من أمرين: إما أن تعتذر له وتترضاه وإما أمرته أن يلطمك. فدهش جبلة الملك الغساني من حكم عمر، وقال له: كيف تسوي بيني وبينه! إنما أنا ملك وهو سوقة؟ قال له عمر: إن الإسلام سوى بينكم، فلا فرق بين الملك والسوقة.. فقال له جبلـة: أجلني حتى اختار. فأجله عمر ثلاثة أيام. فلما كان الليل هـرب مع حاشـيته إلى بلاد الروم " » (انظر قبسات من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لأحمد عساف) .

          ويحضرني في هـذا المجال مقابلة إذاعية يمكن أن تعبر بشكل دقيق عن أزمة الإنسان المعاصر مهما بدا سعيدا وحاجته إلى عقيدة التوحيد، معالشاعر نزار قباني، فهو على الرغم مما هـو معروف من سيرته، وحياته [ ص: 24 ] الرخوة، وما يعشيه من حرية ومتع في مجتمعه المخملي، كما يقال، عندما طلب إليه أن يختار شخصية من التاريخ، وماذا يمكن أن يقول لها، فلقد جاء اختياره لسيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه ، صاحب قولة: " «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا»، " ليقول له: «عد إلينا فقد اشتقنا إليك» وبذلك اختزل شاعر المتعة التاريخ، ولخص أزمة الحضارة، ومعاناة الإنسان بقوله: «عد إلينا فقد اشتقنا إليك».

          وسوف يستمر الحنين إلى مرحلة الرشد والراشدية، كأنموذج للمقاربة كلما اشتد الانتهاك لحقوق الإنسان، والإهدار لكرامته، وكثرت آلهة العصر، وكثر سدنتها من خونة المثقفين، الذين يسوغون هـذا التأله، ويفلسفون السياسة، ومن كهنة التدين الذين يقدمون المسوغات والفتاوى الشرعية المطلوبة، فتاوى السلطان، حيث يسيس الطغاة الدين، لمصلحة الطاغوت، وتعجز المؤسسات الدينية على تصويب وتديين السياسة والدفاع عن كرامة الإنسان.

          إن اشتداد الحملة على عقيدة التوحيد، يسير بشكل مواز لمحاولات الهيمنة وتحكم الطاغوت، ولا أدل على ذلك من الانتهاكات الرعيبة لحقوق الإنسان التي ينتشر خبرها هـنا وهناك على الرغم من تحكم الظالمين في وسائل الإعلام والنشر.

          نعود إلى القول: بأن الإسلام أو عقيدة التوحيد بشكل أخص، من الناحية التاريخية هـي التي فصلت بين السلطة والألوهية عمليا، حيث كانشقاء الإنسان وما يزال بتحالف (الجبت) الكهنة (والطاغوت) الاستبداد [ ص: 25 ] السياسي والدكتاتورية ، فالحاكم من البشر يتوهم بما قد يمتلك من جوقة الأتباع ممن لا رءوس لهم، من الذين استخفهم وأوهمهم أنه يتمتع دون سواه بالعبقرية والإلهام لما يمتلك من سلطات وصلاحيات وقرارات لا ترد، حيث يتوهم بفعل منه وتسويغ من الخفاف حوله أنه يحيي ويميت، مقتديا بذلك بأنموذج النمرود مع سيدنا إبراهيم عليه السلام ، ذلك الأنموذج الذي نقرأه صباح مساء ليبقى أنموذجا خالدا على تلبس الألوهية بالملك، وكيف أن المدافعة والصراع حول ذلك سوف يبقى مستمرا استمرار الحياة.

