الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلا مزيد على ما بينا هنالك في الفتوى المشار إليها، لكن ربما أشكل عليك الجمع بين الأمرين ولا منافاة بينهما، ذلك أن القضاء المعلق هو ما بأيدي الملائكة، والمبرم هو ما عند الله تعالى، وبيان ذلك أن الله سبحانه وتعالى قدر مقادير الأشياء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وذلك مكتوب عنده في أم الكتاب، ومن ذلك الزواج وغيره، كل ما كان وما يكون وما لو كان كيف يكون، وهذا لا يتغير ولا يتبدل لأن الله سبحانه وتعالى يعلم عاقبة الأمر ومآله، كما قال: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ {ق:29}.
وأما ما ينسخ للملائكة فهو الذي يقع فيه القضاء المعلق فيكتب عندهم إن دعا فلان بكذا فله كذا وإن لم يدع فليس له، وإن وصل رحمه فعمره كذا وإن لم يصل رحمه فعمره كذا، والملائكة لا يدرون أي الأمرين سيكون حتى يكون، وأما الله سبحانه وتعالى فإنه يعلم هل سيدعو أم لا؟ وهل سيصل رحمه أم لا؟ فالمآل عنده مكتوب، إذاً فلا تنافي بين القضاء المبرم والقضاء المعلق واجتماعهما، فهو مبرم عند الله ومعلق لدى الملائكة، وقد يكون القضاء مبرماً عند الله ومبرماً عند الملائكة إذا لم يكن معلقاً.
ونأمل بذلك أن يزول عنك الإشكال ويتضح لك المقال، وننبهك إلى أن مسائل القدر من المسائل التي لا ينبغي الخوض فيها، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله: إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا. أخرجه الطبراني وغيره وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة. قال البغوي: القدر سر الله لم يطلع عليه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، لا يجوز الخوض فيه والبحث عنه من طريق العقل؛ بل يعتقد أنه تعالى خلق الخلق فجعلهم فريقين: أهل يمين خلقهم للنعيم فضلاً، وأهل شمال خلقهم للجحيم عدلاً، قال الله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ.
فلا يجب على المرء أن يخوض فيه أو يعلم دقائقه ليكون مؤمناً بل يكفيه أن يؤمن بخيره وشره؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام الذي سأل فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان وأمارات الساعة وفيه: قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت... وقوله صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه. رواه الترمذي وصححه الألباني.
بل الخوض في ذلك والجدل فيه قد يؤدي بالمرء إلى الضلال والعياذ بالله، ولذلك قال ابن سيرين: إن الذين يخوضون فيه هم المعنيون بقوله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {الأنعام:68}، ولمزيد من الفائدة انظر الفتوى رقم: 60787.
والله أعلم.