الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التوحيد والوساطة في التربية الدعوية [الجزء الثاني]

فريد الأنصاري

تـقـديـم : عـمـر عبيـد حسنـه

الحمد لله، الذي أورث الأمة المسلمة النبوة والكتاب الخاتم، الذي أنزله الله مصدقا لما بين يديه من الكتاب، ومهيمنا عليه.. فجاء القرآن معيارا للحق، ومبينا لما لحق تراث النبوة، من الإصابات والعلل، في التدين، والتحريف في الدين، ومصوبا لمسيرة البشرية، في تحقيق العبودية لله تعالى، ومسخ ألوهيات البشر، التي كانت وراء الظلم الممتد في التاريخ، مهما كانت أشكاله وألوانه، ومخرجا الأمة الوسط، التي اكتسبت صفة المعيارية، بما تحمل من قيم السماء، لذلك كان من وظائفها الرئيسة، الشهادة على الناس، والقيادة لهم إلى الخير، قال تعالى: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) -[البقرة:143].

والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله، القائل: ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله ) - (رواه البخاري ) ، الذي تركنا على المحجة البيضاء، والحنيفية السمحاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هـالك، وبعد: [ ص: 9 ]

فهذا " كتاب الأمة " ، الثامن والأربعون: " التوحيد والوساطة في التربية الدعوية " ، الجزء الثاني، للأستاذ فريد الأنصاري ، أستاذ الدراسات الإسلامية، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، في مكناس، المغرب، في سلسلة " كتاب الأمة " ، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات، بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، في دولة قطر ، مساهمة في إعادة البناء، واسترداد دور النخبة، التي تشكل خميرة النهوض، وتمثل الطائفة القائمة على الحق، التي لا يضرها من خالفها، حتى يأتي أمر الله، وهي على ذلك.. التي تحرس الحق، وتدافع عنه بكل الوسائل المشروعة، وتقوم بإحياء حسبة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، التي بها كانت خيرية الأمة، قال تعالى: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) ... -[آل عمران:110].. تغري بسلوكها، وتثير الاقتداء، وتشكل ميدان تدريب على المعاني الإسلامية، وتضمن التواصل لعقيدة التوحيد، التي تتجسد في سلوكها وممارستها، وتحاول إشاعتها في جميع جوانب الحياة، ولا تتوقف فيها عند تجريدات ذهنية، ومجادلات كلامية، ضمن الغرف المغلقة، وتحاصرها في مربعات ضيقة، قد تذهب بالعمر والأجر معا.

وأعتقد لو أننا أدركنا مقاصد الدين بشكل صحيح، وأبصرنا الأهداف التي نسعى إليها، والتي هـي أمانة، وتكاليف شرعية، وقول ثقيل، وأحسسنا بمسئولية التغيير، وإقامة المجتمع الإسلامي، مجتمع [ ص: 10 ] التوحيد، بكل أبعاده، لأعدنا النظر بالكثير من مناهجنا، وبرامجنا، ومواردنا الثقافية، ومعاهدنا، ومدارسنا، وممارساتنا، ولأدركنا أن الكثير من أنشطتنا المتنوعة - إن كانت هـناك أنشطة - هـي ثمرة لعقلية الإرجاء والعطالة، التي ننكرها فكرا، ونقع فيها فعلا وممارسة.. وأحسب أننا بواقعنا الحالي نعيش خارج التاريخ، فلو تمثلنا قيمنا في الكتاب والسنة، وميراثنا الثقافي بشكل سليم، لما قبلنا بالواقع أيضا، ولامتلكنا القدرة على التعامل معه، من خلال قيم الكتاب والسنة، وعطاء عقيدة التوحيد، التعامل مع القيم من خلال مشكلات الواقع، والتفكير في النهوض به.. إننا لا نعيش خارج التاريخ فقط، وإنما نعيش خارج الحاضر والمستقبل أيضا.. فإذا كان الحاضر هـذا حاله، وهو ماضي المستقبل، فكيف سيكون المستقبل؟

