الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا حرج عليك في بيع البيت لقضاء الدين، ما دمت قادرًا على استئجار آخر، ولن تضيِّع من تعول. ولكن لا يلزمك ذلك طالما أن الغرماء لم يطالبوا به، ولم يرفعوا الأمر للقاضي للحجر عليك وبيع ممتلكاتك. وراجع في ذلك الفتوى: 460582.
وهنا ننبه إلى أمور:
الأول: أن المدين المعسر يجب تأجيله إلى الميسرة، كما يستحب التصدق عليه بدينه، أو التنازل له عن شيء منه؛ كما قال تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {البقرة:280} وانظر للفائدة الفتويين: 34990، 158771.
والثاني: أنه إذا حُجِر على المفلس، وبيع ماله لقضاء دينه، فإنه يترك له دار سكناه التي لا غنى له عنها، كما يترك له ثوبه وقوته، على الراجح من قولي أهل العلم.
قال ابن قدامة في المغني: لا تُبَاعُ دَارُه التي لا غِنًى له عن سُكْنَاهَا. وبهذا قال أبو حنيفةَ وإسحاقُ. وقال شُرَيْحٌ، ومالِكٌ، والشَّافِعِيُّ: تُبَاعُ، ويَكْتَرِي له بَدَلَها. واخْتَارَهُ ابنُ المُنْذِرِ؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال في الذي أُصِيبَ في ثِمَارٍ ابْتَاعَها، فكَثُرَ دَيْنُه، فقال لِغُرَمَائِه: "خُذُوا ما وَجَدْتُمْ". وهذا مما وَجَدُوهُ، ولأنَّه عَيْنُ مالِ المُفْلِسِ، فوَجَبَ صَرْفُه في دَيْنِه، كسَائِرِ مَالِه. ولَنا، أنَّ هذا ممَّا لا غِنًى لِلْمُفْلِسِ عنه، فلم يُصْرَفْ في دَيْنِه، كثِيَابِه وقُوتِه، والحَدِيثُ قَضِيَّةٌ في عَيْنٍ، ويَحْتَمِلُ أنَّه لم يكن له عَقَارٌ، ولا خَادِمٌ، ويَحْتَمِلُ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ" ممَّا تُصُدِّقَ به عليه، فإنَّ المَذْكُورَ قبلَ ذلك.
كذلك رُوِيَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ". فتَصَدَّقُوا عليه، فلم يَبْلُغْ ذلك وَفَاءَ دَيْنِه، فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ". أي ممَّا تُصُدِّقَ به عليه، والظَّاهِرُ أنَّه لم يُتَصَدَّقْ عليه بِدَارٍ وهو مُحْتَاجٌ إلى سُكْنَاهَا، ولا خَادِمٍ وهو مُحْتَاجٌ إلى خِدْمَتِه، ولأنَّ الحَدِيثَ مَخْصُوصٌ بِثِيَابِ المُفْلِسِ وقُوتِه، فنَقِيسُ عليه مَحلَّ النِّزَاعِ، وقِيَاسُهم مُنْتَقِضٌ بذلك أيضًا، وبَأَجْرِ المَسْكَنِ، وسَائِر مَالِه يَسْتَغْنِي عنه، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. اهـ.
والثالث: أن المدين إذا مات، ولم يكن في تركته ما يقضى به دينه، فإن ماله يباع ويقسم بين غرمائه إذا لم يتنازلوا عن حقهم؛ لأن قضاء الدين مقدم على حق الورثة بالإجماع، لقوله تعالى في قسم التركة: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء: 11].
والرابع: أن من اقترض ونِيَّتُهُ أن يؤدِّيَ دَيْنَه، ثم عجز عن أدائه دون تفريط منه، فلا تَبِعة عليه في الآخرة -إن شاء الله تعالى-، فلا يؤخذ من حسناته لصاحب الدين، بل يتكفل الله عنه لصاحب الدين، ويرضه عنه من فضله، كما سبق بيانه في الفتوى: 414490، وما أحيل عليه فيها.
والله أعلم.