          فعقيدة التوحيد جعلت الحاكم بشرا يخطئ ويصيب، ويختار ويعزل، ومسألة الحكم لا تخرج عن كونها إدارة بشرية لأمور الدولة، وهذه الأساليب الإدارية ليست دينا ضمن قيم الدين، ولا أدل على ذلك من استقراء أبعاد الحوار والخلاف وما حصل من أزمات وكيفيات لإدارتها في سقيفة بني ساعده بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لقد وصل الأمر إلى مقولة: «منا أمير ومنكم أمير»..عن عبد الله، رضي الله عنه ، " قال: «لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الأنصـار: منا أمير ومنـكم أمير.. فأتاهم عمر فقال: ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر أن يصلي بالناس؟ فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ قالوا: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر» " (أخرجه النسائي ) ، وما كان من نتيجة الحوار وتبادل وجهات النظر من مبايعة أبي بكر في ضوء مجموعة من الصفات والمزايا والإشارات التي استقرئت من استخلاف الرسول صلى الله عليه وسلم له في الصلاة واختياره للمرافقة في الهجرة وما إلى ذلك. [ ص: 26 ] وبالإمكان القول: لقد بلغت الحوارات والمجادلات والخلافات حول مسألة الحكم ما لم تبلغه أية مسألة أخرى في تاريخ المسلمين، وكانت النتيجة اختيار أبي بكر رضي الله عنه ، وكان أول كلامه كبشر يخطئ ويصيب بعد الاختيار :

          " «أما بعد، أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه، إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه، إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله». "

          « وليت عليكم ولست بخيركم»، وهذا يعني - فيما يعني - أنه قد يكون فيهم الأكفأ منه لكنها المسئولية.

          « فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني»، فالحاكم في الإسلام قد يحسن وقد يسئ، والرقابة والطاعة البصيرة والمناصحة لأئمة المسلمين هـي وسيلة الحراسة الدائمة والعين اليقظة، لمسيرة الحكم وتأمين حقوق الناس.

          « أطيعوني ما أطعت الله ورسوله»، وهذا أول أساس في تاريخ الحضارة البشرية لما يسمى في مجال الحكم والديمقراطية اليوم بالعقد الاجتماعي، الذي نسب تاريخيا زورا لإنجازات الثورة الفرنسية. [ ص: 27 ] ح عز وجل فالحكم والسلطة في الحقيقة هـو بمثابة العقد، بين الإمام والرعية، بين الحاكم والشعب، فالطاعة تلقائيا واجبة، ما التزم الحاكم بالدستور، فإذا خرج عن الدستور انحلت الطاعة تلقائيا أيضا.

          «فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم»، فالحكم في الإسلام يأتي ثمرة الشورى في اختيار الحاكم، والشورى في إدارة شئون الدولة، وهو مسئولية وكفاءة ومؤهل وثمرة انتخاب واختيار وليس منحة إلهية، وليس عصمة إلهية، لذلك اختلف الصحابة في سقيفة بني ساعدة ، ولا تزال إشكالية السلطة، والشعب، والدولة، والأمة، والسلطة والمثقف والفقيه، وحقوق الإنسان، هـي الملفات المفتوحة على الزمن، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، والحاكم في الإسلام بشر من البشر يخطئ ويصيب، فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو المسدد بالوحى، المؤيد به، ( يقول: «إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صدق فأقضي له بذلك، فمن قضـيت له بحق مسـلم فإنما هـي قطعة من النار فليأخذها أو فليتركها ) (أخرجه البخاري) .

          وقوله عليه الصـلاة والسلام: ( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ) (أخرجه البخاري ) ، فالحاكم بشر يجري عليه الخطأ والصواب، وبذلك وضع الإسلام حدا لتسلط الحكام وادعائهم التحدث باسم الآلهة، وليس ذلك فقط وإنما جعلالإسلام قضية اختيار الدين ابتداء، التي تعتبر من أرقى أنواع الحقوق البشرية، [ ص: 28 ] جعلها اختيارا وحرم فيها الإكراه،

          فقال تعالى: ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ) (البقرة:256) ،

          وجعل الالتزام بنهي الله في عدم ممارسة الإكراه ( لا إكراه في الدين ) ثوابا، كما جعل ممارسة الإكراه عصيانا لأمر الله موجبا للإثم، فالإرادة والحرية هـي الإنسان، والمسـئولية الدنيـوية والدينـية هـي فرع الحرية، فلا مسـئولية بدون حرية وإرادة.

          والإسلام لم يدع إقرار الحقوق لإرادة الإنسان، التي قد تعصف بها الأهواء، فقد يستعذب بعض الناس العبودية أحيانا، وإنما جعل تلك الحقوق حقا وواجبا معا، فالإنسان أمام الله مسئول عن ممارسة هـذه الحقوق وإقرارها والمجاهدة في سبيل إقرارها وحمايتها.

