الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإذا كنتم قادرين على السداد وماطلتم هذا الرجل في سداد دينه حتى اضطر إلى استيفاء حقه بهذه الطريقة فهو معذور فيما فعل، وعليكم أن توفوه حقه، قال صلى الله عليه وسلم: مطل الغني ظلم.. متفق عليه. وقال صلى عليه وسلم: ليُّ الواجد يحل عقوبته وعرضه. رواه النسائي وأبو داود وابن ماجه وغيرهم. وليس لكم في هذه الحالة أن تحلفوه.
أما إذا كنتم لم تماطلوه في سداد دينه فلا يجوز له ما فعل، وهو في هذه الحالة غاصب للسيارة طوال المدة التي أبقاها عنده بعد التسعة أيام التي اتفقت معه عليها، ويجوز لكم أن تحلفوه أنه ما عمل بالسيارة، لأن حبسه للسيارة هذه المدة الطويلة -وقد كان بإمكانه أن يفي بما حلف عليه ويبيع السيارة ويستوفي دينه من ثمنها- مما تقوى به التهمة في حقه.
قال ابن عاصم في تحفة الحكام:
وتهمة إن قويت بها تجب يمين متهوم وليس تنقلب
قال ميارة في شرحه: أخبر أن يمين التهمة تجب إن قويت التهمة، ولا تجب مع ضعفها، وإذا وجبت فلا تنقلب على المدعي، لأن فرض المسألة أنه لم يحقق الدعوى على المدعى عليه، فلا يكلف بالحلف على ما لم يتحققه (فقد) سئل ابن رشد عن يمين التهمة؟ فقال: أما يمين التهمة وهي الدعوى التي لم تحقق على المدعى عليه فقد اختلف في لحوقها ابتداء، واختلف إذا لحقت على القول بأنها تلحق هل ترجع أم لا؟ والظاهر في القياس أن لا تجب اليمين إلا بتحقيق الدعوى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: البينة على المدعي واليمين على من أنكر. وإيجابها استحسان، والأظهر إذا وجبت على القول بأنها تجب أن يحق الحق على المدعى عليه بالنكول دون أن ترجع اليمين على المدعي، إذ لا يكلف أن يحلف على ما لا يعرف، والذي أختاره في هذا أن تلحق يمين التهمة إذا قويت، وتسقط إذا ضعفت، ولا ترجع إذا لحقت. (قال الشارح): معتمد الشيخ رحمه الله في هذا البيت هو ما اختاره ابن رشد في يمين التهمة.
وحاصل هذا أن لكم تحليفه، وعليه، فإن نكل عن الحلف رفع الأمر للقضاء ليقدر لهذه السيارة أجرة المثل، وتخصم هذه الأجرة المقدرة من مبلغ الدين الذي له، ويعطى الباقي إن كان هناك باق.
وننبه هنا إلى أنه لا يحتاج في هذه المسألة لاستحلافه لأن مذهب جمهور الفقهاء أن الغاصب يضمن منافع المغصوب بأجرة المثل، ولو لم ينتفع به، فمن غصب شيئا من غيره له منفعة كسكنى الدار وركوب الدابة، وكذا كل ما له أجرة بالعادة فإنه يضمن منفعة المغصوب بالفوات وهو عدم الانتفاع بالمغصوب، وبالتفويت، أي بالانتفاع به، وهذا القول هو الراجح، لأن المنفعة مال متقوم فيضمن بالغصب كسائر الأموال، قال ابن عبد السلام في قواعد الأحكام: وأما المنافع فضربان: ...الضرب الثاني: أن تكون المنفعة مباحة متقومة فتجبر في العقود الفاسدة والصحيحة والفوات تحت الأيدي المبطلة والتفويت بالانتفاع، لأن الشرع قد قومها ونزلها منزلة الأموال فلا فرق بين جبرها بالعقود وجبرها بالتفويت والإتلاف، لأن المنافع هي الغرض الأظهر من جميع الأموال، فمن غصب قرية أو دارا قيمتها في كل سنة ألف درهم وبقيت في يده سبعين سنة ينتفع بها منافع تساوي أضعاف قيمتها ولم تلزمه قيمتها -أي قيمة هذه المنافع- لكان ذلك بعيدا من العدل والإنصاف الذي لم ترد شريعة بمثله ولا بما يقاربه..
ولمزيد حول هذا راجع كتاب الخلافات المالية للدكتور سعدي حسين علي جبر، ص 513- 514.
والله أعلم.