الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالحمد الله الذي من عليك بالتوبة قبل الممات، والحمد الله الذي بصرك بعيوب نفسك، فقد تكون الذنوب سبباً في التوبة والندم، فيدخل الإنسان بسبب ذلك الجنة وينال الدرجات العلى. ولكن ظهر لنا من رسالتك أشياء تستحق التعليق عليها، ومن ذلك أنك استبطأت إجابة الله لدعائك، وقد حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك، فقال: يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ـ مالم يستعجل. قيل: يا رسول الله وما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت وقد دعوت، فلم أر يُستجب لي، فيستحسر ويدع الدعاء. رواه مسلم. وانظري الفتوى رقم: 2395وكذلك فإن الفرج الذي تنتظرينه قد يأتيك من الله وقد لا يأتيك لحكمة يعلمها الله تعالى، ومن ذلك أن يدخر الله تعالى لك تلك الدعوة في وقت أحوج ما تكونين إليه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها. قالوا: إذن نكثر، قال: " الله أكثر!!". بل قد يكون ما يظنه الإنسان خيراً، يكون شراً له في نفس الأمر إذا أدى لنسيانه مولاه أو غفلته عنه، فينشغل بالنعمة عن المنعم، وقد قال تعالى: وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ !!{الاسراء: 11}. كذلك قد ظهر في رسالتك أنك تقارنين نفسك بمن هو دونك في العبادة أو أكثر منك في المعصية، وهذا من الخطأ، إذ إنه ربما أدى بك إلى العجب والكبر، وإنما ينبغي أن تقارني نفسك بمن هو أكثر منك طاعة وأقل معصية. واعلمي أنك إنما تتقربين له سبحانه وتتذلين لعظمته وكبريائه لتحققي عبوديتك له وليرضى بك أمة من إمائه، وإلا فهو غني عنك وعن عبادتك ـ فاحذري أن تمني عليه بعملك أو تُدلي عليه بعبادتك! ثم هل تيقنت أن الله قبل منك من عبادتك ولو ركعتين، فقد روى ابن أبي حاتم بإسناده عن أبي الدرداء أنه قال: لأن أستيقن أن الله قد تقبل لي صلاة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها، إن الله يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ{المائدة: 27}.كذلك يجب عليك أن تعلمي أن الله لا يُسأل عما يفعل، فإذا رأيت الله سبحانه قد أنعم على غيرك بما حرمك منه فلا تعترضي، فإن الملك ملكه، والعبد عبده يرزق من يشاء بغير حساب، قال تعالى مخبراً عن نفسه: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ {الانبياء:23}. ولكن يجب على العبد أنه إذا أُعطي أن يشكر وإذا منع أن يصبر، واعلمي أن كثيراً ممن ظاهرهم منعمون هم في الحقيقة مستدرجون بنعم الله وهم لا يشعرون، ولأن يبقى الإنسان خائفا حتى يدركه الأمن عند الممات خير من أن يأمن حتى يدركه الخوف. وأما قولك: إنك تحسين أنك لا تقوين على تحمل الألم، فهذا قول من لم تر أهل البلاء، فأنت ـ والله ـ في عافية إذا راقبت المبتلين من حولك ممن فقدوا صحتهم أو بعض أعضائهم أو عقولهم أو عائلهم الوحيد، وإن أعظم الناس بلاء هم الذين استلب إيمانهم ونقص في الله يقينهم. وأما قولك: " كأن الله يتربص بأخطائي"، فهذا لا يليق أن يقال على الله جل في علاه، وهو قول من لا يعرف قدره سبحانه، فإنه جل وتعالى يفرح بتوبة العبد، ولا يريد أن يعذبه، قال تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ{النساء: 27}. وأخيراً اعلمي أن ما أنت فيه من الحزن والهم إنما هو بسبب فراغ القلب وتعلقه بالدنيا، وإنك لو جعلت شغلك الشاغل وهمك المقعد المقيم هو فكاك نفسك من النار ونجاتها يوم القيامة ـ لما وجد الحزن على الدنيا إلى قلبك سبيلاً، قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ {آل عمران: 185}. وقد قال صلى الله عليه وسلم: من جعل الهم هماً واحداً كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبته الهموم لم يبال الله في أي أودية الدنيا هلك. فعلاج الهم هو الإعراض عن الدنيا والإقبال على الله، واليقين بأن الرزق بيده سبحانه، وما على الإنسان إلا أن يأخذ بالأسباب، ويكل ما عدا ذلك إلى مدبر الكون. فإن فعل المؤمن ذلك ثم أصابه شيء من الهم ـ فهو رفعة في درجاته وحط من سيئاته ، قال صلى الله عليه وسلم: ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا سقم ولا حزن ، حتى الهم يهمه ـ إلا كفر به من سيئاته. رواه مسلم. فليكن أنسك بالله، واستغني به عما سواه، وراجعي الفتاوى التالية: 57084،26806،17591،25308 ، 16790 ، 13393.