الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد رخص الإسلام للمسافر سفرا مباحا أن يقصر الصلاة الرباعية ابتداء من مفارقته لعامر قريته. ويشترط في المسافة التي يشرع أن تقصر فيها الصلاة أن لا تقل عن أربعة برد، وهي ما يعادل ثلاثة وثمانين كيلو مترا، تقريبا، وإذا عزم المسافر على الإقامة في بلد أربعة أيامٍ فما فوق انقطع حكم سفره، وعليه أن يتم الصلاة، هذا هو الراجح من أقوال أهل العلم في هذه المسألة، وانظرالفتوى رقم: 6215. كما اختلف العلماء أيضا في المسافر إذا أقام في بلد لحاجة متى قضاها رحل، وهو في هذا لم ينو إقامة، بل يقول اليوم أخرج غدا أخرج ففيه ثلاثة أقوال للعلماء: الأول أن له القصر، ولو أقام سنين، وهذا مذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة، قال في الهداية: ولو دخل مصرا على عزم أن يخرج غدا أو بعد غد ولم ينو مدة الإقامة حتى بقي على ذلك سنين قصر. وفي مختصر الخرقي: وإن قال اليوم أخرج، وغدا أخرج، قصر وإن أقام شهرا. ونقل في مواهب الجليل عن ابن الحاجب: إن لم ينو أربعة قصر في غير وطنه أبدا، ثم قال: وبه أقول وشاهدت شيخنا يفتي به غير مرة. وحكى ابن المنذر رحمه الله على هذا القول الإجماع، فقال كما قال ابن قدامة في المغني: أجمع أهل العلم أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة، وإن أتى عليه سنون. الثاني: أن له القصر إلى ثمانية عشر يوما وهو الأصح عند الشافعية، قال النووي في المجموع : أما إذا أقام في بلد لانتظار حاجة يتوقعها قبل أربعة أيام فقد ذكرنا أن الأصح عندنا أن يقصر إلى ثمانية عشر يوما. الثالث: أنه يتم وهو رواية عن اللخمي عن مالك وفيها ـ أي رواية اللخمي ـ من قدم بلد البيع يتجر شاكا في قدر مقامه أتم. كذا في مواهب الجليل. والقول الأول هو الصحيح الراجح الذي يدل عليه عمل السلف، وقد ذكر ابن قدامة رحمه الله في المغني عن مورق قال: سألت ابن عمر، قلت: إني رجل تاجر، آتي الأهواز، فأنتقل في قراها من قرية إلى قرية، فأقيم الشهر وأكثر من ذلك. قال تنوي الإقامة؟ قلت: لا، قال: لا أراك إلا مسافرا، صل صلاة المسافرين. رواه الأثرم. وعن نافع قال: أقام ابن عمر بأذر بيجان ستة أشهر يصلي ركعتين، وقد حال الثلج بينه وبين الدخول. وعن حفص بن عبد الله أن أنس بن مالك أقام بالشام سنتين يصلي صلاة المسافر وقال أنس أقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم برامهرمز سبعة أشهر يقصرون الصلاة ... إلى آخر كلام ابن قدامة رحمه الله قال الكاساني في البدائع في ترجيح هذا القول، ولنا إجماع السلف، انتهى. ومما تقدم تعلم أن للمسافر القصر، مالم ينو إقامة مدة تزيد على ثلاثة أيام. وأما الأثران اللذان ذكرتهما فالأول منهما رواه عبد الرزاق والطبراني في الكبير وإبراهيم عن ابن مسعود قال: من صلى في السفر أربعا أعاد الصلاة. وسنده منقطع كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد ( وإبراهيم لم يسمع من ابن مسعود) وإن صح فلعل هذا أحد أقواله في المسألة، أو يقصد أنه يعيد استحبابا لإنه كان يرى القصر أفضل، ومع ذلك كان يصلي خلف عثمان بن عفان فلما قيل له في ذلك قال: الخلاف شر. ونقل عنه النووي في المجموع أنه ممن يرى جواز الإتمام وكذا عثمان بن عفان وإنما أتم الصلاة لأسباب ذكرها الحافظ في الفتح ورد بعضها لبعده أو لكونه مخالفا لما هو أصح منه، ومن تلك التأويلات: أن عثمان كان يرى القصر مختصا بمن كان شاخصا سائرا، وأما من أقام في مكان أثناء السفر فله حكم المقيم فيتم. ومنها: أن عثمان كان يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصر لأنه أخذ بالأيسر على أمته، وأخذ عثمان بالشدة. وهذا التأويل صححه ابن بطال كما يقول الحافظ، ورجحه جماعة منهم القرطبي. ومنها: أن عثمان صلى بمنى أربعا لأن الأعراب كثروا في ذلك العام، فأحب أن يعلمهم أن الصلاة أربع. قال الحافظ: روى البيهقي من طريق عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن عثمان أنه أتم بمنى ثم خطب فقال: إن القصر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ولكنه حدث طغام، يعني بفتح الطاء والمعجمة ـ فخفت أن يستنوا، وعن ابن جريج أن أعرابيا ناداه في منى يا أمير المؤمنين ما زلت أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين، وهذه طرق يقوي بعضها بعضا. انتهى. وبناء على ما تقدم، فإن إتمام عثمان للصلاة له ما يسوغه، والأثر الثاني رواه مسلم عن علي بن زيد قال سمعت أبا نضرة قال: مر على مسجدنا عمران بن حصين فقمت إليه فأخذت بلجامه فسألته عن الصلاة في السفر، فقال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج فكان يصلي ركعتين حتى ذهب، وأبو بكر ركعتين حتى ذهب، وعمر ركعتين حتى ذهب، وعثمان ست سنين أو ثمان ثم أتم الصلاة بمنى أربعا. وهذان الأثران من جملة الأدلة الواردة في مسألة مشهورة مختلف فيها بين الفقهاء وهي: هل يجب القصر في السفر أم يندب. وقد ذهب الأكثر إلى عدم الوجوب وهو الراجح جمعا بين الأدلة وذهب بعضهم إلى الوجوب وأوجبوا على من أتم إعادتها. وأخيرا ننبه السائل إلى خطأ وقع في كلامه وهو قوله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بمنى ثمان سنوات صلاة السفر والصحيح أنه صلى فيها سنة واحدة كما هو معلوم وإنما عثمان رضي الله عنه كان يقصر في أول خلافته ست أو ثمان سنين ثم أتم كما هو مبين في الحديث الآنف الذكر.
والله أعلم .