إن عقلية الخروج من الواقع، والانسحاب من مشكلاته؛ الانسحاب من حركة الحياة، وعدم القدرة على المعالجة للإصابات، من خلال عقيدة التوحيد، والتخلي عن مسئولية التغيير بكل مستلزماتها، والحكم على حركة الحياة وممارساتها من بعد، والاكتفاء بعقلية الفتوى بالحلال والحرام، دون أن نكون قادرين على صنع الحلال، والامتناع عن فعل الحرام، سوف يجعلنا نسير خلف المجتمع، ندفن موتاه، بدل أن نسير أمامه، ونقوده إلى الخير، ونقوم سلوك أحيائه. [ ص: 11 ]

فما القيمة العملية، والأثر الفعلي والسلوكي، لعقيدة التوحيد، التي نفخر بأنها تعني العبودية لله، الواحد الأحد، ونبذ العبوديات، وتعني التحرير والانعتاق، وتعني الولاء الكامل لله تعالى، وتعني حمل أمانة مسئولية التغيير؟ وما القيمة العملية لامتلاكنا النص السماوي الخاتم دون غيرنا، إذا لم يحدث ذلك أثرا تغييريا في حياتنا على مختلف الأصعدة؟ فما أيسر أن أقول - أفتي - بأن هـذا حرام، وهذا حلال، وما أصعب أن أنخرط في مشكلات الحياة، فأتعامل معها من خلال قيم الكتاب والسنة، فأصنع الحلال، وأمتنع عن فعل الحرام، وأضع خطة لقيادة المجتمع إلى الخير، والأخذ بيده شيئا فشيئا، للالتزام في ضوء قيم الكتاب والسنة، وذلك من خلال إدراك واقع الأمة، ومعرفة إمكاناتها، لتحويلها إلى الحلال، وحجزها عن الحرام.

إن ذلك يقتضي عقلية أخرى.. عقلية استراتيجية، تستشرف الماضي، وتدرك الحاضر، وتبصر المستقبل، في ضوء الظروف المحيطة، والإمكانات المتاحة، فتحدد موقعها بدقة، وتوظف إمكاناتها، وتعرف دورها تماما، فتكون لها مجاهدات متنوعة، وتستكمل تخصصات مفقودة، وتجتهد في تنزيل الإسلام على الواقع، ولا تكتفي بتقديم الفتاوى، والحكم الواقع من بعد، بل قد تقوم أيضا بجلد المجتهدين في التغيير بدل تقديم النصح لهم، لتخادع النفس بمشروعيات خيالية، وتخلي مسئوليتها عن التغيير. [ ص: 12 ]

ولعل إغلاق باب الاجتهاد الذي لا يخرج عن كونه اجتهادا، هـو إعلان لوفاة العقل، ومحاصرة لخلود الشريعة، وامتدادها، وقدرتها على العطاء في كل زمان ومكان، وخروج من الحاضر والمستقبل، وفتح الباب على مصراعيه للغزو الفكري، والثقافي، والقانوني، والاستلاب الحضاري، والتحول إلى تقديس الأشخاص، والتوقف عند اجتهاداتهم، وآرائهم، والدوران في فلكها، شرحا واختصارا، وشرح الشرح، واختصار الاختصار، ووضع الحواشي والمتون، ونظم الأراجيز وشرحها، والانسحاب من الواقع الاجتماعي، والبعد عن معالجة مشكلات الأمة، في ضوء قيم الكتاب والسنة، وابتكار شروط وقيود للاجتهاد مستحيلة الوجود والتحقق، والحجر على فضل الله وقدرته في أن يمنح الأمة، في كل زمان ومكان، القادرين على النظر لمشكلاتها، في ضوء الكتاب والسنة، وامتلاك القدرة على التعامل مع الكتاب والسنة، والنظر فيهما، وتنزيلهما على الواقع، من خلال استيعاب تلك المشكلات.

