الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن تدبر القرآن لا شك في أهميته لقوله تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ {ص: 29}.
قال النووي رحمه الله: فإذا شرع في القراءة فليكن شأنه الخشوع والتدبر عند القراءة والدلائل عليه أكثر من أن تحصر، وأشهر وأظهر من أن تذكر، فهو المقصود المطلوب، وبه تنشرح الصدور، وتستنير القلوب، قال الله عز وجل: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ. وقال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ...
ولا شك أن الله تعالى قد يفتح لبعض المتدبرين فهمًا في القرآن لم يسبق إليه.
ففي الحديث: أن أبا جحيفة رضي الله عنه قال: قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: والذي خلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه، إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر. رواه البخاري.
وهذا يدل على مشروعية وأهمية إعمال الفكر في استخراج الفوائد القرآنية وتدبر ما فيه من الأمور، ولكن فائدة التدبر ومقصده الأساسي تفهم معاني القرآن ومقاصده الأساسية وزيادة الايمان بما فيه من الحقائق الكبرى كالإيمان بالله وبالآخرة، فيزداد العبد هدى وخشية من الله واستجابة لأوامره، فيوجل القلب عند تلاوة القرآن وسماع آياته، كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ {يونس:57}، وقال الله تعالى: إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. {الأنفال:2}.
وقال: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ {الزُّمر:23}، وقال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن بتأن وتأمل وتفاعل مع آياته، ففي صحيح مسلم عن حذيفة قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقرأها، ثم النساء فقرأها، ثم آل عمران فقرأها. يقرأ مترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ. وروى أبو داود والنسائي وغيرهما عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قمت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقام فقرأ سورة البقرة، لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ.
فعلى المسلم أن يجعل همه زيادة الإيمان والتأثر بالقرآن ولا يكون همه الاكتشافات المجردة عن الدليل، بل لا بد أن يتحرى موافقة الدلالة اللغوية لما اكتشفه، وأن لا يكون فيه ما يخالف الثابت من الوحي، فإن حمل القرآن على ما لم يدل عليه من القول على الله بغير علم، وإن من الذنوب العظيمة أن يقول المرء على الله ما لا علم له به. قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ {الأعراف: 33}
وهو من نزغات الشيطان التي يصطاد بها كثيرًا من أهل الخير، وقد قال الله تعالى: وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ {البقرة:168-169}.
ومسألة انتقال إبراهيم عليه السلام بقومه من كوكب للقمر ثم للشمس، أراد بها أن يبين لهم خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل، والحق أن إبراهيم عليه السلام كان مناظرًا لقومه مستدرجًا لهم في بيان ضلالهم، لا أنه كان مقتنعًا بما يقال في هذه المعبودات، بل إن يقينه وإيمانه بالله وتوحيده إياه كان كاملًا قبل هذه المناظرة كما يفيده قوله تعالى قبل هذه الآيات وليكون من الموقنين، ولقوله إخبارًا عن إبراهيم أنه قال لأبيه وقومه إني أراك وقومك في ضلال مبين.
قال ابن كثير في تفسيره:
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: كل مولود يولد على الفطرة، وفي صحيح مسلم: عن عياض بن حمار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله إني خلقت عبادي حنفاء، وقال الله في كتابه العزيز فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى، ومعناه على أحد القولين كقوله فِطْرَة اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا كما سيأتي بيانه. فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة، فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله أمة قانتاً لله حنيفاً، ولم يك من المشركين، ناظراً في هذا المقام، بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة والسجية المستقيمة، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب، وما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظراً لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظراً.
والله أعلم.