الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا يخفى أن الاقتراض بالربا محرَّم من حيث الأصل، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {آل عمران: 130}. وفي صحيح مسلم عن جابر قال: لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه. وقال: هم سواء.
لكن من كان مضطرًا، فيجوز له الاقتراض بالربا، بقدر ما تندفع به ضرورته، فالضرورات تبيح المحظورات. قال تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ {الأنعام: 119}.
وضابط الضرورة كما جاء في المنثور للزركشي: بلوغه حدًّا إن لم يتناول الممنوع هلك، أو قارب، كالمضطر للأكل واللبس، بحيث لو بقي جائعًا، أو عريانًا، لمات، أو تلف منه عضو، وهذا يبيح تناول المحرم. والحاجة: كالجائع الذي لو لم يجد ما يأكل لم يهلك، غير أنه يكون في جهد ومشقة، وهذا لا يبيح المحرم. اهـ.
وقال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى: وكل ما جوز للحاجة لا للضرورة -كتحلي النساء بالذهب والحرير، والتداوي بالذهب والحرير-، فإنما أبيح لكمال الانتفاع؛ لا لأجل الضرورة التي تبيح الميتة ونحوها، وإنما الحاجة في هذا تكميل الانتفاع، فإن المنفعة الناقصة يحصل معها عوز يدعوها إلى كمالها، فهذه هي الحاجة في مثل هذا، وأما الضرورة التي يحصل بعدها حصول موت، أو مرض، أو العجز عن الواجبات -كالضرورة المعتبرة في أكل الميتة-، فتلك الضرورة المعتبرة في أكل الميتة لا تعتبر في مثل هذا. اهـ.
والعمليات الجراحية التي يترتب على تركها فقدُ العضو، وذهاب منفعته، ونحو ذلك؛ تعتبر ضرورة تسوغ الاقتراض بالربا.
وأما مجرد قضاء الديون: فليس بضرورة، إلا إن كان عدم قضائها يؤدي إلى ضرر بليغ؛ كالسجن مثلًا.
وما دامت أختك مضطرة: فيسوغ لك الاقتراض بالربا لدفع ضرورتها، فإن للمسلم على المسلم حقًّا، وهو في باب دفع الضرورة بمنزلة نفسه، فكيف بالقريب ذي الرحم؟
ولذلك نص الفقهاء على وجوب ترك المسلم للفرض، أو فعله للحرام، لاستنقاذ مسلم آخر.
فمن الأول: إفطار الصائم.
قال ابن مفلح في الفروع: من وجد آدميًّا معصومًا في مهلكة -كغريق، ونحوه-، ففي فتاوى ابن الزاغوني: يلزمه إنقاذه، ولو أفطر. اهـ.
وقال العز ابن عبد السلام في قواعد الأحكام: لو رأى الصائم في رمضان غريقًا لا يتمكن من إنقاذه إلا بالفطر، أو رأى مصولًا عليه لا يمكن تخليصه إلا بالتقوي بالفطر، فإنه يفطر، وينقذه. اهـ.
ومن الثاني: الحلف بالله كذبًا، فيجب ذلك إذا كان لأجل إنجاء مسلم من هلكة.
قال ابن قدامة في المغني: الأيمان تنقسم خمسة أقسام؛ أحدها: واجب، وهي التي ينجي بها إنسانا معصومًا من هلكة، كما روي عن سويد بن حنظلة، قال: خرجنا نريد النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا، وحلفت أنا أنه أخي، فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: صدقت، المسلم أخو المسلم. رواه أبو داود، والنسائي، فهذا ومثله واجب، لأن إنجاء المعصوم واجب، وقد تعيَّن في اليمين، فيجب. اهـ.
والله أعلم.