          كما أن الإسلام لم يجعل تلك الحقوق، وهي تحقيق إنسانية الإنسان، وصايا أخلاقية ومبادئ مثالية، متروكا للأفراد أمر تجسيدها في الواقع، بحيث يمكن انتهاكها وتجاوزها خفية، وإنما ربى الناس عليها، وأقام الوازع الداخلي لمراقبتها، ورتب الثواب الأخروي على التزامها، والعقاب على انتهاكها، وعضد ذلك بالتشريعات القانونية الملزمة، فعالج الموضوع من داخل النفس، بتوفير القناعة والإيمان بها والمسئولية الأخروية عنها، كما ضبط المخالفات لها من خارج النفس بوضع التشريعات الخاصة لها، والمعاقبة على انتهاكها، وقدم لذلك نماذج للاقتداء. [ ص: 29 ] وليس ذلك فقط، وإنما جعل حقوق الإنسـان وحفظ كرامته وحماية إنسانيته محور مقاصـد للشريعة، والغاية من النبـوة، فقال تعالى: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107) .

          فحق حرية الاختيار للدين، وحق الحياة، وحق التملك والتصرف، وحق التعبير والتفكير، وحق بناء الأسرة ... الخ، هـي في حقيقتها مقاصد الشريعة وضرورات الحياة التي لا تستقيم إلا بحمايتها، حيث أكد العلماء، نتيجة استقراء أوامر الشريعة ونواهيها، أن مقاصدها أو الضروريات التي يجب توفرها وحفظها للحياة هـي: الدين والعقل والنسل والمال والنفس.

          ولا نعتقد أن هـذا الاستقراء هـو نهاية الضروريات، وإنما قد يضاف إليها كل ما يشكل ركيزة أساسية لحقوق الإنسان، وبناء الحياة السعيدة.

          ولم يكتف الإسلام بالتنصيص عليها وإقرارها في الكتاب والسنة والتكليف بحمايتها والمسئولية عنها، وإنما اعتبر الاعتداء عليها جريمة، ونص على عقوبتها أيضا، بما يسمى الحدود، حتى لا تبقى مجالا للاجتهاد والاختلال، ولا يتسع المجال للإتيان على نصوص هـذه الحقوق وعقوبة الاعتداء عليها؛ لأن ذلك موجود في مظانه من كتب الشريعة والفقه.

          وهذا لا يعني أن مجتمع المسلمين مجتمع ملائكة لا يمكن أن تقع فيه انتهاكات لحقوق الإنسان، إنه في النهاية مجتمع بشر، يجري عليهم الخطأ والصواب، وليس مجتمع ملائكة مبرمجين على فعل الخير، ولا مجتمع شياطين أشرار بطبيعتهم، بل لعل ما منحه الإسلام من حرية وإرادة، ترتب عليه في [ ص: 30 ] بعض الأحيان تعسف في استعمالها، وقد يكون ذلك ضروريا ومن لوازم البشرية بكل مكوناتها كوسيلة إيضاح لكيفية التعامل مع تلك الانتهاكات والتوبة منها والإقلاع عنها على مدار الحياة.

          فأبو ذر عير غلامه بأمه السوداء وكان ما كان، كما أسلفنا، والمخزومية سرقت، فانتهكت حق التملك، والغامدية زنت فاعتدت على حق النسل وحماية العرض، وعبد الله بن أبي، رئيس المنافقين، قاد حملة للتميز، وقال: «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل» (أخرجه البخاري) .

