الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فهذا الحديث بنصه أخرجه البيهقي في سننه وله روايات أخرى عن أبي داود وغيره، ومقتضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلالاً بن الحارث أرضاً طويلة عريضة وفي رواية عند البزار أنه أقطعه المعادن القبلية جلسيها وغوريها، وعند الطبراني أنه أقطعه العقيق، قال الألباني رحمه الله في إرواء الغليل: وبالجملة فالحديث بمجموع طرقه ثابت، ومهما يكن من أمر فقد كان ما أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم لبلال بن الحارث كثيراً جداً وكان ذلك بغرض استصلاحه وإحيائه، لأنه يدخل في عمارة المدينة، فلما كان عهد عمر رضي الله عنه وجد أن بلالاً بن الحارث عجز عن إحياء الأرض كلها، فقال له: خذ ما تستطيع إحياءه واترك الباقي ندفعه لمن ينتفع به، وعند ابن خزيمة في صحيحه: فلما كان عمر رضي الله عنه قال لبلال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك لتحجزه عن الناس لم يقطعك إلا لتعمل. ففهم عمر هذا الفهم وهو مقتضى المصلحة فكان اجتهاداً منه وافقه عليه الصحابة ولم يعلم له منهم مخالف، فكان ذلك إجماعاً سكوتياً منهم، ولا تعارض بين الاجتهاد والإجماع، فالمجتهد يجتهد في المسألة ويحكم فيها فإذا وافقه باقي المجتهدين عليها وأقروا حكمه أو لم يعلم له منهم مخالف كان ذلك إجماعاً على ما ذكرنا في الفتوى رقم: 28730، والفتوى رقم: 62408.
قال ابن قدامة في المغني: فصل: ولا ينبغي أن يقطع الإمام أحداً من الموات إلا ما يمكنه إحياؤه لأن في إقطاعه أكثر من ذلك تضييقاً على الناس في حق مشترك بينهم بما لا فائدة فيه، فإن فعل ثم تبين عجزه عن إحيائه استرجعه منه كما استرجع عمر من بلال بن الحارث ما عجز عنه من عمارته من العقيق الذي أقطعه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومثل تلك القصة قصة أبيض بن حمال لما استقطع النبي صلى الله عليه وسلم الملح بمأرب فأقطعه إياه فقيل له إنما أقطعته الماء العد، فقال صلى الله عليه وسلم: لا إذن فرده. قال ابن قدامة في المغني: لأن فيه ضرراً بالمسلمين وتضييقاً عليهم، ولأن هذا تتعلق به مصالح المسلمين العامة فلم يجز إحياؤه ولا إقطاعه كمشارع الماء وطرقات المسلمين، قال ابن عقيل: هذا من مواد الله الكريم وفيض جوده الذي لا غناء عنه فلو ملكه أحد بالاحتجاز ملك منعه فضاق على الناس. وقصة أبيض بن حمال أخرجها أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم.
والله أعلم.