الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن السلف الصالح كانوا يعظمون كتاب الله ويؤمنون بأنه كلام الله المعجز الذي لا يشبهه شيء من كلام البشر، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق، وكانوا يتلونه حق تلاوته، ويقيمون حروفه، ويتدبرون آياته، ويعتبرون بمواعظه، ويتفكرون في عجائبه، ويعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويتعمقون في معانيه وفي علومه، ويبحثون في عمومه وخصوصه وناسخه ومنسوخه، ويظهرون مواضع الإعجاز فيه، ويدعون إليه ويذبون عنه تحريف الغاليين وطعن الملحدين، وكانوا لا يقدمون عليه شيئاً من قياس أو استحسان أو ذوق أو ما شابه، وكانوا يقفون عند تلاوته لطلب معاني ما أحب مولاهم أن يفهموه عنه أو يقوموا به له بعد ما يفهمونه، ومما يبين ذلك ما أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن. وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا إذا علموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل فتعلمنا القرآن والعمل جميعا.
فقراءة السلف للقرآن كانت وسيلة لفهمه وتدبره والفقه فيه والعمل به.
قال الحسن البصري: نزل القرآن ليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً.
وكان من هديهم أنهم كانوا يهتمون بفهم القرآن وتدبره اهتماماً يفوق اهتمامهم بكثرة التلاوة وسرعتها بلا تدبر اتباعاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فكان صلى الله عليه وسلم يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها وقام بآية حتى الصباح. وفي صحيح البخاري عن قتادة قال: سألت أنساً عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان يمد مدًا. وعن أبي جمرة قال قلت لابن عباس: إني رجل سريع القراءة وربما قرأت القرآن في ليلة مرة أو مرتين، فقال ابن عباس: لأن أقرأ سورة واحدة أعجب إلي من أن أفعل ذلك الذي تفعل، فإن كنت فاعلا فاقرأ قراءة تسمع أذنيك ويعيها قلبك. اهـ.
والله أعلم.