          وهذا قد يعني من وجه آخر أن القيم الإسلامية مثالية لمحاولة المقاربة منها، وواقعية للتعامل معها في الوقت نفسه، لكن ما حجم الانتهاكات وكيف تعامل معها المجتمع والدولة في مجتمع النبوة، إذا قيس بما هـو واقع لحقوق الإنسان اليوم ؟

          والحقيقة التي لا تحتاج إلى دليل والتي بات يدركها كل إنسان يعاني اليوم أقدارا من الخوف، وافتقاد الأمن، أنه على الرغم من كثرة التشريعات والندوات والمؤتمرات والمواثيق والمنظمات الدولية والإقليمية التي تدعي نصرة حقوق الإنسان، وما تصدره من تقارير، فإن قضية حقوق الإنسان في تراجع مستمر، وأن مثل هـذه المنظمات والمؤتمرات والإعلانات العالمية أصبح من لوازم تجميل الصورة؛ لأن عملها أقرب إلى الديكور منه إلى الفعل الحقيقي، وتبقى مثل هـذه التشريعات والقوانين هـي أشـبه بنسـيج العنكبوت الذي لا يلتقط إلا الحشرات الضعيفة أما الحيوانات القوية فتخترقه وتمزقه وتضع [ ص: 31 ] الفلسفة المناسبة لفعلتها وتفرضها على العالم، حتى ليمكن القول: إن هـذه الديكورات لحقوق الإنسان باتت أشبه بالبؤر التي تصنع للتنفس والحيلولة دون الانفجارات.

          وإذا سلمنا بأنها حققت شيئا على مستوى الأفراد وفي هـوامش المجتمعات فإنه في المقابل حصلت انهيارات وانتهاكات على أعلى المستويات فيما يسمى ( إرهاب الدول ) ، حيث لم تستطع أن تفعل معها شيئا، لذلك بقيت أشبه بجزر معزولة تعيش على هـوامش المجتمع، وتعجز عن الاقتراب من الأمور المفصلية، التي بها قوام الحياة.

          والأخطر من ذلك أن الحضارة المعاصرة المهيمنة اليوم، تحاول الاستمرار بامتصاص طاقات وخبرات العالم، سواء من محالها، أو بتسهيل أمور هـجرتها، حيث تقيم الديمقراطيات في بلادها، وتساند الدكتاتوريات وانتهاك حقوق الإنسان في عالم المسلمين لتصبح بلادها محل جذب وافتتان وبلادنا محل طرد وامتهان، وحتى لو حدث معارضات للنظم الاستبدادية في بلاد المسلمين فالكثير منها ليست أحسن حالا من الأنظمة الفاشية في تعاطيها الداخلي، وهي لما تزل دون السلطة، إنها تحمل من الأمراض والعلل والإصابات ما يتجاوز أمراض السلطة وعللها، هـذا عدا عن أنها تحولت في كثير من بلاد العالم الإسلامي والعالم الثالث بشكل عام إلى ورقة ضغط تسـتخدمها الدول المهيمنة لتطويع السلطات وحملها على تحقيق مصالحها وإلا فإن البديل جاهز [ ص: 32 ] إن غياب المناصحة والمراجعة والتقويم والنقد، الذي لا ينمو إلا في مناخ الحرية، عن واقع حقوق الإنسان في إطار التجمعات والتنظيمات الإسلامية، لا يبشر بخير، الأمر الذي أدى ولا يزال، إلى تعطيل المحركات الاجتماعية، وتغييب مناخ الحرية، وانعدام تكافوء الفرص، وعدم توفير المناخ الملائم حتى للانتخاب الطبيعي، هـذا عدا عما يمكن أن يكون من ممارسة تضييع الأمانة وذلك بإيكال الأمر إلى غير أهله.

          ( عن أبي هـريرة، رضي الله عنه ، قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث.. فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال.. وقال بعضهم: بل لم يسمع.. حتى إذا قضى حديثه قال: «أين أراه السائل عن الساعة»؟ قال: هـا أنا يا رسول الله.. قال: «فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة».. قال: كيف إضاعتها؟ قال: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ) (أخرجه البخاري ) ، ومع ذلك ورغم شعارات التدين ومؤسسات التدين، فلا بأس عند كثير منا أن يتساهل في الموضوع فيوكل الأمر لغير أهله وهو يصلي ويصوم.

