الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالاتفاق مع الكنيسة على استصلاح تلك المقبرة بإخراج العظام البالية منها وجعلها في مكان آخر، وجعل المقبرة خاصة بالمسلمين، لا يشاركهم فيها غيرهم هذا لا حرج فيه، فقد استصلح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأرض التي بنى عليها مسجده، إذ كان فيه قبور للمشركين، وأشياء أخرى، فنبش تلك القبور، واستصلح الأرض.
ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك في قصة قدوم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وبناء المسجد النبوي في أرض لبني النجار، قال أنس: فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ: كَانَتْ فِيهِ قُبُورُ المُشْرِكِينَ، وَكَانَتْ فِيهِ خِرَبٌ، وَكَانَ فِيهِ نَخْلٌ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُبُورِ المُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، وَبِالخِرَبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، قَالَ: " فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ المَسْجِدِ، قَالَ: وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ حِجَارَةً.. إلخ.
قال الحافظ في الفتح: وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمَمْلُوكَةِ بِالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ، وَجَوَازُ نَبْشِ الْقُبُورِ الدَّارِسَةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ مُحْتَرَمَةً، وَجَوَازُ الصَّلَاةِ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ نَبْشِهَا وَإِخْرَاجِ مَا فِيهَا. اهــ.
وفي الإنصاف للمرداوي الحنبلي: متى عُلِمَ أنَّ المَيِّتَ صارَ تُرابًا، قال في «الفُروعِ»: ومُرادُهم ظُنَّ أنَّه صارَ تُرابًا، ولهذا ذكَر غيرُ واحدٍ، يعْمَلُ بقوْلِ أهْلِ الخِبْرَةِ، فالصَّحيحُ مِنَ المذهبِ، أنَّه يجوزُ دَفْنُ غيرِه فيه. قال أبو المَعالِى: جازَ الدَّفْنُ، والزِّراعَةُ، وغيرُ ذلك. اهــ.
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: لَوْ جُعِلَتْ مَقْبَرَةُ الْكُفَّارِ الْمُنْدَرِسَةُ مَقْبَرَةً لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ نَقْل عِظَامِهَا إِنْ كَانَتْ جَازَ، كَجَعْلِهَا مَسْجِدًا؛ لِعَدَمِ احْتِرَامِهِمْ. وَالدَّفْنُ فِي غَيْرِ مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ الْمُنْدَرِسَةِ أَوْلَى إِنْ أَمْكَنَ، تَبَاعُدًا عَنْ مَوَاضِعِ الْعَذَابِ. اهــ.
وأما لو كان المقصود بالاستصلاح مسح ظاهر قبورهم مع بقاء عظامهم فيها، ودفن المسلمين بجانبهم؛ فهذا لا يجوز؛ لأنها في الحقيقة مقبرة لهم، ما دامت عظامهم فيها، ودفن المسلم في مقبرة الكفار لا يجوز في غير ضرورة.
جاء في الموسوعة الفقهية: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ دَفْنُ مُسْلِمٍ فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ، وَعَكْسُهُ، إِلاَّ لِضَرُورَةٍ. اهــ.
والله أعلم.