الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن مما ابتلي به المسلمون هذه الأيام انتشار ظاهرة تصوير النساء عبر الجوال ثم إعادة بث الصور من خلال الكمبيوتر والإنترنت لتقع صورهن في أيدي الشباب العابث، وغير خاف أن التصوير بالكاميرا (الفوتوغرافي) مختلف في حكمه، فمن العلماء من قال بتحريمه لدخوله في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون. وثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه لعن المصورين، ومن العلماء من أجاز هذا النوع من التصوير بشروط، وهؤلاء لا يجيزون بحال تصوير النساء لما فيه من كشف عوراتهن وما يفضي إليه من الفساد.
ولم يخالف أحد من علماء المسلمين في تحريم الاطلاع على عورات الغير، سواء بالنظر المباشر أو من ثقب الباب أو الشباك أو الزجاج أو نحو ذلك، فالحكم في مسألة تصوير النساء بواسطة كاميرا الجوال أو أي كاميرا أخرى خلسة سواء كُنَّ في الشارع أو في السوق أو في صالة الأفراح، أو كن في سيارة أو على شاطىء أو منتزه أو غيره، كحكم من نظر من خلال الباب أو الكوَّة في الدار، بل إن المصيبة في التصوير بواسطة كاميرا الجوال أعظم وأشد ضرراً، لأن هذا المصور أو هذه المصورة تأخذ الصورة أو يأخذها هذا الشاب فيدخلها إلى جهاز الكمبيوتر، ثم ينشرها عن طريق الإنترنت، فبدلاً من أن يراها واحد سوف يراها الملايين من الناس، فأصبح هذا أو هذه ممن يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ولا شك أن هذا منكر عظيم وكبيرة من الكبائر، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ {النور:19}.
وإن مما يؤسف له أن شبكة الإنترنت قد استغلت في هذا المجال أيما استغلال، واتخذت وكراً خصباً للتعاملات الساقطة، إذ لم تقتصر على تداول صور ومناظر الفحش والعهر من منتحلي الفواحش من الكفار والكافرات، ولكن يتم بث صور المسلمات العفيفات الغافلات، وربما أدخلت عليها عمليات الدبلجة بتركيب الصور على أجساد عارية، وهذا من أعظم البغي وأكبر العدوان وأشد البهتان، ولسوف يدرك الفاعل لذلك شناعة جرمه يوم يجازيه الله على هذا الاعتداء والبغي.
ومن أسباب تحريم تصوير النساء بالطريقة السالفة الذكر، أنه يؤدي إلى إيجاد المشكلات الأسرية، وذلك أن ذوي المرأة التي تنتشر صورتها لا بد أن تأخذهم الغيرة وتحركهم الحمية بسبب هذا التصوير، فإن كانت متزوجة فالغالب أنها تصبح محل تهمة وشك لدى زوجها، وربما أدى إلى طلاقها، وإن كانت غير متزوجة فربما أدت تلك الصور بأهل المرأة إلى الاعتداء على موليّتهم بالضرب وغيره، وقد يؤدي بها ذلك لأن يعزف عنها الخطاب لسوء سمعتها، فتتعطل عن الزواج وينشأ عن ذلك غيره من المشكلات، وهذا كله منشؤه التساهل بهذا المنكر.
ومن أسباب تحريم هذا التصوير أيضاً أنه يشتمل على أذية المؤمنين والمؤمنات، فإن من تم تصويرها بما يظهر عورتها أو يهتك عرضها، لا ريب أنه من أشد الأذية لها، وقد قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا {الأحزاب:58}، وهذا عام في كل ما كان من أذية المؤمنين والمؤمنات.
وقد ثبت في جامع الترمذي وغيره عن نافع عن ابن عمر قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فنادى بصوت رفيع، فقال: يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيِّروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله.
قال نافع: ونظر ابن عمر يوماً إلى البيت أو إلى الكعبة، فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك.
ولا ريب أنه لا أشد على النفوس الكريمة من أن تؤذى في أعراضها، فالأذية حاصلة للمسلمات وحاصلة أيضاً لأهليهن، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ضرر ولا ضرار.
هذا؛ وإن التصوير بكاميرا الجوال بالطريقة السالفة الذكر فيها من الاستطالة على أعراض المسلمين والبغي ما الله به عليم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من ذنب أحرى أن يعجل الله تبارك وتعالى العقوبة لصاحبه في الدنيا، مع ما يدخر له في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم. رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي.
والمسلم الحق لا يرضى للناس من الأذية والفضيحة ما يأباه لنفسه، فقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه. والله أعلم.