          نعاود القول: بأن عقيدة التوحيد، التي تعني أول ما تعني التحرير ونسخ الآلهة والطواغيت، وإعلان مساواة الناس، تتطلب الكثير من البرامج التربوية والدعوية لإعادة بنائها، وعطائها، وإخراجها عن كونها عملية ذهنية قلبية لفظية مجردة بعيدة عن متطلبات الحياة وإعادة صياغة الواقع. [ ص: 33 ] من هـنا ندرك لماذا كان آخر كلام المودع الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته في حجة الوداع ، التأكيد على أهمية حماية المعاني والقيم التي بها قوام الحياة والتي يحتمل أن تنتقص في حياة المسلمين ويشكل انتقاصها خللا خطيرا في البنية الاجتماعية والسياسية، كان آخر كلام المودع، ولهذا دلالاته وأبعاده المستقبلية ( قوله صلى الله عليه وسلم : «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هـذا، في شهركم هـذا، في بلدكم هـذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة ... وربا الجاهلية موضوع ... فاتقوا الله في النساء ... وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله... ) (أخرجه مسلم ) .

          ومن هـنا ندرك أيضا أن ربط ممارسة العبادات، وهي أقرب ما يكون فيها المسلم إلى الله، باستحضار عقيدة التوحيد وجعل التهليل من الذكر المستمر، يعتبر مؤشرا واضحا على أن هـامة المسلم الحق لابد أن تعلو بذكر «لا إله إلا الله» دائما، كلما اعترتها عوامل الهبوط والانحطاط على سائر أنواع الذل والعبودية والخنوع، وتعيش أعظم لحظاتها في العبادات، وتعالج بالعبادة ضعفها بممارسة الحرية والانعتاق، في الوقت الذي قد تواجه أشد حالات المعاناة، لتنطلق من العبادات إلى بناء الحياة، فعقيدة التوحيد ليست تمتمات وأصوات وإنما هـي غذاء للشخصية الاستقلالية، وبناء للحالة النفسية، وانطلاق لتحرير الإنسان وتقرير حقوقه، سيرا على قدم النبوة، التي لم يتوقف صراعها ومواجهتها مع الكبراء والآلهة المزيفة، للتأكيد على عبادة [ ص: 34 ] الله واجتناب الطاغوت، حيث لا خلاص للإنسان إلا بنسخ الآلهة، وإيقاف التسلط، وهذا لا يتأتى إلا بالإيمان بعقيدة التوحيد.

          إن الذين حاربوا فكرة الإله -فيما نرى- إنما حاربوها أو حيدوها على الأقل عن واقع الحياة وإدارة المجتمع، ليقيموا من أنفسهم آلهة فوق البشر، تشرع لهم وتضع لهم قيم حياتهم؛ لأن عقيدة التوحيد تسويهم بغيرهم وهم يريدون أن يكونوا فوق البشر آلهة على غيرهم.

          وقد لا نجافي الحقيقة إذا قلنا: إن الجهاد وهو التضحـية بالنفس والمال إنما شرع في عقيدة التوحيد لإيقاف التسلط، ونسخ الألوهيات، ورفع الفتنة والمعاناة، والفتنة في أعظم معانيها تعني ـفيما تعني - سلب حرية الإرادة والاختيار وإكراه الإنسان على عقيدة لا يؤمن بها، إنها تعطيل لحرية الاختيار، وممارسة للإكراه.

          فالإسلام شرع الجهاد دفاعا عن حقوق الإنسان في الحرية والاختيار،

          قال تعالى: ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ) (البقرة:193) .

          لكن تبقى الإشكالية اليوم، حتى في المجال الإسلامي، وهنا مكمن الخطر، هـو الاكتفاء بالجدال والمناقشة والحوار حول حقوق الإنسان والحديث عن عظمة ما جاء به الإسلام، بدل وضع البرامج والأطر وإقامة مراكز التدريب التي تعود وتؤهل لممارستها. [ ص: 35 ] فالمحزن حقا أننا اكتفينا بالحديث عن دور القيم الإسلامية في تأسيس وتأصيل حقوق الإنسان عن وضع الخطط والبرامج لممارستها عمليا في حياتنا، وحياة الناس، فأصبحت دعاوانا بلا دليل، وعلى الأخص عندما تنتهك هـذه الحقوق من قبل بعض الرموز الدينية، أو عندما تقوم في الوسط الإسلامي كهانات (جبت) متحالفة مع الطواغيت (الاستبداد السياسي وانتقاص إنسانية الإنسان) ، تبارك الاستبداد السياسي وتمارس الظلم الاجتماعي وهي تقرأ قوله تعالى:

          ( يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ) (التوبة:34) .

