الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فاعلم أن الخشوع الحقيقي هو خشوع أهل الإيمان المستمسكين بالحق عن بينة وبصيرة، وهذا الخشوع هو الخشوع الذي أثنى الله تعالى في كتابه على أصحابه، ويمكن تحصيله بوسائل قد سبق ذكرها بالفتوى رقم: 36116.
وأما ما قد يبدو على بعض أهل الباطل من خشوع؛ كما هو الحال في الرهبان وبعض طوائف أهل البدع فهو خشوع زائف، قال الشاطبي في كتابه "الاعتصام": والنفس إنما تنشط بما يوافق هواها لا بما يخالفه. وكل بدعة فللهوى فيها مدخل، لأنها راجعه إلى نظر مخترعها لا إلى نظر الشارع...قال بعض الصحابة: أشد الناس عبادة مفتون . واحتج بقوله عليه الصلاة والسلام: يحقر أحدكم صلاته في صلاته، وصيامه في صيامه.. إلى آخر الحديث. وهو متفق عليه. ويحقق ما قاله الواقع كما نقل في الأخبار عن الخوارج وغيرهم.
فالمبتدع يزيد في الاجتهاد لينال في الدنيا التعظيم والمال والجاه وغير ذلك من أصناف الشهوات، بل التعظيم على شهوات الدنيا، ألا ترى إلى انقطاع الرهبان في الصوامع والديارات عن جميع الملذوذات، ومقاساتهم في أصناف العبادات والكف عن الشهوات وهم مع ذلك خالدون في جهنم ؟! قال الله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً {الغاشية:2-4} وقال: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا {الكهف:103-104} .
وما ذاك إلا لخفة يجدونها في ذلك الالتزام، ونشاط يداخلهم يستسهلون به الصعب بسبب ما داخل النفس من الهوى، فاذا بدا للمبتدع ما هو عليه رآه محبوبا عنده لاستبعاده للشهوات وعمله من جملتها ورآه موافقا للدليل عنده، فما الذي يصده عن الاستمساك به والازدياد منه، وهو يرى أن أعماله أفضل من أعمال غيره، واعتقاداته أوفق وأعلى . وقد نقلنا كلام الشاطبي هذا مع طوله لفائدته.
وليعلم أن الشيطان ربما تسلط على أهل الحق ليثبطهم عن الطاعات، وربما تسلط على أهل الباطل فحثهم على باطلهم.
والله أعلم.