فالاجتهاد في نهاية المطاف، هـو نوع من التفكير، وإعمال العقل في النص الشرعي، ومحاولة الاستهداء به، لتقديم الحلول لمشكلات الواقع، بهدي من خلود الشريعة، ومرونتها، وقدرتها على العطاء.. وهذا الاجتهاد قد يخطئ، وقد يصيب، وسواء أكان خطأ أم صوابا، فصاحبه مأجور لإعمال ذهنه، وتفاعله مع نصوص الكتاب والسنة. [ ص: 13 ]

والمعروف أن الله سبحانه وتعالى تجاوز عن الخطأ، ولم يعاقب عليه، ( قال الرسول صلى الله عليه وسلم : إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.. ) (رواه الدار قطني ، وابن ماجه ) ، إلا في قضية إعمال العقل، والاجتهاد في نصوص الشريعة، فإن الأمر لم يقتصر على التجاوز، ورفع الخطأ، وإنما يتعدى إلى الثواب عليه، حتى تبقى حركة الفكر مستمرة، والاتصال بالكتاب والسنة دائبا، ومفتوحا لكل مسلم، بحسب قدرته واستطاعته.

ذلك أن تعطيل قطاعات كبيرة من المسلمين عن التفكير، والانفعال بالنصوص، والحكم عليها بالعجز، وعدم امتلاك الأهلية، وجعل القرآن والسنة للنخبة فقط، أمر يتعارض مع أخص خصائص خير القرون، التي كان الانفعال فيها بنصوص الشرع، عاما وجماهيريا، ابتداء من الطفل الذي يدرب على الاجتهاد، ويحضر مجلس شورى الصحابة، والمرأة التي ترد على إمام المسلمين وخليفتهم، وتصوب اجتهاده، وحتى خليفة المسلمين.

لقد أدى إغلاق باب الاجتهاد، وإيقاف التفكير، إلى كارثة عقلية، وحول الأمة من التفكير والإبداع، إلى التلقين والتقليد، وعاد بها إلى أدنى وظائف العقل، إلى مراحل العقل الطفولي، القادر على الحفظ، وشحن الذاكرة، منه على التفكير، والتحليل، والنظر، والاجتهاد، حتى باتت مؤسسات التعليم والتربية، والعملية التعليمية [ ص: 14 ] بعامة، تقوم على التلقين، وليس تعليم التفكير.. والطالب المتميز، هـو ذو الذاكرة القوية، الأكثر حفظا، الذي يكون نسخة عن أستاذه، وكتابه المدرسي، والأكثر سكونا وعطالة، والأقل تطلعا.. والطالب الشاذ والمشاغب، هـو الطالب صاحب الفاعلية والنشاط الذهني، الذي يحاول النظر، والتفكير، والسؤال، والخروج عن الإيقاع العام!! وبذلك ينشأ التقديس للأشخاص، والتعصب لآرائهم، لانعدام القدرة على النظر والموازنة والمقارنة، والإفادة من جميع الآراء، في العودة إلى نصوص الكتاب والسنة.

وهنا قضية، أعتقد أنها أصبحت اليوم على درجة من الأهمية، لأنها شكلت ثورة، قلبت موازين التعليم وطرائقه ووسائله، وهي أن وسائل وتقنيات الحفظ والاسترجاع، قد تطورت تطورا مذهلا حقا، وحملت عن الذاكرة الإنسانية أعباء كبيرة، لتتوفر وتتحول طاقات العقل كلها إلى التفكير والتحليل، والدراسة، والاستنتاج، والاستقراء.. ولم تبق ميزة للإنسان الذاكرة، أو الإنسان (الكاسيت) .. وما قيمة المحفوظ، والمباهاة به، إذا لم ينتفع منه؟

وفي تقديري، أن الاجتهاد، حركة أمة كاملة، ومسئولية أمة، وإنجاز أمة، ومراقبة أمة، لكل فرد فيه نصيب، وذلك للحيلولة دون الانحراف والخروج.. إذ كيف يمكن للمسلم مقارعة المنكر، والقيام بحسبته - وهي حسبة عامة - إذا كان عاجزا عن معرفته؟! فإذا لم تتمرن الأمة على النظر والاجتهاد، فسوف تتحول من حركة المدن، إلى سكون المقابر، تقدس أقوال الرجال، الذين غابوا في جوف الماضي، [ ص: 15 ] وتطلب منهم الإنقاذ للأحياء، الذين يمتلكون الاختيار والفاعلية - لكن يعطلونهما - وتعجز عن النظر والامتداد، وتحقيق الخلود والعطاء للإسلام الخالد!