          وخلاصة القول:

          إن التاريخ الحضاري للمسلمين، والمخزون التراثي، والأنموذج الراشدي، الذي يمثل المرجعية ومرحلة الاقتداء، والقيم الخالدة في الكتاب والسنة، ما تزال تشكل إمكانا حضاريا للأمة، في مجال حقوق الإنسان، وتمنحها القدرة على الصمود، في وجه ما تحمله حقبة العولمة، من هـيمنة واستلاب ثقافي وحضاري ورياح سموم، وتؤهلها لالتقاط فرص العولمة والإفادة من إخفاقاتها وانكساراتها، لحمل الخير والرحمة للعالمين، وتتجاوز مفهوم إنسان الحق، غاية ما تطمح إليه الحضارة المعاصرة، إلى بناء إنسان الواجب، إنسان الفكرة المحتسب، المنتج، الذي يواجه إنسان الغريزة، [ ص: 36 ] الذي لا يرى إلا حقوقه في الاستهلاك، حتى بات تحديد مستواه رهينا بمدى استهلاكه.

          والكتاب الذي نقدمه، وهو في أصله عمل جامعي لباحث من إندونيسيا خضع لكثير من القوالب والمعايير الأكاديمية، يحاول تقديم رؤية لحقوق الإنسان في مجال البيان النبوي، الحديث الشريف، ويقدم نماذج ومفاهيم مدعمة بالنصوص المعصومة الشرعية، لإشكالية حقوق الإنسان، وتبقى قضية كيفية التعامل معها في الواقع المعاصر وكيفية وضع الخطط والبرامج للارتقاء بها واستدراك التخصصات التربوية والقانونية والاجتماعية ذات المرجعية الشرعية، هـي الإشكالية الأكثر إلحاحا.

          وهو يشكل لبنة في البناء المأمول، ومساهمة مقدرة في إغناء ملف حقوق الإنسان المفتوح حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لأن الشر من لوازم الخير،

          والله تعالى يقول: ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هـاديا ونصيرا ) (الفرقان:31) .

          ويقول تعالى: ( كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هـو ربي لا إله إلا هـو عليه توكلت وإليه متاب ) (الرعد:30) .

          إنها قوانين وسنن المدافعة بين الخير والشر، التي تمثل جدلية الحياة،

          يقول تعالى: ( الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد [ ص: 37 ] يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) (الحج:40) . وتبقى مسألة حقوق الإنسان والعودة بالإنسان إلى الوحدانية أو منهج التوحيد، الذي يوحد بين الناس في الحقوق والواجبات، أو يعيد صياغة الإنسان بشكل عام، وعلى رأسها الإقرار بكرامته وحمايتها من الانتهاك، تمثل الأزمة الكبرى في مسيرة الحضارة ومحور الحوار والصراع التاريخي والمدافعة بشكل عام.

          وإن ما تمارسه الكهانات الدينية من استغلال لقيم الدين وتحريفها وتسويغ الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي، هـو المسئول في الحقيقة، من بعض الوجوه، عن محاولات إقصاء الدين عن الحياة وحرمان المجتمعات من عطاء النبوة وتخليص الإنسان من تسلط الإنسان.

          لذلك، فأزمة الحضارة اليوم تتمثل في عدم إعادة الاعتبار للقيم الدينية ودورها في معالجة الخلل وتحرير الإنسان واسترداد كرامته بعيدا عن الكهانات وصور التدين المغشوش.

          وتشتد الحاجة في هـذه الأيام أكثر فأكثر، حيث الانتهاكات الفاضحة لحقوق الإنسان والفلسفات المنحازة لصالح الهيمنة والتسلط، إلى بيان دور النبوة في التحرير والتغيير ودور الإيمان بالله الواحد في تحقيق المساواة، أساس حقوق الإنسانية، واستشعار المسؤولية تجاه الإنسان حيثما كان.

          ولله الأمر من قبل ومن بعد. [ ص: 38 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية