في عالمٍ تضطرب فيه الأصوات، وتتشابك فيه الأقلام، يبقى الكاتب الحقيقي ميزان الحكمة، ولسان العدالة، وعين الوعي المبصرة.
ويحضرنا هنا ما أورده "عبد الحميد الكاتب" في وصيته للكتّاب تلك الوصية الأدبية الخالدة التي يوجِّهها إلى أهل "صناعة الكتابة" وهي ليس مجرد تعليمات مهنية فقط، بل هي بيان ثقافي إنساني، يحدّد ملامح الكاتب الحق، ويفتح أمامه أفقًا من السمو الأخلاقي، والعقلي، ويجعله في مصافّ الحكماء والمصلحين.
يعدد "عبد الحميد الكاتب" نعم الله على العباد، ويخاطب الكتاب، والأدباء، فيقول لهم:" فجعلكم (الله) معشرَ الكُتَّاب في أشرف الجهات، أهل الأدب والمروءات، والعلم والرزانة، بكم تنتظم للخلافة محاسنُها، وتستقيم أمورها، وبنصائحكم يُصلِح الله للخلق سلطانهم، وتعْمُر بلدانُهم، لا يستغني الملك عنكم، ولا يوجد كافٍ إلَّا منكم، فموقعُكم من الملوك موقعُ أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصارِهم التي بها يبصرون، وألسنتِهم التي بها ينطقون، وأيديهم التي بها يَبْطِشون، فأَمْتَعَكم الله بما خصكم من فضل صناعتكم، ولا نزع عنكم ما أضفاه من النعمة عليكم!".
والحقيقة أن الكاتب الناصح والأديب المؤتمن، ليس صانع حروفٍ، ولا مؤلف أوراقٍ فحسب، بل هو روح الأمة، وضميرها الناطق، منه يستمد المجتمع نظامه، ومن نصائحه تصلح البلدان، فهو أذن الحاكم، وبصره، ولسانه، ويده.
وهو الحارس لقيم العدل، والإصلاح، فالكلمة عنده ليست وسيلة كسب، بل أداء رسالة، وواجب أمانة.
الكتابة مروءة قبل أن تكون مهنة:
يتبدىّ من خلال وصية عبد الحميد للكتّاب الرؤية الأخلاقية السامية للكتاب والأدباء، مما يجعل من الأدب، والكتابة، طريقًا للمروءة، والرزانة، والعفاف، فالكاتب كما ورد في الوصية لا يكتمل إلا إذا جمع خلال الخير كلها: حلمًا عند الغضب، وحزمًا عند القرار، وعدلًا في الحكم، وإنصافًا في القول، ووفاءً عند الشدائد، إن هذه القيم تجعل من القلم ميزانًا للضمير، لا أداةً للهوى أو المصلحة.
والكاتب — في هذه المدرسة الفكرية الرفيعة — مطالب أن يكون عارفًا بالدين والعربية، والشعر، والتاريخ، والحساب؛ لأن الثقافة عندهم وحدة لا تتجزأ، فلا يُتصوَّر كاتبٌ جاهلٌ بتراث أمته، أو غافلٌ عن لغة قومه؛ ولذلك كانت رؤية "إمام الكتبة" أنه لا بد أن يتوفر في الكاتب أمور منها أن يكون: "عالمًا بما يأتي من النوازل، يضع الأمور مواضعها، والطوارق في أماكنها".
هذه العبارة تُعبِّر عن عمق الرؤية العقلية التي تجعل من الأدب أداة للفهم والتدبير.
القلم أمانة ومسؤولية:
إن من أعظم ما في هذه الوصية دعوتها إلى التواضع، وإلى تطهير النفس من الكبر، والعُجب، وإلى استشعار نعمة الله في العلم والفضل، فالكاتب لا يكون كاتبًا حقًّا إذا غلبه الزهو بقلمه، أو نسب الفضل إلى حيلته دون توفيق ربه، فالعلم في هذا الفهم وديعة، والموهبة عهد، لا يصح أن تُستغل إلا في خدمة الخير والإصلاح.
كما أوصى الكتاب بضرورة التخلق بالخلقٍ النبيل: وهو الإخاء بين الكتّاب، والتعاون على البر والمعرفة، لا على الحسد والمنافسة: "وإنْ نَبَا الزمانُ برجل منكم فاعطفوا عليه وواسُوه، حتى يرجع إليه حاله، ويَثُوب إليه أمره، وإنْ أَقعد أحدًا منكم الكِبَر عن مكسبه، ولقاء إخوانه، فزوروه، وعظموه، وشاوروه، واسْتَظْهروا بفضل تجربته، وقديم معرفته "، هكذا يقول في مشهد من أروع صور التكافل الثقافي. إنه يربّي في الكاتب روح الجماعة، ويحذّره من أن يكون العلم سببًا للتباعد أو الغرور.
الكاتب والسلطة: علاقة عقل ونصيحة:
من أجمل ما في الوصية تصويره للعلاقة بين الكاتب والملك، فهي عنده علاقة لا تقوم على التبعية، والخضوع، بل علاقة قوامها العقل الناصح، والساعد الأمين. فالكاتب هو من :"يُصلح الله به للخلق سلطانهم، وتُعمَر بلدانهم بنصائحه".
إنّه بذلك ليس خادمًا للسلطة، بل شريكًا في صناعة العدل، والرشد، وهذه الرؤية تُعطي للكتابة بُعدها السياسي النبيل، وتجعلها في قلب الإصلاح لا في هامشه.
بل تذهب الوصية إلى أبعد من ذلك، فيشبه سياسة الناس بسياسة الدواب، على نحوٍ بديعٍ في الرمز، فيقول: "والكاتب لفضل أدبه، وشريف صنعته، ولطيف حيلته، ومعاملته لمن يحاوله من الناس ويناظره، ويفهم عنه أو يخاف سطوته أوْلى بالرفق لصاحبه، ومداراته، وتقويم أَوَده من سائس البهيمة، التي لا تُحِير جوابًا، ولا تعرف صوابًا، ولا تفهم خطابًا، إلِّا بقدر ما يصيِّرها إليه صاحبها الراكب عليها، ألَا فارْفُقوا رحمكم الله في النظر، وأَعْمِلوا ما أمكنكم فيه من الرَّوِيَّة والفكر".
إن سائس البهيمة يعرف طباعها فيحسن قيادها، فكذلك الكاتب ينبغي أن يعرف أخلاق من يصحبهم، فيرفق بهم ويهذبهم دون عنف أو قسوة، فالمعرفة عنده رفق، والتربية أدب، والحكمة لين.
الحذر من الترف:
ويختم وصيته للكتاب بوصايا الزهد والاعتدال، إذ يحذّر من السرف، والتبذير، ويرى أن الترف يُفسد الكاتب؛ لأن القلم لا يعيش إلا في بيئة القصد، والجدّ والتواضع، فالمبالغة في مظاهر العيش تُذهب بهاء العلم، وتطفئ نور الفكرة؛ لذلك نرى هذه الوصية تؤسس لما يمكن تسميته "أخلاق الكاتب"، التي تجمع بين الزهد والعلم، وبين الحلم والعدل، وبين التواضع والعزة.
ختاماً: جوهر وصية "عبد الحميد الكاتب": يؤكد على أن الكاتب ليس إنسانًا عابرًا في التاريخ، بل هو حامل رسالة، ووارث من ورثة الكلمة والحكمة؛ فالكلمة عنده فعل إصلاح، ومظهر رحمة، وصوت ضمير، وإذا كان الملوك يحكمون الأجساد، فإن الكتّاب يحكمون العقول والقلوب.
وكأن الكاتب لا يتم نضجه إلا حين يدرك أن الكتابة عبادة في محراب الفكر، وجهاد في سبيل الحق، وسعيٌ نحو الكمال الإنساني، وهكذا يتجلّى من الوصية أن الكتابة ليست حرفة تُؤدَّى، بل هي ميثاقٌ أخلاقيٌّ، وعهدٌ ثقافيٌّ بين الكاتب وأمته، وبين الكاتب ونفسه، فمن عرف هذه المبادئ، وصان قلمه عن الهوى، كان من الذين يضيئون بمدادهم وجه الزمان.
فتاوى الحج
مقالات الحج
تسجيلات الحج
استشارات الحج