إن التوهم بأن نقد الاجتهاد، والفهم، والتدين، نقد للدين ونصوصه المعصومة، أوجد جوا من الإرهاب الفكري، وصنع عقدة الخوف من الخطأ، حتى أصبحت معظم مؤسساتنا، المسماة بالعلمية والشرعية، تتوهم بأنها تؤثر السلامة، فتقوم على الشحن من الماضي، والتفريغ في الحاضر، والنقل للأقوال فقط، دون القدرة على فرزها ودراستها، وبيان وجهاتها، وتحديد الخلل فيها، والخلوص إلى الحلول المطلوبة للحاضر.

وكم يلحظ الإنسان في المؤلفات الحديثة، وخاصة الرسائل العلمية الجامعية، دقة النقل - أو عدم دقته - لقال: فلان، وقال: فلان... أما ماذا قال صاحب هـذه النقول، فأمر مسكوت عنه.. لذلك فبدل أن تخصب هـذه الأقوال الفكر الاجتهادي، من خلال المقارنات والموازنات، والنظر، والترجيح، تحولت لتوقع الناس في ارتباك وبلبلة، قد توصل إلى الفوضى والضياع، والشتات، ومن ثم إلى الأحكام الجائرة على التراث.

أما الحجة بأن إغلاق باب الاجتهاد، إنما جاء سدا للذرائع ومنعا للتطاول على الشريعة، ممن لا يحسنون النظر، حتى لا توظف نصوص الشريعة لحكام الاستبداد السياسي ، فإن حكام الاستبداد لم ولن يتوقفوا عن توظيف الشريعة، واستخدامها لتسويغ مسالكهم، وإيجاد [ ص: 16 ] المشروعيات لأعمالهم، وقراراتهم، أمام الجماهير المسلمة، حتى إننا لنجد الفتوى، والفتوى المناقضة، في عصر واحد، وقد أصبحت الفتاوى جاهزة، وتحت الطلب... وهكذا.. فحكام الاستبداد يسمحون لأنفسهم الاجتهاد في الدين ، وتأويل نصوصه لصالحهم، ولا يسمحون لأحد الاجتهاد في السياسة، لكن الحقيقة التي لا بد من إيضاحها، أن مثل تلك الفتاوى، هـي ساقطة قبل صدورها، كما نلاحظ، ولا تقنع حتى أصحابها، لأن وعي الأمة كفيل بتمييز الغث من السمين، ولم يحل دونها إغلاق باب الاجتهاد.

ذلك أن إغلاق باب الاجتهاد، الذي قرر سدا للذريعة، لم يسدها بشكل عملي، وإنما أوتي الحذر من مأمنه، كما أسلفنا، حيث لم تتوقف فتاوى السلطان والاستبداد السياسي .. هـذا إضافة إلى أن مبدأ سد الذريعة، واعتماده مصدرا للحكم الشرعي، يمثل حالة خاصة، وخاصة جدا، وأن تعميمه يعطل الشريعة، ويلغي أثرها في الواقع، وقد يلتقي من حيث النتيجة، مع من زعم بعدم صلاحيتها إلا للزمن الأول.

إن إغلاق باب الاجتهاد، سدا للذريعة، بحجة فساد العصر، تولدت عنه إشكاليات كبيرة، كما ألمحنا، ليس أقلها اتهام الشريعة الخالدة بالقصور، والعجز عن معرفة وتقدير الفساد المحتمل.. وفي تقديرنا، أن الله الذي خلق الإنسان والعصر، وأنزل الشريعة الخاتمة الخالدة لكل عصر، هـو الأعلم بتقلبات العصور والأحوال، وفسادها، وصلاحها.. فتوقيف الاجتهاد، باسم فساد العصر، يؤدي إلى فساد كبير، واتهام ضمني للشريعة ومنزلها، بالقصور، وعدم تقدير الأمور. [ ص: 17 ]

ومبدأ سد الذرائع، الذي كان مرتكز إغلاق باب الاجتهاد، على أهميته وضرورته، يبقى حالة خاصة، وخاصة جدا، كما أسلفنا، وليس مبدأ عاما يمتد حتى يلغي الشريعة، ويحاصرها باجتهادات، أو توهمات بشر، قاصر الفهم، نسبي الإدراك، موقوت الحياة، محدود العلم.

