لحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد تقدم في الفتوى رقم: 2979، أنه لا يحل للحائض ولا الجنب أن يمكثا في المسجد ولو بقصد التعلم والتعليم، وفي الفتوى دليل على ذلك، إضافة إلى ما رواه ابن ماجه عن أم سلمة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم صرحة هذا المسجد فنادى بأعلى صوته إن المسجد لا يحل لحائض ولا لجنب. قال الشوكاني في نيل الأوطار بعد أن ناقش حجة من ادعى ضعف هذا الحديث: قال ابن سيد الناس: ولعمري إن التحسين لأقل مراتب رواته، ووجود الشواهد له من خارج. قال: والحديثان (يعني هذا الحديث وحديث لا أحل المسجد للحائض ولا جنب الذي رواه أبو داود) يدلان على عدم حل اللبث في المسجد للجنب والحائض وهو مذهب الأكثر. انتهى.
وما ذكر السائل عن البعض بأنه أجاز للجنب دخول المسجد مطلقاً مقدم عليه ما ذهب إليه أكثر أهل العلم في عدم حل مكث الجنب والحائض في المسجد، مستدلين بالنصوص الصريحة في منع ذلك، هذا ولم يذكر في حديث أبي هريرة الذي أورده السائل أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقده في المسجد، وإنما الوارد أنه لقيه في الطريق وهاب أبو هريرة مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ملاقاته وهو جنب، فأخبره صلى الله عليه وسلم أن المؤمن لا ينجس، أي أنه لا داعي لاختبائه عنه.
وكذا ما ذكره عن ابن عباس من قوله: لا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب.. إلخ، لا دليل فيه على جواز لبث الحائض والجنب في المسجد، بل إن هذا قول ابن عباس ومن وافقه في تفسير آية النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ {النساء:43}، وفسرها غير هؤلاء بتفسير آخر، ولتوضيح هذا راجع تفسير القرطبي وتفسير الشوكاني عند تفسير هذه الآية.
ثم إنه لا يصح قياس مسألة الحائض والجنب على مسألة الكافر لأنه قياس مع وجود النص، فالجنب والحائض منصوص على منعهما من اللبث في المسجد إلا في حالة الاجتياز أو في حال ما إذا كان الجنب لا يجد ماء أو كان مريضاً فيتيمم ويدخل المسجد، كما سبق توضيحه في الفتوى رقم: 13359، والفتوى رقم: 22059.
وكذلك لو دعت ضرورة ملحة إلى دخولهما المسجد لغير ما ذكرنا مثل الخوف من الهلاك أو نحو ذلك، فلا يمنع دخولهما لأن الضرورات تبيح المحظورات، أما حضور مجالس العلم فليس مثل هذه الضرورات، ولأن فترة الحيض قليلة بالنسبة لفترة الطهر، وكذلك الجنب.
أما المشرك ففي جواز دخوله المسجد خلاف وتفصيل لأهل العلم مبين في الفتوى رقم: 4041، ولا نسلم أن للحائض والجنب أن يستظلا في داخل المسجد ولا أن يناما فيه من باب أولى لمنعهما من المكث فيه على قول الأكثر؛ كما سبق.
وإذا كان الجنب والحائض لا يفوتهما من الدورس إلا ما يفوتهما في هذه الفترة ويحضرانها فيما عداها فلن يفوتهما كثير، ولا يعتبر منع الحائض من اللبث في المسجد كسرا لخاطرها ولا كبحا لهمتها، لأن كل مؤمنة تعلم أن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم ولا غضاضة فيه، مع أن لها أن تحضر كل الندوات وكل المحاضرات في غير المسجد، ولها أن تقرأ القرآن على قول مالك ورواية عن الشافعي والإمام أحمد، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 33792.
ولاتقاس الحائض على المستحاضة لأن الأخيرة في حكم الطاهرات تدخل المسجد لأجل الصلاة وغيرها لكن تتحفظ من تلويثه، أما الحائض فليست كذلك فهي ممنوعة من الصلاة وبالتالي فلا تدخل المسجد ولو أمن تلويثه من قبلها، وانظر الفتوى رقم: 58687.
ثم إن الحائض لا تمنع من شهود العيدين، بل هي مأمورة بحضورهما مع اجتناب المصلى، وفي هذا دليل على ما ذهب إليه الأكثر، وحديث: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله. لا تدخل فيه الحيض للنهي عن دخولهن المسجد.
والله أعلم.