الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد حرم الله تعالى كل مسكر، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: كل مسكر حرام. رواه البخاري وغيره، وفي رواية لمسلم: كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام.
وهذه القاعدة من أعظم قواعد الشرع في تحديد حكم المسكر، فكل ما اتصف بأنه مسكر يأخذ حكم الخمر في الحرمة، وفي وجوب الحد، وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وجمع من العلماء، قال في مجموع الفتاوى: وقد توقف بعض الفقهاء في الجلد لأنه ظن أنها مزيلة للعقل غير مسكرة كالبنج ونحوه، مما يغطي العقل من غير سكر، فإن جميع ذلك حرام باتفاق المسلمين: إن كان مسكراً ففيه جلد الخمر، وإن لم يكن مسكراً ففيه التعزير بما دون ذلك، ومن اعتقد حل ذلك كفر وقتل. انتهى.
وقال: وقاعدة الشريعة أن ما تشتهيه النفوس من المحرمات كالخمر والزنا ففيه الحد، وما لا تشتهيه كالميتة ففيه التعزير، والحشيشة مما يشتهيها آكلوها ويمتنعون عن تركها. انتهى.
وما ذكره شيخ الإسلام هو الصواب الذي نعتقده ونفتي به، لأن منع التحريم أو الحد في بعض المسكرات نظراً لاختلاف هيئتها عن هيئة الخمر كأن تكون بخاراً أو غازاً أو جامداً، إنما هو تفريق بين المتماثلين في الحكم، والتفريق بين المتماثلين ممتنع عقلاً وشرعاً، إذ المتقرر عند الفقهاء أن النظير يُعطى حكم نظيره، والقاعدة أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
فإذا ثبت أن مادة ما تدخل السكر على العقل، وجب الحكم بحرمتها وإقامة الحد على من يتعاطاها مع اشتهائه لها، سواء كان ذلك عن طريق الشم أو الشرب أم الحقن أو غيره، لأن العبرة في الأمور بمآلاتها، والخلاف الوارد بين الفقهاء في وجوب الحد في بعض مفسدات العقل ليس خلافاً في وجوب الحد في تناول المسكر في ذاته، بل هو خلاف في اعتبار هذا الشيء المتناول من المسكرات أم من غير المسكرات، ولعل حقيقة قولهم تتضح بما سننقل عنهم.
قال ابن عابدين في رد المحتار وهو حنفي: كامتشاط المرأة بها -يعني الخمر- ليزيد بريق شعرها، أو الاكتحال بها أو إقطارها في إحليل، إلا أنه لا يُحد في هذه المواضع لعدم الشرب. انتهى.
وقد أشار القرافي في الفروق إلى ذلك فقال: تنفرد المسكرات عن المرقدات والمفسدات بثلاثة أحكام الحد والتنجيس وتحريم اليسير، والمفسدات والمرقدات لاحد فيها ولا نجاسة، فمن صلى بالبنج معه أو الأفيون لم تبطل صلاته إجماعاً. انتهى.
وقال النووي في المنهاج: ويُحد بدردي خمر (ما يترسب في قاع الإناء) لا بخبز عجن دقيقه بها ومعجون هي فيه وكذا حقنة وسعوط في الأصح.
وفي حاشية قليوبي وعميرة: لأن الحد للزجر ولا حاجة فيهما إلى زجر، والثاني يُحد بهما للطرب بهما كالشرب والثالث يُحد في السعوط دون الحقنة. انتهى.
وقال ابن قدامة في المغني وهو حنبلي: وإن احتقن بالخمر لم يُحد، لأنه ليس بشرب أو أكل، ولأنه لم يصل إلى حلقه، فأشبه ما لو داوى به جُرحه، وإن استعط به فعليه الحد، لأنه أوصله إلى باطنه من حلقه، ولذلك نشر الحرمة في الرضاع دون الحقنة، وحُكي عن أحمد أن على من احتقن به الحد، لأنه أوصله إلى جوفه، والأول أولى لما ذكرناه. انتهى.
وبهذا يتبين أن المتطاير من الغراء وغيره من روائح إن كانت مسكرة فهي حرام، وفي وجوب الحد الخلاف الذي ذكرناه، والراجح هو ما صدرنا به الجواب من وجوب الحد.
والله أعلم.