إضافة إلى أن سد الذرائع، يعني - فيما يعني - إبقاء المجتمع على حاله التي هـو عليها من الركود والجمود.. والمسلم مطالب بالاجتهاد المستمر، للارتقاء بالأمة من الحسن إلى الأحسن، ومن الفساد إلى الصلاح.. ولا بد أن يتحول التفكير بقدر أكبر من الجدية، إلى تحقيق مبدأ جلب المصالح، والنهوض بالأمة، والاجتهاد لذلك.. أما الانسحاب، والإلغاء، باسم درء المفاسد، فنخشى أن يكون تعميمه لونا من المفاسد، ومساهمة سلبية في عطالة الأمة، وتوقفها، حتى ولو كان ذلك بحسن نية.

وقد يكون من أخطر الإصابات المبكرة التي لحقت بالأمة الإسلامية، من الناحية الفكرية والعقدية، وأفسدت على الناس حياتهم، وحالت بينهم، وبين رواء قيم الكتاب والسنة، وسهولة التلقي عنهما للعقيدة، بدون تعقيد، أو فلسفة مفسدة للعقل، والدين، والفطرة معا، هـي: ترجمة الفكر " الآخر " ، الفكر اليوناني إلى العربية، بدل أن يترجم الفكر والقيم والعقيدة الإسلامية، كما وردت في الكتاب والسنة، إلى اللغات الأخرى، لنشر الإسلام، واستنقاذ الناس مما هـم فيه، من الخلط والتشويه في العقيدة والعبادة. [ ص: 18 ]

ذلك أن دخول علم الكلام على الحياة العقلية الإسلامية، كان - في رأينا - بدء الخلل، والخرق الكبير.. لقد كان وراء نشوء الكثير من الفرق، والمذاهب، والنحل الضالة، وفتح باب التأويل، والخروج بالمعنى عما وضع له اللفظ، ليتوافق مع الأهواء والرغبات.. وبدل أن تكون القيم الإسلامية، في الكتاب والسنة، هـي المعيار للقبول، والرفض، ويكون الفكر الوافد، هـو مادة البحث وموضوعه، تحول الأمر إلى محاولة النظر للإسلام، من خلال القوالب الفلسفية الوافدة، وجرت المحاولات العديدة لصب الإسلام في هـذه القوالب الفلسفية الوافدة، وجرت المحاولات العديدة، لصب الإسلام في هـذه القوالب، والحكم عليه من خلالها، فتحول الإسلام من معيار له صفة الهيمنة، إلى مادة للبحث، وموضوع له، وأصبح المعيار هـو الوافد، من فلسفة اليونان والرومان، ففقدت العقيدة رونقها، ورواءها، وتميزها، وربانيتها.

إن الغزو الفكري والعقدي، الذي جاء به علم الكلام، كان وراء إقامة الحواجز الفكرية والنفسية، بين المسلم، والتلقي المباشر من الكتاب والسنة، وتحول الأمر، والنظر، والاجتهاد، إلى تجريدات ذهنية، وقوالب كلامية عقيمة، ورسم بالفراغ، أدت إلى الاختلاف، والتمزق، والتحيز، والتعصب، بدل أن يستمر الائتلاف، والتكامل، والتماسك، والاعتصام بالكتاب والسنة، وأصبحت العقيدة، كما أسلفنا، تجريدات ذهنية، لا نصيب لها من الواقع، أو السلوك.

ولم يقتصر الأمر على ميدان العقيدة، وإنما تجاوز إلى مناهج التفسير، [ ص: 19 ] ومناهج أصول الفقه، وضاعت الأمة بين الردود، والمناقشات، والتشبيه، والتأويل، والتعطيل، والتآكل، والتشرذم، والاستمرار في طحن الماء.

