الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقبل الرد على تساؤلاتك ، نريد أولاً أن نزيدك معرفة بدارون وبنظريته المعروفة بنظرية النشوء والارتقاء ، أو بنظرية الانتخاب الطبيعي ، ولك أن تراجع فيها وفيما قيل عنها فتوانا رقم : 4755 .
وفيما يتعلق بموضوع سؤالك ، فإنا لا نريد أن نخوض معك في موضوع الفلسفة المادية ، وما تقوله عن أفعالنا ، وأنها تعتمد على عقولنا التي بدورها تعود إلى عوامل لا نختارها ، كالمورثات التي تخطط للأعصاب قبل الولادة ، وكالبيئة والتربية ... إلى غير ذلك مما بينته في سؤالك .
واعلم وفقنا الله وإياك لسماع الخير وتقبله ، أن جدلية اختيار الإنسان لأفعاله أو جبره عليها ، ومدى ارتباط ذلك بالعدل الإلهي هو من المواضيع التي أكثر الناس في نقاشها والبحث فيها ، وحقيقة الأمر أن أي حدث في هذا الكون هو بإرادة الله وقضائه ، ومع ذلك فالله تعالى يعاقب العباد على ما فرط منهم من المعاصي عدلاً منه ، ويثيبهم على ما قدموه من الإحسان تفضلا منه وكرما . وتفسير ذلك هو أن جميع ما يقوم به الإنسان من أفعال هو تنفيذ لأوامر كونية قدرية سبق تحديدها ، وليس بإمكانه أن يغير شيئاً منها ، وهو من جهة ثانية قد أعطي العقل والحواس التي يميز بها بين النافع والضار ، وأعطى القوة لتنفيذ ما يريد ، ولم يكرهه أحد على انتهاج هذا المسلك أو ذاك ، فهو بذلك مخير ، فالتسيير المحض هو أن يهم المرء بفعل فلا يجد الوسيلة لفعله ، والتخيير المحض هو أن يقوم بأفعاله من غير أن تكون محددة سلفاً ،
ثم تصورك أن تكون للناس قدرة على الاختيار تعود لعالم الغيب . وسؤالك عما إذا كانت تلك الروح ، فجوابه أن الأمور الغيبية ليست مجالاً للاجتهاد ، وأن الروح هي من الأمور التي استأثر الله تعالى بعلمها ، ولم يطلع عليها أحداً من أنبيائه ، ولا أذن لهم بالبحث عن حقيقتها فضلاً عن غيرهم ، حيث قال سبحانه : وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي {الإسراء: 85 }
وننصحك أيها الأخ الكريم بأن لا تتعب نفسك بهذه الماديات والفلسفات ، فإن الطريق واضح وليس يحتاج إلى شيء مما ذكرته . وننصحك أيضاً بأن تبتعد عمن ذكرت أنك تعمل معهم ، وعن أؤلئك الرفقاء الذين ذكرت من أمرهم ما ذكرت ، فالمحافظة على الدين أولى وأهم من أي شيء آخر . ولله در الشاعر حيث قال :
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه فما فاته منها فليس بطائل .
والله أعلم .