الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد أمر الله تعالى بالطهارة للصلاة ولبس أحسن الثياب، فقال تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ.... وَقَاْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ. ونحن مأمورون بالتسليم لحكم الله، ولا مانع من التعرف على العلل، وقد بين الإمام الكاساني رحمه الله تعالى شيئا منها فقال: فَدَلَّتْ النُّصُوصُ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ الْحَقِيقِيَّةَ عَنْ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ، وَالْحُكْمِيَّةَ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ، وَالْمَعْقُولُ كَذَا يَقْتَضِي مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّلَاةَ خِدْمَةُ الرَّبِّ وَتَعْظِيمُهُ - جَلَّ جَلَالُهُ - وَعَمَّ نَوَالُهُ -، وَخِدْمَةُ الرَّبِّ وَتَعْظِيمُهُ بِكُلِّ الْمُمْكِنِ فَرْضٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقِيَامَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ - تَعَالَى - بِبَدَنٍ طَاهِرٍ وَثَوْبٍ طَاهِرٍ عَلَى مَكَان طَاهِرٍ يَكُونُ أَبْلَغَ فِي التَّعْظِيمِ وَأَكْمَلَ فِي الْخِدْمَةِ مِنْ الْقِيَامِ بِبَدَنٍ نَجِسٍ وَثَوْبٍ نَجِسٍ وَعَلَى مَكَان نَجِسٍ، كَمَا فِي خِدْمَةِ الْمَمْلُوكِ فِي الشَّاهِدِ، وَكَذَلِكَ الْحَدَثُ وَالْجَنَابَةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَجَاسَةً مَرْئِيَّةً فَهِيَ نَجَاسَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ تُوجِبُ اسْتِقْذَارَ مَا حَلَّ بِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَافِحَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ رضي الله عنه امْتَنَعَ وَقَالَ: إنِّي جُنُبٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَانَ قِيَامُهُ مُخِلًّا بِالتَّعْظِيمِ ؟ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ نَجَاسَةٌ رَأْسًا فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ الدَّرَنِ وَالْوَسَخِ ; لِأَنَّهَا أَعْضَاءٌ بَادِيَةٌ عَادَةً فَيَتَّصِلُ بِهَا الدَّرَنُ وَالْوَسَخُ، فَيَجِبُ غَسْلُهَا تَطْهِيرًا لَهَا مِنْ الْوَسَخِ، وَالدَّرَنِ فَتَتَحَقَّقُ الزِّينَةُ وَالنَّظَافَةُ، فَيَكُونُ أَقْرَبَ إلَى التَّعْظِيمِ وَأَكْمَلَ فِي الْخِدْمَةِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُومَ بَيْنَ يَدَيْ الْمُلُوكِ لِلْخِدْمَةِ فِي الشَّاهِدِ أَنَّهُ يَتَكَلَّفُ لِلتَّنْظِيفِ وَالتَّزْيِينِ، وَيَلْبَسُ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ تَعْظِيمًا لِلْمَلِكِ. وَلِهَذَا كَانَ الْأَفْضَلُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَحْسَنِ ثِيَابِهِ وَأَنْظَفِهَا الَّتِي أَعَدَّهَا لِزِيَارَةِ الْعُظَمَاءِ، وَلِمَحَافِلِ النَّاسِ، وَكَانَتْ الصَّلَاةُ مُتَعَمِّمًا أَفْضَلَ مِنْ الصَّلَاةِ مَكْشُوفَ الرَّأْسِ، لِمَا أَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الِاحْتِرَامِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمْرٌ بِغَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ مِنْ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ تَذْكِيرًا لِتَطْهِيرِ الْبَاطِنِ مِنْ الْغِشِّ وَالْحَسَدِ وَالْكِبْرِ وَسُوءِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَآثِمِ، فَأَمَرَ لَا لِإِزَالَةِ الْحَدَثِ تَطْهِيرًا ; لِأَنَّ قِيَامَ الْحَدَثِ لَا يُنَافِي الْعِبَادَةَ وَالْخِدْمَةَ فِي الْجُمْلَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ ؟ وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - الَّذِي هُوَ رَأْسُ الْعِبَادَاتِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَدَثَ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ وَلَا سَبَبِ مَأْثَمٍ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي فِي بَاطِنِهِ أَسْبَابُ الْمَآثِمِ، فَأَمَرَ بِغَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ دَلَالَةً وَتَنْبِيهًا عَلَى تَطْهِيرِ الْبَاطِنِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَتَطْهِيرُ النَّفَسِ عَنْهَا وَاجِبٌ بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ وَجَبَ غَسْلُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ شُكْرًا لِنِعْمَةٍ وَرَاءَ النِّعْمَةِ الَّتِي وَجَبَتْ لَهَا الصَّلَاةُ، وَهِيَ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ وَسَائِلُ إلَى اسْتِيفَاءِ نِعَمٍ عَظِيمَةٍ، بَلْ بِهَا تُنَالُ جُلُّ نِعَمِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَالْيَدُ بِهَا يَتَنَاوَلُ وَيَقْبِضُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَالرِّجْلُ يَمْشِي بِهَا إلَى مَقَاصِدِهِ، وَالْوَجْهُ وَالرَّأْسُ مَحَلُّ الْحَوَاسِّ وَمَجْمَعُهَا الَّتِي بِهَا يُعْرَفُ عِظَمُ نِعَمِ اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ الْعَيْنِ وَالْأَنْفِ وَالْفَمِ وَالْأُذُنِ، الَّتِي بِهَا الْبَصَرُ وَالشَّمُّ وَالذَّوْقُ وَالسَّمْعُ، الَّتِي بِهَا يَكُونُ التَّلَذُّذُ وَالتَّشَهِّي وَالْوُصُولُ إلَى جَمِيعِ النِّعَمِ، فَأَمَرَ بِغَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ شُكْرًا لِمَا يُتَوَسَّلُ بِهَا إلَى هَذِهِ النِّعَمِ.
وَالرَّابِعُ: أَمَرَ بِغَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ تَكْفِيرًا لِمَا ارْتَكَبَ بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ مِنْ الْإِجْرَامِ، إذْ بِهَا يَرْتَكِبُ جُلَّ الْمَآثِمِ مِنْ أَخْذِ الْحَرَامِ، وَالْمَشْيِ إلَى الْحَرَامِ، وَالنَّظَرِ إلَى الْحَرَامِ، وَأَكْلِ الْحَرَامِ، وَسَمَاعِ الْحَرَامِ مِنْ اللَّغْوِ وَالْكَذِبِ، فَأَمَرَ بِغَسْلِهَا تَكْفِيرًا لِهَذِهِ الذُّنُوبِ. وَقَدْ وَرَدَتْ الْأَخْبَارُ بِكَوْنِ الْوُضُوءِ تَكْفِيرًا لِلْمَآثِمِ فَكَانَتْ مُؤَيِّدَةً لِمَا قُلْنَا.
وأما قول الأخ: العبادة الوحيدة التي اشترط فيها الله الطهارة فهذه مسألة محل خلاف بين العلماء، أعني هل هناك عبادات أخرى تشترط لها لطهارة أم لا؟
فمن أهل العلم من يرى اشتراط الطهارة لصحة الطواف، ومنهم من يوجب الطهارة لمس المصحف.
والله أعلم.