وقد صور الإمام الذهبي رحمه الله، ذلك بقوله: " ولا ريب أن بعض علماء النظر، بالغوا في النفي، والرد، والتأويل، والتحريف، والتنزيه - في زعمهم - حتى وقعوا في بدعة، أو في نعت الباري بنعوت المعدوم.. كما أن جماعة من علماء الأثر، بالغوا في الإثبات، وقبول الضعيف، والمنكر أحيانا... وحصل الشغب، ووقعت البغضاء، وبدع هـذا، وكفر هـذا، ونعوذ بالله من المراء في الدين، وأن نكفر مسلما موحدا بلازم قوله، وهو يفر من ذلك اللازم، وينزه ويعظم الرب جل وعلا...

لقد أفرط بعضهم في نفي التشبيه، حتى قال: إنه تعالى ليس بشيء، وأفرط بعضهم في معنى الإثبات، حتى جعل الخالق مثل خلقه.. نعوذ بالله تعالى من إنكار أحاديث الصفات، فما أولها السلف في خير القرون، ولا حرفوا ألفاظها عن مواضعها، بل آمنوا بها، وأقروها، كما جاءت، وفوضوا علم ذلك إلى الله ورسوله، فكان إيمان الأمة وعطاؤها أقوى وأنفع من إيمان المتفلسفة وعلماء الكلام.

وآيات الصفات وأحاديثها، لم يتعرض السلف لتأويلها أصلا، وهي أم الدين، ولو كان تأويلها سائغا أو حتميا لبادروا إليه، فعلم قطعا أن قراءتها وإقرارها، على ما جاءت به، هـو الحق، لا تفسير لها [ ص: 20 ] غير ذلك، فنؤمن بذلك، ونسكت اقتداء بالسلف (سير أعلام النبلاء، 10 / 506 ) .

لذلك نقول: إن الإدراك المطلوب اليوم، أو العقلية الاستراتيجية، التي نفتقدها بالأقدار المطلوبة، ونسعى إليها، لم تعد تقتصر على إبصار واقع الأمة ومشكلاتها، والتخطيط لمستقبلها، وإنما تجاوزت إلى الرؤية العالمية، أو الرؤية الإنسانية، ذلك أن الفضاء الحضاري المطلوب التعامل معه اليوم، تجاوز الدولة، وحتى الأمة، في الوقت الذي لا يرى بعض الناس أبعد من أرنبة أنوفهم، في هـذا العصر العالمي.

فكيف نستطيع أن نقول: بأن مثل هـؤلاء مدركون، لقيم الكتاب والسنة، مدركون لتراثهم تماما، في الوقت الذي نرى أن البعد العالمي والاستراتيجي، تاريخيا، ترافق مع نزول الآيات الأولى.. الآيات المكية.. حيث جاء خطابها للناس جميعا، والعالمين، قبل أن تكون للمسلمين دولة المدينة، أو دولة الجزيرة، أو حتى أي مكان آمن.. وكانت رسائل الرسول صلى الله عليه وسلم للملوك والأمراء، خارج النطاق الإقليمي، ووعد الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، الذين ما يزالون في حينها، غير آمنين على أنفسهم، أن يكونوا حملة الخير، والرحمة، والوراثة لحضارة كسرى وقيصر.

لذلك نقول: إن المشكلة الحقيقية، أننا نعيش خارج حركة المجتمع.. خارج الماضي، والحاضر، والمستقبل.. ولو أبصرنا فعلا أحد هـذه الأبعاد الثلاثة، لقادنا ذلك إلى إبصار البعدين الآخرين.. [ ص: 21 ] حيث لا يعقل التخلف في جانب، والإبداع والارتقاء في آخر.. لذلك نرى أن دعوى الانتصار للماضي المتألق، هـي دعوى بلا دليل.

