الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن ما ذكرناه من تقسيم التركة المذكورة صحيح وهو محل اتفاق بين أهل العلم؛ كما هو مبين بالأدلة الشرعية من نصوص الوحي ، وبالتالي فهو موافق للحقيقة الشرعية وللعقل الصحيح والفهم السليم والنقل الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا فإن قولك :هذا مغاير للحقيقة عقلا وفهما ونقلا .... قد جانبت فيه الصواب, ولا ندري أي حقيقة تقصد, أو أي فهم أو نقل تريد بعد الحقيقة الشرعية وفهم السلف الصالح والنقل الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولعل السائل الكريم أشكل عليه لفظ الآية الكريمة : فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ {النساء: 11 } وهو ما نبينه بعد ما ننقل ما ذكره أهل العلم عن أهمية علم المواريث وأنه يحتاج إلى الفهم العميق والمدارسة والقياس وبذل الجهد .. قال ابن العربي في الأحكام عند الحديث عن آية المواريث : -اعلموا علمكم الله- أن هذه الآية ركن من أركان الدين, وعمدة من عمد الأحكام, وأم من أمهات الفرائض، عظيمة القدر حتى أنها ثلث العلم ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : العلم ثلاث : آية محكمة ، أو سنة قائمة ، أو فريضة عادلة ..... وكان جل علماء الصحابة وعظم مناظراتهم ، لكن الناس ضيعوه وانصرفوا عنه.. ونقل مالك عن ابن مسعود : من لم يتعلم الفرائض والحج والطلاق فبم يفضل أهل البادية ؟ ثم قال: ولو لم يكن من فضل علم الفرائض والكلام عليها إلا أنها تبهت منكري القياس وتخزي مبطلي النظر في إلحاق النظير بالنظير، فإن عامة مسائلها مبنية على ذلك إذ النصوص لم تستوف فيها ولا أحاطت بنوازلها .
وأما الآية الكريمة فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ { النساء:11 } فقد بين أهل العلم هذا الإشكال الذي أشرت إليه في قوله تعالى :فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فقال بعضهم " فوق" صلة زائدة، ورده بعضهم, وقال آخرون غير ذلك. وبإمكانك أن ترجع إليه في كتب التفسير وخاصة تفسير ابن عاشور وغيره . كما بينوا نصيب البنتين الذي هو الثلثان وتوضحه آية أخرى وهي قول الله تعالى في الأخوات الشقيقات أو لأب : فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ { النساء : 176 } فألحقت البنتان بالأختين في الاشتراك في الثلثين ، وألحقت الأخوات إذا زدن على اثنتين بالبنات في الاشتراك في الثلثين ، فإن كان نصيب الأختين اللتين هما قرابة حاشية هو الثلثان فلأن يكون نصيب البنتين اللتين هما قرابة فرع الثلثين أولى ، ومن المعلوم أن قرابة الفرع أقوى من قرابة الحاشية . ولهذا قالوا :
فبالجهة التقديم ثم بقربه * وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا
قال ابن العربي : لو كان الله تعالى مبينا حال البنتين ببيانه لحال الواحدة وما فوق البنتين لكان ذلك قاطعا، ولكنه سبحانه وتعالى ساق الأمر مساق الإشكال لتتبين درجة العالِمين وترتفع منزلة المجتهدين في أي المرتبتين في إلحاق البنتين أحق ..... ثم بين رحمه الله تعالى أن إلحاقهما بما فوق الاثنتين واضح من ستة أوجه ذكرها الواحد تلو الآخر مع دليله ... وبإمكانك الرجوع إليها في أحكام القرآن لأن المقام لا يتسع لذكرها هنا .
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قول الله تعالى : فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً يعني بنات : فَوْقَ اثْنَتَيْنِ يعني أكثر من اثنتين أو كن اثنتين ليس معهما ذكر : فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ أي الميت، والبقية للعصبة . نقلا عن الدر المنثور.
وقال ابن كثير في التفسير : واستفيد كون الثلثين للبنتين من حكم الأختين في الآية الأخيرة يعني آية النساء فإنه تعالى حكم فيها للأختين بالثلثين ، وإذا ورثت الأختان الثلثين فلإن ترث البنتان الثلثين بالطريق الأولى ، وقد تقدم حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم لابنتي سعد بالثلثين فدل الكتاب والسنة على ذلك ، وقال ابن عطية : أجمع الناس في الأمصار والأعصار على أن للبنتين الثلثين وهذا الاجماع مسند إلى السنة .
ولعلنا بهذا البيان وهذه الفتوى الموثقة عن أهل العلم نكون قد وضحنا لك تلك الاشكالات أو الاعتراضات الواردة في السؤال . نسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياك العلم النافع والفقه في الدين.
والله أعلم .