الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فمن طلق امرأة ثلاثاً بلفظ واحد، كأن قال لها: أنت طالق ثلاثاً، أو أنت طالق طالق طالق، ولم يرد التأكيد؛ فقد عصى الله ورسوله، وأثم بهذا.
قال تعالى: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [البقرة: 229]. وقال صاحب فتح القدير: أَيِ: الطَّلَاقُ الَّذِي تَثْبُتُ فِيهِ الرَّجْعَةُ لِلْأَزْوَاجِ هُوَ مَرَّتَانِ، أَيِ: الطَّلْقَةُ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ، إِذْ لَا رَجْعَةَ بَعْدَ الثَّالِثَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: مَرَّتانِ وَلَمْ يَقُلْ طَلْقَتَانِ إشارة إلى أن يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، لَا طَلْقَتَانِ دَفْعَةً وَاحِدَةً. انتهى.
وعن محمود بن لبيد -رضي الله عنه- قال: أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً، فقام غضبان ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله؟ رواه النسائي.
وهذا الطلاق يسمى طلاقاً بدعياً لمخالفته السنة من جهة العدد، إذ البدعة تدخل الطلاق من جهة العدد ومن جهة الزمن، فالطلاق زمن الحيض أو في طهر جامعها فيه يعد طلاقاً بدعياً. وكذا من جمع الثلاث في لفظ واحد.
وقد اختلف أهل العلم فيمن أوقع الطلقات الثلاث دفعة واحدة: هل تلزمه الطلقات الثلاث، فلا تحل له زوجته إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره وتعتد منه، أم أنها تكون طلقة واحدة له إرجاعها ما دامت في عدتها، وبعد انتهاء العدة يعقد عليها ولو لم تنكح زوجاً غيره؟. اختلفوا في ذلك مع اتفاقهم على أنه يأثم بذلك لمخالفته السنة.
فذهب جمهور أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة وجمهور الصحابة والتابعين إلى وقوع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة إذا قال: "أنت طلاق ثلاثاً أو بالثلاثة" واستدلوا بحديث ركانة بن عبد الله: أنه طلق امرأته البتة" فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال له: والله ما أردت إلا واحدة. رواه أحمد وأبو داود.
ووجه الدلالة من الحديث استحلافه -صلى الله عليه وسلم- للمطلق أنه لم يرد بالبتة إلا واحدة. فدل على أنه لو أراد بها أكثر لوقع ما أراده.
واستدلوا كذلك بما رواه البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً، فتزوجت، فطلقت، فسئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتحل للأول؟ قال: لا. حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول. فلو لم تقع الثلاث لم يمنع رجوعها للأول.
واستدلوا كذلك بعمل الصحابة -رضي الله عنهم-، ومنهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على إيقاع الثلاث بكلمة واحدة ثلاثاً، كما نطق بها المطلق.
وذهب جماعة من أهل العلم على أن موقع الطلاق ثلاثاً بكلمة واحدة تحسب طلقة واحدة. وممن قال به شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وغيرهما.
واستدلوا بما رواه مسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان الطلاق على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأبى بكر، وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم.
وأما طلاق الحائض فهل يقع؟ قال ابن قدامة: فإن طلق للبدعة وهو أن يطلقها حائضاً، أو في طهر أصابها فيه أثم ووقع طلاقه في قول عامة أهل العلم، قال ابن المنذر وابن عبد البر: لم يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال. انتهى.
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى عدم وقوعه، والراجح: قول جمهور عامة أهل العلم، ولأن ابن عمر لما طلق زوجته وهي حائض، وأمره النبي بمراجعتها قد عدت منه طلقة، كما قال أهل العلم، ولما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن أنس بن سيرين قال: قلت لابن عمر احتسب بها قال: فقال: فمه. يعني التطليقة. وقد أخذت كثير من المحاكم بقول شيخ الإسلام ابن تيمية، فمن أراد الرجوع إليها فله ذلك.
ثم نتوجه إليك بالنصيحة فنقول: إنه ليس كل خلاف بين الزوجين يكون حله بالطلاق، بل التفاهم والتروي، فهما أساس حل كل مشكلة فعظ زوجتك إن رأيت منها قصوراً، فإن امتثلت للحق والرشد وإلا فاهجرها، ولا تهجر إلا في المضجع فتنامان في موضع واحد توليها ظهرك ولا تجامعها، فإن رشدت وأذعنت للحق فبها، وإلا فاضربها ضرباً غير مبرح، فإن رشدت، وإلا فالجأ إلى التحكيم بإرسال حكم من أهلك وحكم من أهلها، فإن أردتما الإصلاح وفق الله بينكما قال تعالى: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا، وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا [النساء: 34، 35]. ولا تتسرع في الطلاق فتندم بعد ذلك وتشرد أسرتك وأولادك.
وأما الطلاق أثناء الغضب، فإن كنت لا تدري مما قلت شيئًا، وأغلق على عقلك بسببه، ولم تع ما تقول؛ فلا يعتبر هذا الطلاق، لقوله صلى الله عليه وسلم: لا طلاق ولا عتاق في إغلاق. رواه ابن ماجه والحاكم. ولكن هذه حال نادرة الوقوع.
وأما إذا كنت غضبان، ولكن هذا الغضب لم يغيب وعيك، فإن ما تتلفظ به تحاسب عليه ويقع منك.
والله أعلم