وقضية مهمة أخرى، يمكن أن نكون عرضنا لبعض جوانبها في الجزء الأول، من هـذا الكتاب، وهي أن نصوص الدين - كما هـو معلوم - معصومة، ومحفوظة، وقد تعهد الله بحفظها، لذلك فإن الإصابة والمشكلة، قد تكون بالفهم والاجتهاد، وتنزيل القيم في الكتاب والسنة، على الواقع، أي في الفهم والتدين، وليس في قيم الدين نفسه.. وأن نقد الفهم والتدين، وتحديد الخلل، واكتشاف علل التدين، ومحاولات التصويب والتجديد، لا يعني النقد، أو الإلغاء، أو المحاصرة لنصوص الدين في الكتاب والسنة، ذلك أن التدين في نهاية المطاف هـو مواضعات، واجتهادات بشرية، يجري عليها الخطأ والصواب، فنقدها لا يعني نقد الدين، وأن الالتباس في هـذا الموضوع، أدى إلى مضاعفات وسلبيات خطيرة، وأشاع جوا من التخوف، ومحاصرة حركة العقل، والاجتهاد، والتفكير، وإشاعة الإرهاب الفكري، كما أسلفنا، وأصاب الأمة بحالة من الركود، والتقليد العام، والتخاذل الفكري، وتكريس الأخطاء، واختفاء ملكة النقد.

والناقد، أو الناصح، أو القائم بحسبة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، هـو مجتهد، وشريك في عملية البناء، لذلك يجري عليه الخطأ والصواب، كسائر المجتهدين، وله مواصفات، لا بد من تحققها، سواء [ ص: 22 ] ما يتعلق بحدود المعرفة التي يتعامل معها، وامتلاك الأدوات، والإدراك الكامل لما يقدم عليه، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، والنقد حكم وتقويم وشهادة، أو ما يتعلق بالتزام أخلاق المعرفة وآدابها.. فمن كان آمرا بالمعروف، فليكن أمره بمعروف.

وهنا أمر قد يكون من المفيد التوقف عنده قليلا، بما يتسع له المجال، وهو أن للنقد والمناصحة بشكل عام معايير، وموازين، وقيم، وآداب، لا يجوز تجاوزها، حتى لا يتحول البناء إلى هـدم، والنقد إلى جلد، والنصيحة إلى فضيحة، والثقافة إلى لون من العبث والتضليل.. وإذا كان هـذا هـو المنطلق لممارسة عملية النقد والتقويم بشكل عام، وفي شعب الحياة والمعارف المتنوعة، فهو في نقد، وتقويم التدين، وبيان علله، أشد.. حيث لا بد أن يكون المعيار أشد دقة، وصرامة، ووضوحا، وأن يكون صاحبه عالما عدلا، ( فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: يحمل هـذا العلم (قيم الدين) ، من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ) (رواه البيهقي ) .

ولقد اجتهد علماؤنا في وضع بعض الأصول والضوابط لعملية النقد والتقويم، حتى تتحقق المقاصد المطلوبة. يقول سفيان الثوري ، رحمه الله: لا يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، إلا من كان فيه خصال ثلاث: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر، عدل بما ينهى، عالم بما يأمر، عالم بما ينهى (جامع العلوم والحكم، 2 / 256 ) . [ ص: 23 ]

فالإنسان الذي لا علم له بقيم الدين، ولا فقه له بمقاصده، ولا دراية له بفهم القرون المشهود لها بالخيرية، هـو إنسان يفتقد مصادر الدين، في الكتاب والسنة، ويفتقد المرجعية للفهم المشهود له بالخيرية، وبذلك هـو غير مؤهل لأن يمارس عملية النقد والتقويم، لصور التدين، لأنه فاقد للمعايير والموازين، والفقه بالمصادر والمقاصد.. ويزداد الأمر خطورة، إذا كان الذي يتولى عملية النقد، من منكري الدين والتدين أصلا، كمثل بعض العلمانيين والماركسيين ، الذين ينطلقون من أن الدين-هذا إذا كانوا صادقين، ولم تكن القضية مكرا ومخادعة- شأن شخصي، معزول أو محيد، عن واقع الحياة، وتقويم سلوك المجتمع في شتى المجالات.

