الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فصاحبك هذا مخطئ فيما يقول لك، ويأمرك به، وقد أباح الله الأكل من الطيبات، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ {البقرة: 172}.
وقال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ {الأعراف: 31}.
والنبي صلوات الله عليه -وهو خير أسوة- أكل من الطيبات، وكان لا يرد موجودا، ولا يطلب مفقودا. فكان يأكل اللحم إذا وجده، ويأكل الحلوى، ويأكل غير ذلك من الطيبات، كما صحت به سنته، وليست الزهادة بالتقلل من الطيبات، بل على المسلم أن يأكل ما ينفعه، وأن يشكر الله على نعمه، ويحمده على ما آتاه من فضله.
قال ابن القيم في بيان هديه صلى الله عليه وسلم في الطعام: وَكَذَلِكَ كَانَ هَدْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسِيرَتُهُ فِي الطَّعَامِ لَا يَرُدُّ مَوْجُودًا، وَلَا يَتَكَلَّفُ مَفْقُودًا، فَمَا قُرِّبَ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الطَّيِّبَاتِ إِلَّا أَكَلَهُ، إِلَّا أَنْ تَعَافَهُ نَفْسُهُ فَيَتْرُكَهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ: وَمَا عَابَ طَعَامًا قَطُّ، إِنِ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ ـ كَمَا تَرَكَ أَكْلَ الضَّبِّ لَمَّا لَمْ يَعْتَدْهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهُ عَلَى الْأُمَّةِ، بَلْ أُكِلَ عَلَى مَائِدَتِهِ وَهُوَ يَنْظُرُ، وَأَكَلَ الْحَلْوَى، وَالْعَسَلَ، وَكَانَ يُحِبُّهُمَا، وَأَكَلَ لَحْمَ الْجَزُورِ، وَالضَّأْنِ، وَالدَّجَاجِ، وَلَحْمَ الْحُبَارَى، وَلَحْمَ حِمَارِ الْوَحْشِ، وَالْأَرْنَبِ، وَطَعَامَ الْبَحْرِ، وَأَكَلَ الشِّوَاءَ، وَأَكَلَ الرُّطَبَ وَالتَّمْرَ، وَشَرِبَ اللَّبَنَ خَالِصًا وَمَشُوبًا، وَالسَّوِيقَ، وَالْعَسَلَ بِالْمَاءِ، وَشَرِبَ نَقِيعَ التَّمْرِ، وَأَكَلَ الْخَزِيرَةَ -وَهِيَ حِسَاءٌ يُتَّخَذُ مِنَ اللَّبَنِ وَالدَّقِيقِ- وَأَكَلَ الْقِثَّاءَ بِالرُّطَبِ، وَأَكَلَ الْأَقِطَ، وَأَكَلَ التَّمْرَ بِالْخُبْزِ، وَأَكَلَ الْخُبْزَ بِالْخَلِّ، وَأَكَلَ الثَّرِيدَ -وَهُوَ الْخُبْزُ بِاللَّحْمِ- وَأَكَلَ الْخُبْزَ بِالْإِهَالَةِ -وَهِيَ الْوَدَكُ- وَهُوَ الشَّحْمُ الْمُذَابُ، وَأَكَلَ مِنَ الْكَبِدِ الْمَشْوِيَّةِ، وَأَكَلَ الْقَدِيدَ، وَأَكَلَ الدُّبَّاءَ الْمَطْبُوخَةَ وَكَانَ يُحِبُّهَا، وَأَكَلَ الْمَسْلُوقَةَ، وَأَكَلَ الثَّرِيدَ بِالسَّمْنِ، وَأَكَلَ الْجُبْنَ، وَأَكَلَ الْخُبْزَ بِالزَّيْتِ، وَأَكَلَ الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ، وَأَكَلَ التَّمْرَ بِالزُّبْدِ وَكَانَ يُحِبُّهُ، وَلَمْ يَكُنْ يَرُدُّ طَيِّبًا وَلَا يَتَكَلَّفُهُ، بَلْ كَانَ هَدْيُهُ أَكْلَ مَا تَيَسَّرَ، فإن أعوزه صبر. انتهى.
وربما كان التقلل من المطعم والمشرب مذموما إذا كان بحيث يقعد عن العبادة، ويحول بين الإنسان وبين الخير الذي اعتاده.
قال ابن الجوزي رحمه الله: وقد قال أحمد بن حنبل: أكره التقلل من الطعام، فإن أقوامًا فعلوه، فعجزوا عن الفرائض.
وهذا صحيح، فإن المتقلل لا يزال يتقلل إلى أن يعجز عن النوافل، ثم الفرائض، ثم يعجز عن مباشرة أهله وإعفافهم، وعن بذل القوى في الكسب لهم، وعن فعل خير قد كان يفعله. انتهى.
وله في هذا المعنى من الإنكار على المتزهدة الذين ظنوا الزهادة في التقلل من المطعم والمشرب كلام كثير طويل ضمن كتابه صيد الخاطر، فانظره -إن شئت- والحاصل أن لك أن تأكل ما شئت، وتشرب ما شئت، ما لم تصل إلى حد السرف، وأن عليك أن تشكر الله على ما أنعم عليك.
والله أعلم.