الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- من علماء المسلمين، وأئمة أهل السنة والجماعة، وقد اشتهر بالعلم، والديانة، والاستقامة، ولا نزكيه على الله.
وقد قاوم البدع، وحارب التقليد، والجمود، الذي انتشر وساد المسلمين في عصره، في القرن السابع الهجري وأوائل القرن الثامن، وتصدى للرد على الفلاسفة، والرافضة، والباطنية، والصوفية المنحرفة، والمتكلمين المبطلين، وتصدى للمقلدة المتعصبين لشيوخهم، المعرضين عن الدليل الواضح من الكتاب، والسنة.
بل حمل سيفه مجاهدًا في سبيل الله في وجه التتر الغازين، ووحّد صفوف المسلمين لذلك الغرض، وخاض المعركة بنفسه.
وهو في كل ذلك عازف عن الدنيا، زاهد فيها، لم يكتنز مالًا، ولا بنى دارًا، ولم يتخذ عقارًا، إلا ابتغاء وجه الله.
وإمام هذا شأنه، لا شكّ أن يكثر أعداؤه، وحساده، لا سيما وأن شيخ الإسلام لم يداهن أحدًا في قول الحق، بل صدع به حيث كان، وفي وجه من كان؛ ولذلك كثرت ابتلاءاته، ومحنه، فلا يخلص من محنة، إلا ودخل في أخرى؛ حتى لقي ربه وهو مبتلى مسجون مظلوم.
ولقد كان هو، وتلاميذه من جهابذة أئمة المسلمين، الذين خدموا الأمة، وأفادوها في كل فرع من فروع الشريعة، كالذهبي، وابن كثير، والمزي، وابن عبد الهادي، وابن القيم، وغيرهم.
ولهذا قام حسّاده يتعقبون أقواله، وفتاويه، لعلهم يظفرون له بخطيئة، وليس هو بمعصوم، لكنهم إذا وجدوا خطأً ضخموه، وزادوا عليه؛ حتى كفروه بذلك افتراءً، وزورًا.
هذا وقد أثنى على شيخ الإسلام ابن تيمية علماء الأمة من كل المذاهب، إلا من كان بينه وبينه نفرة بسبب اعتراض، قال فيه الذهبي الشافعي في معجم شيوخه: .. وهو أكبر من أن ينبه على سيرته مثلي، فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت أني ما رأيت مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه. وقال أيضًا في علمه بالسنة: يصدق أن يقال: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية، فليس بحديث.
وقال الحافظ المزي الشافعي فيه: ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله، وسنة رسوله، ولا أتبع لهما منه.
وقال ابن دقيق العيد الشافعي فيه: لما اجتمعت بابن تيمية، رأيت رجلًا كل العلوم بين عينيه، يأخذ ما يريد، ويدع ما يريده.
وقال فيه ابن عبد الهادي الحنبلي: وكان -رحمه الله- سيفًا مسلولًا على المخالفين، وشجىً في حلوق أهل الأهواء المبتدعين، وإمامًا قائمًا ببيان الحق، ونصرة الدين، وكان بحرًا لا تكدّره الدلاء، وحبرًا يقتدي به الأخيار الأولياء، طنت بذكره الأمصار، وضنت بمثله الأعصار. انتهى.
وقال ابن كثير، وقد أثنى عليه كثيرًا: وأثنى عليه، وعلى علومه، وفضائله، جماعة من علماء عصره، مثل: القاضي الخوبي، وابن دقيق، وابن النحاس، والقاضي الحنفي قاضي قضاة مصر ابن الحريري، وابن الزملكاني، وغيرهم...
وقال فيه الحافظ ابن سيد الناس: فألفيته كاد يستوعب السنن والآثار حفظًا، إن تكلم في التفسير، فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه، فهو مدرك غايته، أو ذاكر بالحديث، فهو صاحب علمه، وروايته، أو حاضر بالنحل والملل، لم ير أوسع من نحلته في ذلك، ولا أرفع من رايته، برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه مثل نفسه.
وقال فيه الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي في تقريظه لكتاب: "الرد الوافر" لابن ناصر الدين الدمشقي: وشهرة إمامة الشيخ تقي الدين، أشهر من الشمس، وتلقيبه بشيخ الإسلام في عصره باق إلى الآن على الألسنة الزكية، ويستمر غدًا كما كان بالأمس، ولا ينكر ذلك، إلا من جهل مقداره، أو تجنب الإنصاف، فما أغلط من تعاطى ذلك، وأكثر عثاره... ومع ذلك، فكلهم معترف بسعة علمه، وكثرة ورعه، وزهده، ووصفه بالسخاء، والشجاعة، وغير ذلك من قيامه في نصر الإسلام، والدعوة إلى الله في السر والعلانية...
وقال الحافظ السيوطي -كما في طبقات الحفاظ-: ابن تيمية الشيخ الإمام العلامة الحافظ الناقد، الفقيه، المجتهد، المفسر شيخ الإسلام، علم الزهاد، نادرة العصر، تقي الدين أبو العباس... كان من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين، والزهاد، والأفراد...
وقال الملا علي قارئ في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" في كتاب اللباس، ردًّا على من طعن في ابن تيمية، وابن القيم، وأنهما من أهل التجسيم والتشبيه: صانهما الله عن هذه السمة الشنيعة، والنسبة الفظيعة، ومن طالع شرح منازل السائرين... تبين له أنهما كانا من أهل السنة والجماعة، بل ومن أولياء هذه الأمة... وهذا الكلام من شيخ الإسلام، يبين مرتبته من السنة، ومقداره في العلم، وأنه برئ مما رماه أعداؤه الجهمية من التشبيه، والتمثيل، على عادتهم في رمي أهل الحديث والسنة بذلك.
وغير هؤلاء كثير من العلماء إلى يومنا هذا، وهم يثنون على شيخ الإسلام ابن تيمية، ويسطرون مآثره، وعلمه، ومناقبه -فرحمه الله رحمة واسعة-.
والله اعلم.