لذلك فنقدهم لصور التدين، فاقد للأساس، الذي يقوم عليه، قبل فقد الموازين، ونقدهم في الحقيقة ليس لصور التدين، لتنقيتها من المغالاة والانحراف، والتأويل الباطل، كما هـو الأصل، وإنما هـو هـدم للدين أصلا، لكنهم يجبنون عن مهاجمة الدين، كلون من النفاق الاجتماعي، لأن ذلك يكشف حقيقتهم، ويفضح عمالتهم الثقافية في المجتمع الإسلامي، فيتحولون إلى نقد صور التدين، لتكون وسيلتهم لإلغاء قيم الدين من الحياة، والبرهنة على فساد مسالك أصحابها.. وهذه قضية لا بد من التنبه لها، إذ هـي في حقيقتها ليست نقدا لصور التدين، واكتشاف العلل، وإنما هـي وسيلة لنقد الدين. [ ص: 24 ]

وقد تكون الوسيلة الأخطر في هـذا السياق، هـو استنبات أشخاص على التربة الإسلامية، وفي الداخل الإسلامي، مهمتهم الأساس ممارسة علمنة الإسلام، وتقطيع رؤيته الشاملة، وتأويل نصوصه بمنأى عن النظرة الكلية للأمور، وفهم خير القرون، وإخراج قيمه من الساحة، وتغييب مصطلحاته، والعبث بمصادره، ومحاصرة مرجعيته، باسم المعاصرة.. وهذا من أخطر علل التدين، التي تتم اليوم تحت شعار الاستنارة والمعاصرة، إن لم يكن أخطرها.

وتبقى قضية أخيرة أيضا، وهي أن النقد، والتقويم، والمراجعة، لا تعني الإلغاء، واختزال التاريخ العلمي، والفكري، والخلقي للشخص محل النقد، والحكم عليه من خلال موقف واحد، أو خطأ في الاجتهاد، ونسيان سائر جهاده، وكسبه، وفضله، والعجز عن النظرة الكلية الشاملة للأمور، والتوازن في الحكم، وإعطاء كل ذي حق حقه.

ولعل المصطلح الإسلامي، في تسمية عملية النقد، والتقويم، والتصويب: (مناصحة) وليس (نقدا) ، له الكثير من الإيحاءات والدلالات، ليس أقلها الغيرة على المنصوح، وحمل الخير له، والرغبة في تسديده، والشعور بحقوق أخوته، وعدم إسلامه للخطأ والتجاوز، ( لذلك جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة، فقال: الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم ) [رواه مسلم ].. فالنصح والتقويم، هـو من لوازم الإيمان، وصدق التدين، وحق المسلم على المسلم. [ ص: 25 ]

وبعد:

فهذا الكتاب الذي نقدمه، هـو الجزء الثاني، من " التوحيد والوساطة في التربية الدعوية " . وقد آثرنا إبقاء ترتيب الفصول على حاله كما لو كان الكتاب جزءا واحدا، لما لذلك من مدلول، تتكامل فيه المقدمات مع النتائج، وتتماسك فيه مسيرة البحث.

ويمكن القول: بأن الباحث - جزاه الله خيرا - بعد أن أصل للمصدرية في الكتاب والسنة، والمرجعية من فهم خير القرون، وبين المعاني التي كانت سبب خيرية القرون الأولى، في الجزء الأول، تابع مسيرته، مستقرئا حركات التجديد والتصويب، ورفض الوساطة التي يعتبرها المشكلة الأساس في الخلل، الذي لحق بالتدين.. وكانت له وقفة مراجعة ومناصحة مع حركة الوعي الإسلامي المعاصر.. وقد ترجح عندنا، أن المصلحة في إخراج الأمر من إطار الأشخاص، إلى نوع من التجريد، الذي سوف يمكن - إن شاء الله - من التوليد وامتلاك القدرة على مد الرؤية، تأسيا بمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا.. ) .

والباحث - نفع الله به - تتبع مواطن الخلل، وبين مخاطره، دون أن يبخس الناس أشياءهم، ليعود للتوحيد صفاؤه ونقاؤه ورواؤه، ويعيش المسلم ثمراته الطيبة في النفس والمجتمع.

والله من وراء القصد. [ ص: 26 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية